قصة فلورندا، ابنة الكونت يوليان، حاكم سبتة والمضيق (المجاز والزقاق كما أطلق عليه العرب)، واردة في مصادر التاريخ العربي كافة بلا استثناء. هناك إجماع بين الإخباريين العرب والمسلمين القدماء على أنها كانت السبب المباشر وراء تدبير موسى بن نصير، والي "إفريقية"، كما كان يُطلق على بلاد المغرب العربي، لغزو إسبانيا/ الأندلس، ولولاها لتأخر طويلاً الأمر الذي أصدره موسى لقائده طارق بن زياد، بعبور مضيق جبل طارق الفاصل بين المغرب وإسبانيا.
تجمع الروايات الإسلامية على اختلافها، على أنه لولا الذي وقع لتلك الفتاة القوطية على الأرجح، والبربرية طبقاً لبعض المصادر، أو الفارسية حسب بعض الروايات، ما كان القائدان المسلمان موسى وطارق، قد حظيا بالدعم العسكري اللازم للنجاح في قهر جيوش القوط الكثيفة المدافعة عن إسبانيا. وربما لما تمكنّا من غزوها أصلاً، أو تأخرا في الغزو لسنوات، أو ربما تأخرت قوة العرب الفاتحين ومواليهم من البربر المغاربة في اقتحام أوروبا لعقود أو قرون.
في المقابل، تكاد المراجع التاريخية الإسبانية القديمة والحديثة، تنكر الوجود التاريخي لابنة يوليان إنكاراً تاماً، وتعدّها أكثرية من المؤرخين الإسبان أسطورةً عربيةً أو خرافةً موريسكيةً، نسبةً إلى بقايا العرب المتنصّرين بعد سقوط غرناطة سنة 1492م. وبرغم أن المراجع الإسبانية تعطي فلورندا اسمها، المجهول في المصادر العربية، وكذلك لقبها "لا كابا"، إلا أنها تختلف في ما إذا كان أصل اللقب يعود لمدينة في إيطاليا أو للفظ "قحباء" العربي.
القصة من بدايتها
تبعاً لأقدم مصادر التأريخ العربي لغزو الأندلس لدى المؤرخ ابن عبد الحكم (تـ257هـ)، وكتابه "فتوح مصر والمغرب": "كان يليان يؤدي الطاعة إلى لذريق (وهو رذريق أو رودريك بالإسبانية) صاحب الأندلس، وكان لذريق يسكن طليطلة، فراسل طارق يليان ولاطفه حتى تهاديا، وكان يليان قد بعث بابنة له إلى لذريق صاحب الأندلس ليؤدبها ويعلمها فأحبلها، فبلغ ذلك يليان فقال: لا أرى له عقوبةً ولا مكافأةً إلا أن أُدخل عليه العرب، فبعث إلى طارق: إني مدخلك الأندلس".
يقال إن الأندلسيين (الإسبان) في العصور الإسلامية وصموا فلورندا بلقب "لا كابا" المشتق من كلمة "قحبة" برغم كونها ضحية. قمن هي؟ وما قصتها؟ وما علاقتها بفتح الأندلس؟
وطبقاً لابن عبد الحكم أيضاً: "جاءه يليان بالمراكب فحمله فيها إلى المجاز، فأكمن (طارق) فيه نهاره، فلما أمسى رد المراكب إلى من بقي من أصحابه، فحملوا إليه حتى لم يبقَ منهم أحد، ولا يشعر بهم أهل الأندلس، ولا يظنون إلا أن المراكب تختلف بمثل ما كانت تختلف به من منافعهم. وكان طارق في آخر فوج ركب، فجاز إلى أصحابه وتخلف يليان ومن كان معه من التجار بالخضراء، ليكون أطيب لأنفس أصحابه".
يورد ابن الأثير الجزري (تـ630هـ) في كتابه "الكامل في التاريخ"، تفاصيل أخرى: "كانت عادة ملوك الأندلس أنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة، ويكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان -وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما- ابنةً له فاستحسنها رذريق وافتضّها، فكتبت إلى أبيها فأغضبه ذلك، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه فسار إليه فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود".
ويضيف ابن الأثير، أن يوليان صحب جيش المسلمين خلال توغله في الأندلس "يدلّهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار". وبعد هزيمة جيش رذريق في شذونة جنوب إسبانيا، رسم يوليان لطارق مخططاً لمسارات جيوشه باتجاه مدن الأندلس. ولما صارت الجيوش العربية قرب مدينة قرمونة، أحصن مدن الأندلس: "قدم إليها يوليان وخاصته فأتوهم -أي أهل قرمونة- على حال المنهزمين معهم السلاح، فأدخلوهم مدينتهم فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلاً فدخلها المسلمون وملكوها".
ويقول المقري (تـ1041هـ) في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، إن يوليان لما كاتبته فلورندا وعلم بافتضاض لذريق لابنته: "أحفظه شأنها جداً، واشتدت حميته، وقال: ودين المسيح لأزيلن سلطانه، ولأحفرن تحت قدميه، فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى. ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير (كانون الثاني/ يناير) قلب الشتاء، فصار بالأندلس، وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت، وسأل عما لديه ولم جاء في مثل وقته؟ فذكر خيراً، واعتلّ بذكر زوجته، وشدة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده، وتمنّيها لقاءها قبل الموت، وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحب إسعافها، ورجا بلوغها أمنيتها منه، وسأل الملك إخراجها إليه، وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها، ففعل، وأجاز الجارية، وتوثق منها بالكتمان عليه، وأفضل على أبيها، فانقلب عنه. وذكروا أنه لما ودّعه قال له لذريق: إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشذانقات (الصقور) التي لم تزل تطرفنا بها، فإنها آثر جوارحنا لدينا، فقال له: أيها الملك، وحق المسيح لئن بقيت لأدخلن عليك شذانقات ما دخل عليك مثلها قط، وعرض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال العرب عليه وهو لا يفطن".
أصل تسمية فلورندا
لم تعرف المراجع العربية ابنة يوليان باسم لها، وإنما أتت تسميتها فلورندا، من مصادر التاريخ الإسباني، برغم أن المصادر الإسبانية لا تعرف هذه القصة قبل عامي 1110 و1300 م. ويقول المؤرخ حسين مؤنس، في كتابه "فجر الأندلس"، إن ذكرها ورد فيها مجملاً على صورة قريبة الشبه مما تذكره الروايات العربية، وبلا اسم كذلك. وكان المؤرخ الإسباني "بدرو دل كورال"، أول من أعطى فلورندا لقب "لا كابا" (La Cava)، نحو سنة 1300 م، وهو اسم مدينة إيطالية زارها جنود إسبان وعادوا يحملون هذا اللقب وتسمت به الإسبانيات. لكن المؤرخ الإسباني ميغيل دو لالونا، يقدّم تفسيراً عربياً لهذا اللفظ فيذهب إلى أنه مأخوذ من لفظ "قحبة"، ويقول إن الأندلسيين (الإسبان) في العصور الإسلامية، وصموا به فلورندا برغم كونها ضحيةً كما تؤكد قصتها ولزمتها التسمية. أما اسمها فلورندا، فقد أتى من حكايات القصاصين ونصوص واضعي الأغاني الشعبية، وذهب بعضهم إلى أن الاسم صحيح، وأنه مخفف من الاسم القوطي "فلوريسندا".
الرواية الإسبانية القديمة تتردد في قبول قصة فلورندا وتنكرها معظم المدوّنات الإسبانية الحديثة، وتعدّها أسطورةً صاغتها الأغاني العامية والقصص الفولكلورية التي كانت شائعةً بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس
يؤكد المؤرخ محمد عبد الله عنان، في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، على العكس من ذلك، أن قصة فلورندا وردت في مصادر تاريخية إسبانية مبكرة، منها رواية "إيزيدور الباجي" الذي عاش في أوائل القرن الثامن، ورواية "ردريك الطليطلي"، وكلاهما يؤكدان أن الكونت يوليان ثار لاعتداء الملك رودريك على ابنته أو زوجته، واعتزم أن ينتقم لنفسه بدعوة العرب إلى فتح إسبانيا، وهي القصة التي يرددها التاريخ العام الذي وُضع بأمر الملك ألفونسو العالم في أواخر القرن الثالث عشر.
يضيف عنان أن الرواية الإسبانية القديمة تتردد في قبول قصة فلورندا وتنكرها معظم المدوّنات الإسبانية الحديثة، وتعدّها أسطورةً صاغتها الأغاني العامية والقصص الفولكلورية التي كانت شائعةً بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس، بل يذهب بعض المؤرخين الإسبان إلى ما هو أبعد إذ ينكرون الوجود التاريخي لشخصية يوليان ذاته. المؤرخ الإنكليزي إدوارد جيبون والفيلسوف الفرنسي فولتير، يأتيان على رأس المشاهير ممن أنكروا قصة فلورندا على أسس نظرية تبدو بعيدة الصلة بالواقع وقليلة الارتباط بالبحث التاريخي، ويتضح ذلك من قول جيبون: "لطالما كانت أهواء الملوك يطبعها الجموح والعبث، ولكن هذه القصة المعروفة، وإن كانت روائيةً في ذاتها، لم تؤيدها الأدلة الكافية، وتاريخ إسبانيا يقدّم من بواعث المصلحة والسياسة ما هو أليق بتفكير السياسي القديم". ويسخر فولتير في تاريخه العام من القصة بالقول: "إن الاغتصاب صعب التنفيذ، صعب التدليل، فهل يتحالف الأحبار من أجل فتاة؟". لكن المستشرق دوزي، يروي القصة، ويأخذ بها في شرح حوادث الفتح، وكذا يرويها ويأخذ بها المؤرخ كاردون في كتابه "تاريخ إفريقية وإسبانيا".
هذا الخلاف انعكس على آراء المؤرخين العرب المحدثين بدورهم، فحاول الدكتور حسين مؤنس، التهوين من شأن قصة فلورندا وتأثيرها في مسار أحداث غزو العرب للأندلس، إذ يقرر ابتداءً أن العرب لم يخترعوها اختراعاً، لكنه يعود للقول: "ولا يبعد أن تكون قصة ابنة يليان من اختراع قصاص العرب كذلك"، ليصل إلى نتيجة محيّرة هي: "ولسنا نريد أن نقف طويلاً عند هذه القصة، فقد تكون صحيحةً وقد تكون من اختراع القصاص، ولسنا نحتاج إليها لكي نعلل دخول العرب الأندلس تعليلاً معقولاً، فقد كان ذلك الدخول هو الأمر الوحيد المنتظر في الظروف التي سادت المغرب خلال السنوات التي سبقت الفتح".
وهو ما يخالفه محمد عبد الله عنان، الذي لا يرى في القصة العربية أي أثر للاختراع: "فليس ثمة ما يدعو إليه، وليس من المعقول أن تخترع الرواية الإسلامية قصةً مفادها أن المسلمين لقوا في فتح إسبانيا معاونةً لم يتوقعوها، وأن هذه المعاونة سهّلت لهم سبل الفتح، ولعلهم لم يقدّموا بدونها على الاضطلاع به، أو لعلهم كانوا يتعرضون للإخفاق والفشل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...