"ملك اليوم هي كل ما تمنيت أن أكون عليه منذ طفولتي"؛ بهذه الكلمات تبدأ ملك الكاشف حديثها إلى رصيف22، فتحكي عن قصة نجاح حققتها على الرغم من صغر سنّها، وما واجهته من تحديات وصعوبات وانتهاكات وعنف: "حققت أمنيات وأحلاماً كثيرةً، مثل الوقوف أمام المرآة ورؤية نفسي بجسد امرأة، بينما كنت في صغري أقف بجسد فتى وأتخيل شكلي الأنثوي وأتمنى أن يكون حقيقياً، كما تمكنت من إثبات وجودي وفرض هويتي الجنندرية على الجميع".
وتتحدث بفخر عن تحقيق أمنية الدخول إلى عالم الكتابة ونشر المقالات: "بات صوتي مسموعاً وانتشرت قضيتي خارج مصر".
أصبحت ملك الكاشف عابرةً جندرياً تحمل في داخلها أكثر من تجربة وأكثر من حياة. امرأة شجاعة رسمت ملامحها وألوانها بيديها وبَنَت نفسها بنفسها.
كما قدّمت مساهمةً كبيرةً في مجال حقوق العابرين والعابرات وتعددية الجنس والجندر في مصر حتى قبل استلامها في 4 نيسان/ أبريل 2023، منصب المديرة التنفيذية لمؤسسة ترانسات التي تأسست عام 2017، لتكون "مرجعاً باللغة العربية في ما يخص قضايا العبور الجندري والتعددية الجندرية، ومن أبرز أهدافها مناصرة قضايا العابرات والعابرين وتمكينهنّ/ م ثقافياً ومعرفياً وبناء قدراتهنّ/ م ورفع الوعي حول قضاياهنّ/ م.
خرجت هذه الشابة من العالم الضيق والمحافظ الذي كان يحيط بها إلى فضاء أوسع أكثر إنسانيةً، وتحولت إلى رمز للشجاعة والمواجهة، فلم تقف عند حدود الأمنيات الشخصية، بل استمرت في الدفاع عن قضايا العابرين والعابرات من دون استسلام أو تراجع أو خوف.
ولم تتعب يوماً من مناصرة حقوق العابرين بمختلف الوسائل التي أُتيحت لها، على الرغم من مشقة رحلتها التي "كانت تستحق كل ما فعلته من أجلها"، بحسب قولها.
من هي ملك الكاشف؟
وُلدت ملك الكاشف عام 1999، وعاشت سنواتها السبع الأولى في مدينة أبها السعودية، التي تنام فيها الحياة مع غروب الشمس وتصمت تماماً عند الساعة السادسة مساءً.
كثرة الصدمات والألم الذي واجهته حفرت ثقوباً في ذاكرتها، فسقطت تفاصيل كثيرة من طفولتها. لكن ملك تؤكد أن انتقالها مع عائلتها إلى مصر عام 2007، من أهم محطات طفولتها.
أصبحت ملك الكاشف عابرةً جندرياً تحمل في داخلها أكثر من تجربة وأكثر من حياة. امرأة شجاعة رسمت ملامحها وألوانها بيديها وبَنَت نفسها بنفسها
كانت حينها في الثامنة من عمرها تقريباً حين بدأت بالتعرف إلى ما يحدث بين الجنسين، وبعد عام اكتشفت هويتها الجندرية وصارحت والدتها بالأمر.
تصف الكاشف ذلك اليوم بتفاصيله المؤلمة التي لا تستطيع نسيانها: "في أحد أيام العام 2008، صارحت والدتي بحقيقة شعوري بأنني فتاة في جسد فتى. فقالت لي: اذهبي إلى غرفتك، من دون أن تبدو عليها أي ملامح غدر تجاهي. لكن حين عاد والدي من العمل أخبرته بما جرى، فضربني كثيراً وبقسوة".
تؤكد ملك أن هذا المشهد رسخ في طفولتها: "كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا الوجه من والدي".
وعلى الرغم من قسوة هذه التجربة، إلا أنها لطالما عرفت جيداً كيف تحول معاناتها وألمها إلى فرص لتحقيق التغيير.
سلسلة لا تنتهي من الانتهاكات
إذا نظرنا إلى تفاصيل حياة ملك الكاشف، نجد أنها كانت سلسلةً لا تنتهي من الانتهاكات والمعاناة منذ طفولتها المبكرة، لكنها بقيت متمسكةً بالأمل والتحدي وواجهت قسوة عائلتها الصغيرة والممتدة، والمجتمع والمدينة التي كانت تسكن فيها.
فرضت عليها عائلتها عزلةً لا يمكن لطفلة احتمالها حتى قبل اكتشافها هويتها الجندرية وإعلانها. "كانوا/ كن يقولون/ ن إنني أتعامل بنعومة وأنوثة وصفاتي لا تليق برجل".
وتضيف: "كانوا/ كنّ يتجنبونني/ يتجنبنني، ولا يسمحون/ ن لأطفالهم/ نّ بالجلوس أو اللعب معي".
"شعرت بجبروتي وقوتي للمرة الأولى، وأصبحت أكثر جرأةً وحققت إنجازاً كبيراً حين بقيت حيةً وقويةً وسط كل الجنون الذي كان يحيط بي"
كما توضح الكاشف أن ردة فعل عائلتها لم تكن مؤلمةً بقدر الوجع الكبير الذي سببه لها المجتمع وأبناء/ بنات مدينتها: "اكتفت العائلة بنبذي وإقصائي لأبقى وحيدةً و(أسترجل) بحسب معتقداتهم/ نّ، بينما تعرضت لمختلف أنواع العنف والاستهداف من المجتمع".
عانت ملك من التنمر والاعتداءات والعنف بسبب شكلها غير النمطي، وباتت تخاف في كل مرة تفكر فيها في الخروج من المنزل، كما مرت على تلك الطفلة أيام لم تُرد خلالها الذهاب إلى المدرسة خوفاً من الضرب الذي كانت تتعرض له، وكانت تشعر دائماً بأنها محاصرة بين أشخاص كثر وجميعهم أقوى منها: "حتى اليوم لا أعرف كيف تمكّن عقلي من النجاة من هذا الكم من العنف، وكيف استطاع أن يتخذ مساحةً ليتواجد فيها".
حين بلغت الحادية عشرة من عمرها، بدأت عائلتها رحلة محاولة إعادة تشكيل هويتها بطرائق غير صحية، ففرضوا/ ن عليها الخضوع لجلسات علاج نفسي وأُرغمت مرتين على الدخول إلى مصحة نفسية على الرغم من صغر سنّها، لكنها على الرغم من ذلك لم تستسلم قط: "أنا عشت أكثر من مرة وبأشكال كثيرة، ومتّ كثيراً أيضاً".
تركت ملك منزل أهلها وعادت إليه أكثر من مرة منذ الثالثة عشرة من عمرها وحتى السادسة عشرة، ونامت في أحيان كثيرة في الشارع وهي مصابة بمرض الربو، ثم غادرت المنزل نهائياً وعاشت في سكن مشترك.
حينها بدأت الرحلة تصبح "مشوقةً ومثيرةً للاهتمام" بالنسبة إلى الكاشف: "شعرت بجبروتي وقوتي للمرة الأولى، وأصبحت أكثر جرأةً وحققت إنجازاً كبيراً حين بقيت حيةً وقويةً وسط كل الجنون الذي كان يحيط بي".
السجن... تجربة شديدة الخصوصية
وصفت ملك الكاشف تجربة السجن بأنها "كانت شديدة الخصوصية"، وتضيف: "على الرغم من أنني سُجنت 3 مرات، إلا أن الأخيرة كانت الأصعب والأطول".
أُوقفت ملك مرتين بسبب شكلها غير النمطي عامي 2014 و2017، وفي المرتين دخلت إلى حجز الرجال ووُضعت في حجز انفرادي، ثم خرجت بعد أيام.
أما بالنسبة إلى قضية العام 2019، فتؤكد أنها "اتسمت بالعنف منذ لحظة اعتقالي من منزل عائلتي يوم 6 آذار/ مارس، واحتجازي يومين معصوبة العينين في مقر الأمن الوطني الخاص بمكافحة الإرهاب وتهديدات الأمن القومي للبلد بسبب مشاركتي في وقفة احتجاجية رداً على حادثة قطار، تطالب بمحاسبة مسؤول المحطة وإقالة الوزير المختص، وتحقق مطلبنا لكن بعد القبض على المشاركين/ ات".
حين عُرضت على النيابة، حققت الأخيرة معها نحو سبع أو ثماني ساعات، واتهمتها بـ"مشاركة جماعة إرهابية في الأهداف وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتهديد السلم"، ودخلت إلى سجن الرجال الذي احتُجزت فيه 4 أشهر في زنزانة انفرادية.
وعن تلك التجربة، تقول ملك: "طوال فترة سجني لم أرَ الشمس، لم أخرج من زنزانتي، ولم يكن لدي من أتحدث إليه".
تتذكر تلك الفترة الصعبة وهي تبتسم، لأنها تعرف أنها كانت قويةً جداً في مواجهتها، وفرضت نفسها كامرأة داخل سجن الرجال. وعددت بفخر إنجازاتها داخل السجن، على الرغم من جميع الصعاب التي واجهتها: "لم أخضع لقوانين السجن منذ اليوم الأول حين أجبرتهم على عدم حلق شعري، الدليل الوحيد على هويتي. وكتبت إدارة السجن على زنزانتي: عبد الرحمن محمد – متحولة جنسياً، اسم الشهرة ملك الكاشف، فشعرت بالفخر وأعجبتني فكرة وضع الاسمين بشكلٍ رسمي مع بعضهما".
وفي أثناء التحقيق خاطبها وكيل النيابة باسم ملك، وليس عبد الرحمن، وكتب في ملفها أنها عابرة جندرياً: "أنا أعدّ هذا الأمر قصة نجاح كبيرةً بالنسبة لي، فأن أفرض عليهم هويتي والضمير الذي يجب مخاطبتي به إنجاز".
الخروج إلى الحرية... بين الأمل والتحديات المستمرة
انطلقت ملك إلى الحرية في 15 تموز/ يوليو 2019، وهي تحمل في داخلها عزماً أكبر على متابعة نضالها من أجل حقوق العابرين والعابرات، والمطالبة بأماكن احتجاز آمنة لهم/ نّ، لأنه يوجد فقط خياران أمامهم/ نّ؛ إما تُسجن النساء العابرات في سجون الرجال والرجال العابرون في سجون النساء، أو احتجازهم/ نّ في زنزانة انفرادية.
لم يعجبها هذا الظلم، فقررت تحدي النظام في محاولة لتغيير هذا الواقع، ورفعت دعوى قضائية على وزير الداخلية، بالتعاون مع المفوضية المصرية للحقوق والحريات، للمطالبة بتخصيص أماكن احتجاز آمنة للعابرين والعابرات، إلا أنها رُفضت نهائياً بعد نحو سنتين من الجلسات المتعبة والطويلة.
لكن لا شيء يحبط عزيمة هذه الشابة التي استمرت في تجاوز التحديات بإصرار، خصوصاً أنها لم تكن وحيدةً. وبابتسامة دافئة، تقول ملك إن "دعم عائلاتي البديلة من أصدقاء وصديقات كان أكثر ما ساعدني في رحلة التعافي".
وتضيف: "ساعدني أيضاً خضوعي لجلسات علاج مع أطباء/ طبيبات نفسيين/ ات منذ عام 2018 حتى اليوم، في تخطّي ألم التجربة، وتناولت بعض الأدوية التي ساهمت في تحسين حالتي، لكنها لم تكن عقبةً سهلةً".
وتقول: "مؤسسة ترانسات أنقذتني أيضاً، لا أعرف بعد تجربة السجن كيف كنت سأعيش لو لم تعطني الفرصة للانضمام إلى فريقها، فكانت طوق نجاة لي في أكثر الأوقات صعوبةً".
في لحظة تأمل، تتذكر الكاشف جائزة الشجاعة لمجتمع الميم-عين، التي حصلت عليها عام 2022 من حلفاء مثليي/ ات الجنس وثنائيي/ ات الجنس والعابرين/ ات جنسياً وجندرياً في جمعية الدراسات الدولية لمناسبة اليوم العالمي للعابرين والعابرات للظهور، الذي يصادف يوم 31 آذار/ مارس من كل عام، وتعدّها قصة نجاح لجميع الكويريين/ ات: "شعرت بأن قصتي ذهبت أبعد مما كنت أتمنى الوصول إليه، فأنا أسعى منذ طفولتي ليُسمع صوتي في بلدي، بينما أصبح اليوم عابراً للحدود".
"أنا أعدّ هذا الأمر قصة نجاح كبيرةً بالنسبة لي، فأن أفرض عليهم هويتي والضمير الذي يجب مخاطبتي به إنجاز"
بدأت ملك رحلة نضالها في سن صغيرة ووقفت في وجه التحديات والألم ولم تسمح لشيء بأن يكون عائقاً أمام تحقيق طموحاتها، بل كانت حافزاً لتعزيز قوتها الداخلية والنظر إلى المستقبل بعيون امرأة جريئة وقوية ومستقلة.
لذا، يصعب جداً اختصار جميع تفاصيل حياتها والانتهاكات التي تعرضت لها وقصص النجاح التي حققتها بقوتها على الرغم من مرارة الرحلة، فهي عرفت جيداً كيف تحول الألم والصعاب إلى فرصٍ للنجاح والتطور ونجحت في تحويل العنف والكره اللذين لطالما واجهتهما من الجميع إلى إرادة أكبر وقوة أكثر للمواجهة.
وتختم ملك الكاشف حديثها بالقول: "أنا سعيدة لأنني كنت من ضمن الجيل الذي بدأ بإحداث هذا الصداع للحكومات والضغط عليها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...