لم تكن زيارتي لمعتقلات فلسطينيات في سجن الدامون في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول كسابقاتها. لم تكن أي من الزيارات الأخرى التي قمت بها للسجون الإسرائيلية تُشبهها بشيء. كانت المرة الأولى التي تفتح السجون أبوابها بعد أن أغلقت، منذ إعلان حالة الحرب، أمام الزوار ، سواء كانوا محامين أو ممثلي الصليب الأحمر أو الأهل، الذين باتوا لا يعرفون ماذا يحدث مع أحبتهم وتحت أية ظروف يعيشون، وقد منعت عنهم المكالمات أيضاً.
كنت قدّمتُ طلباً لزيارة معتقلات في سجن الدامون على سفوح جبل الكرمل قرب مدينتي حيفا. وقد ارتفع عددهن من 28 معتقلة قبل السابع من أكتوبر 2023، إلى 50 معتقلة، ولاحقاً إلى 85 معتقلة، رغم أن سعة السجن تكفي لـ48 معتقلة. هذا المعطى وحده كاف ليدل على الاكتظاظ والظرف القاسي الذي تعيشه المعتقلات والأسيرات الفلسطينيات.
سافرت إلى هناك لزيارة واحدة من المعتقلات سابقاً، وأخرى من اللاتي اعتقلن أخيراً. وصلت سجن الدامون أعالي جبل الكرمل. كان الطقس بارداً. ركنت سيارتي قرب السجن المتربع على أجمل منطقة في الجبل، والتي تُطل مباشرة على البحر. إلا أن الأسيرات لا يرين هذا الجمال الذي تحجبه الأسوار العالية والشباك المحيطة بالسجن. مررت بالإجراءات الروتينية العادية؛ تسليم بطاقة مزاولة المهنة وتصريح الدخول بأسماء المعتقلات، يليه الانتظار، وقوفاً، قرابة الساعة خارج السجن حيث لا غرفة للانتظار ولا مقعداً للجلوس. ثم دخلت البوابة الأولى، سلمت زجاجة الماء لتفريغها وتعبئتها من جديد أمام أعين السجان. بعدها مررت بالبوابة الكهربائية، ليحضر سجان آخر يرافقني للدخول إلى الساحة الداخلية. انتظر ليحضر. يحضر. يسير بقربي، إلى الأمام قليلاً، في الممر الضيق الذي لا يتسع لسير اثنين معاً.
يفتح الباب الداخلي على الساحة الصغيرة الداخلية التي تربط جميع أقسام السجن. يغلق الباب الآخر خلفي. نسير عشرات الأمتار، يفتح بوابة أمامية لأصل إلى الساحة الداخلية الأصغر التي تقع على طرفها الأيمن غرفة المحامين وعلى يسارها المكاتب وغرفة ضيقة اكتظت بالمعتقلين الجدد. حاولت الحديث إليهم، فنبهني السجان: "ممنوع". سرت بضع خطوات باتجاه غرفة المحامين. صدمني ما رأيت أمامي وأثار قلقي. كانت بالونات الغاز والمتاريس البلاستيكية والخوذ وبدلات الحماية مكدّسة وسط الساحة، تشي بحالة حرب. لم يكن الوضع عادياً. كان الجو مشحوناً. وهنالك عدد كبير من السجانين في الساحة والمكتب.
وصلت سجن الدامون أعالي جبل الكرمل. كان الطقس بارداً. ركنت سيارتي قرب السجن المتربع على أجمل منطقة في الجبل، والتي تُطل مباشرة على البحر. إلا أن الأسيرات لا يرين هذا الجمال الذي تحجبه الأسوار العالية والشباك المحيطة بالسجن.
حضرت موكلتي الأولى ثم الثانية. كنت كمن نزل إليهما من السماء. كان هذا أول يوم يفتح السجن أبوابه أمام المحامين بعد إعلان حالة الطوارئ. سبقتني للزيارة محامية زميلة التقيتها لحظة دخولي وهي خارجة، إذ قالت: "الوضع كارثي". شاركتني المعتقلات بما كنت أخشى أن أسمعه؛ فتحدثن عن التضييقات والاعتداءات والاكتظاظ والنوم على الأرض والعزل الكلي عن العالم. كانت لديهن حاجة للحديث والمشاركة. فقد كنت أول من يلتقين به، غير سجانيهم، منذ ثلاثة أسابيع. كان قلقهن على الأهل وعلى قلق الأهل عليهن كبير. انتهت الزيارات، وخرجت محملة بالكثير من المعلومات والتخطيط لخطوات قادمة، إذ ما سمعت يشكل شهادة هامة للمحكمة في الالتماس الذي خططنا تقديمة باسم عدد من المؤسسات الحقوقية. لكن الخوف من التنكيل داخل المعتقلات كان كبيراً، سيما أننا علمنا من سجون أخرى حول حالات تم فيها التنكيل بمن يشتكي أو يشارك قاضٍ أو محامٍ بأنه يتعرض للتنكيل. وقد تشابهت الأوصاف وتكررت الشهادات عن عنف وتنيكل ممنهجين.
خرجت من غرفة الزيارات، وخرجت موكلتي الأخيرة بمرافقة السجان باتجاه عنبر الزنازين رقم 3. قبل أن أخرج من الساحة، كان السجانون قد بدأوا بلبس الخوذات وحمل المتاريس البلاستيكية وبالونات الغاز متجهين نحو القسم. خرجت وقلبي مثقل بالخوف على الأسيرات والقلق على مصيرهن، والشعور بالعجز، ربما للمرة الأولى، أمام هذا الواقع الصعب.
إن قلقنا هذا كان تجاه جميع الأسرى والأسيرات، وما يحتمل أن يتعرضوا له من تنكيل في ظل إعلان حالة الطوارئ في السجون وإعلان المفوضة العامة لمصلحة السجون عن تقليص الشروط المعيشية. وأن ما حظي به الأسرى والأسيرات حتى الآن، فسوف لن يرونه بعد اليوم. وكانت أكدت مصلحة السجون في بيان نشرته على صفحتها، على أن التقليصات والتضييقات تأتي لتجيب عن حاجة أمنية، وأنها ستشمل سحب مستحقات لا يعتبرها السجن ضرورات أساسية. وعليه، تم تجريد الأسرى من كل الأجهزة الكهربائية ومصادرتها من الزنازين، حتى أن السخانة الكهربائية، التي كانت تستعمل لطهي الطعام، اعتبرتها مصلحة السجون من الرفاهيات. كما مُنع الأسرى من الوصول إلى دكان السجن المسمى "كانتينا"، والتي يشتري منها الأسرى حاجياتهم من الطعام من أموال الأهل الذين يقومون بإدخالها لحساباتهم الخاصة التي تديرها مصلحة السجون. وهي عبارة عن بضعة رفوف تحتوي على بضائع قليلة وليست دكاناً كما يمكن للمرء أن يتخيل. كذلك، مُنعت الفورة؛ وهي ساعة الخروج للساحة الداخلية المحجوبة بشكل شبه كامل بأسلاك حديدية يرى الأسرى السماء من خلال فتحاتها الضيقة. حُجبت السماء ولم يعد الأسرى يرون النور.
أُغلقت أبواب الزنازين بحجة منع اللقاءات بين الأسرى والتنسيق بينهم، ولنفس الحجة قُلصت ساعات الاستحمام. سُحبت "راديوهات الترانزستور" الصغيرة التي اشتراها الأسرى من مصروفهم، والتلفزيون الوحيد الذي تقاسموا دفع ثمنه، ويتقاسمون أوقات مشاهدة برامجه والأخبار، وفق آلية ونظام داخلي أوجدوه لأنفسهم ليتمكنوا من تشارك حيز ، أو في الحقيقة تشارك اللا حيز، طيلة فترة سجنهم التي ستطول عند بعضهم مدى الحياة.
قبل أن أخرج من الساحة، كان السجانون قد بدأوا بلبس الخوذات وحمل المتاريس البلاستيكية وبالونات الغاز متجهين نحو القسم. خرجت وقلبي مثقل بالخوف على الأسيرات والقلق على مصيرهن
قطعت الكهرباء في الغرف طيلة ساعات اليوم، حتى وجد الأسرى أنفسهم في ظلمة دائمة وفي برد قارس. فليس ثمة تدفئة أو أغطية كافية تقيهم برد الشتاء. ومع إغلاق بوابات السجن ومنع زيارات الأهل، لم يكن هنالك مجال لتبديل خزانة الثياب. وللدقة، هي ليست خزانة، حيث لا يسمح الحيز الضيق في الزنازين لذلك. هي عبارة عن رفوف بسيطة صنعها الأسرى كما يصنعون أمور حياتيه بسيطة لا تمدهم بها مصلحة السجون؛ كالسكين المستخدمة تقطيع الطعام حيث تُمنع عنهم السكاكين لذرائع أمنية. لم يكن هناك مجال لتبديل ثيابهم الصيفية بأخرى شتوية يحضرها الأهل كل مرة من جديد، إذ لا يسمح للأسرى بمراكمة ثيابهم داخل الزنازين. لم يمتلك الأسرى الذين اعتقلوا أخيراً قطع ثياب للتبديل. وأولئك القدامى سُحبت ثيابهم وتم إبقاء غالبيتهم مع قطعة ثياب واحدة. وكنا عرفنا من خلال زيارات المحامين وشهادات من تحرر منهم، عبر وسائل الإعلام، بأنهم كانوا يغسلون ملابسهم الداخلية بأيديهم ويلبسونها وهي مبللة.
تقاسم الأسرى الحيز المقلص أصلا، والآخذ بالتقلص أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة. فقد امتلأت السجون بالأسرى وارتفع عدد المعتقلين بالآلاف منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فحظي كل أسير على أقل من ثلاثة أمتار فقط. وكانت سنّت حكومة الحرب قانون طوارئ اعتقالي يتيح لوزير الأمن الداخلي تقليص حيز المعيشة للأسرى وسحب الأسرّة عنهم عند الضرورة وجعلهم ينامون على فراش على الأرض. ولم يتردد الوزير ولم تتردد مصلحة السجون من تطبيق ذلك. ازداد خوفنا من تعرض الأسرى لمعاملة لا أنسانية ومهينة قد تصل حد العذيب، ما يتنافى مع القانون الدولي وقواعد معاملة الأسرى، وعلى راسها اتفاقية مناهضة التعذيب و"قواعد مانديلا".
من جهة أخرى، كان الغموض والتعتيم يحيطان بالمعلومات عن المعتقلين من غزة. تم اعتقال مدنيين وعمال، غالبيتهم، كما أفادت التقارير، اعتقلوا بظروف غامضة. فمع إعلان حالة الحرب ألغت دولة إسرائيل لآلاف العمال الغزيين تصاريح العمل واعتبرتهم غير شرعيين، وزجّت بهم في سجون تابعة للجيش، لا يتم نشر أي معلومات عنها. ثم وصلت لاحقاً صور عبر وسائل الإعلام عن اعتقالات مهينة داخل شاحنات، حملتهم شبه عراة. صرح الجيش بنفسه أنه كشف لاحقاً بأن "معظمهم من المدنيين".
أصبح القلق على الأسرى والأسيرات قلقاً وجودياً بعدما أعلن عن وفاة عدد منهم داخل السجون. طالب المحامون بالزيارة فرُفضوا بحجة حالة الطوارئ. ثم قدمت عدة مؤسسات حقوقية التماساً للمحكمة العليا؛ أعلى هيئة قضائية في البلاد؛ مُحذرين من خطورة الوضع ومن احتمال تعرض المعتقلين والأسرى للتعذيب. رُفض الالتماس وتبنت المحكمة العليا رد الدولة وحجة "الضرورة الأمنية"، رافضةً ادعاء المؤسسات لكون الظروف "غير معقولة" ولا ترتقي بما سمي بالحاجات الأساسية.
لاحقاً تحررت المعتقلات اللاتي زرتهن في صفقة التبادل، إلى جانب عدد كبير من الأسيرات والمعتقلات من سجن الدامون. لكن من جهة أخرى، امتلأ السجن من جديد، فالاعتقالات اليومية مستمرة. بينما نحن مستمرات في معركتنا على الحق، وفي الدفاع عن المعتقلين والمعتقلات. وأختم بسؤال هو: كم امرأة اعتقلت منذ بدأت كتابة هذه الكلمات حتى وصلت هذا السطر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.