لعلَّ أقراني في المدرسة يتذكرون العبارةَ التي كان يطلقها معلم التربية الإسلامية مهدداً: "إلي يضحك أسويه مضحكة"، وهي عبارة تحمل تهديداً من النوع الهشّ على اعتبار أن كتم ضحكة الفرد الواحد لا يتم عبر إضحاك الجميع.
كان معلم التربية الإسلامية يتلو القرآن بطريقة مضحكة، وعدم فهمنا لكلمات الآيات إذ يجوّدُ هو ما يدفعنا للضحك، وبتحليل متأخر لذلك المشهد، فإن تلك الضحكات التي كنا نطلقها كانت طريقتنا بأن نحل اللغز، لغز العلاقة بيننا وبين تلك الظاهرة العالمية، وأعني الضحك.
من الصعب عليّ الآن تحديد ما كان يقوله المعلم بعد أن يسكتنا جميعاً، يضرب الطاولة بعصاه و يهاجمنا لاعناً العالم الذي انحطت به القيم وتدهورت الأخلاقيات، ولا شك أن الآية التي يوردها معلمو الإسلامية في هذا السياق جاهزة، وهي الآية التي تتحدث عن قوّة حضور النص القرآني، إذ "ينزل على الجبل فيخشع الجبلُ من خشية الله"، ذلك المجاز الهائل يحتم علينا أن نختبره ونعيشه، مع أن مطابقته ستبدو مصطنعة، فالإنسان الذي يخشع كالجبل إنسان زائف إذا تعذر عليه أن يصبح جبلاً.
في الحقيقة إن الضحك لم يكن يعبر عن الفكاهة المقصودة، إنما كان يتدفق كشعور بالحاجة لإثبات وجودنا، بما أننا لا نعي ما يقال فلنضحك، بما أن المعلم لا يتلو القرآن بطريقة مثالية فلم لا يكون ذلك مضحكاً؟
دفعني الضحك من الطريقة التي يرتلُ بها المعلم سورة عذبة وناضجة و سلسة مثل سورة الرحمن لأن أجرب تجويد القرآن بنفسي، صرت أتدرّب على ذلك سرّاً وأجهز نفسي للحظة التي أدهش بها أقراني بقوة صوتي وشجنه، كانت المناسبة التي أنتظرها بعيدة وقريبة في الآن نفسه لكنها ستجيئ مفاجأة على أية حال.
لعلَّ أقراني في المدرسة يتذكرون العبارةَ التي كان يطلقها معلم التربية الإسلامية مهدداً: "إلي يضحك أسويه مضحكة"، وهي عبارة تحمل تهديداً من النوع الهشّ على اعتبار أن كتم ضحكة الفرد الواحد لا يتم عبر إضحاك الجميع
اللحظات الاستثنائية تجيء مفاجأة
مرةً أخرى لعلّ أقراني في المدرسة يتذكرون المعلمين الجدد وأقصد بهم الذين يمارسون التعليم بهدف التطبيق أو الإعداد، وهو تقليد معمول به حتى الآن.
ذات يوم، دخلتْ المعلمة الشابة وسألت إذا كان أحدنا يستطيع التجويد، كانت المعلمة فاتنة بعض الشيء وترتدي حجاباً زهرياً بالكاد يغطي شعرها، بدت في مطلع العشرين من عمرها لأجدَ تلك السمات مناسبة، فأرفعَ يدي من أجل التجويد. استغرب التلاميذُ، فنظر بعضهم لي بشزر وبعضهم بسخرية فيما اكتفى الآخرون بالصمت.
أذنت المعلمة بأن أبدأ، وضعت يدي على أذني كما يفعل عبد الباسط عبد الصمد، ورحتُ أجوّد سورة الرحمن على طريقة المقام العراقي تقريباً، وهي الطريقة التي سمعتها من قراء عراقيين مثل وليد الفلوجي وعامر الكاظمي.
كان التجويد بالنسبة لطفل مثلي هائلاً ومدهشاً، الأمر الذي دفع المعلمة الشابة لأن تحييني قائلة: "لو جاز التصفيق بعد قراءة القرآن لصفقتُ لك".
كنت مزيجاً من مشاعر الحزن والدهشة والإعجاب بنفسي، حين رنَّ الجرس أحسست بأن أقراني أحبوني أكثر مما كانوا يفعلون، ولم يكن الوقت مناسباً لأسأل إن كانت هناك سلطة للنص الساحر أم لصوتي المترجرج أم لمظهري الطفولي الرحب؟
فيما بعد علمت أن أبا نواس كان يجود القرآن، لا أدري أين قرأت تلك المعلومة المفاجئة لكني أتذكر أنني اعتبرتها دليلاً على بدايتي الشعرية الصحيحة.
كيف يشقُّ المرء طريقه للشعر؟
عبر قراءة القرآن، الكتاب الذي يحسم الجدل في مسألة إن كان محمد شاعراً أو نبياً بعبارة صادمة وغير مستهلكة: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ"!
حق الإنسان بقراءة القرآن
للقرآن حقٌ كبير علي. لا أنسى الطمأنينة التي يبثها في النفس إذا كان مسموعاً و السلامة التي يضيفها للسان إذا كان مقروءاً، وبتفصيل جدي للغاية أخذني القرآن نحو اللغة لتربطني علاقة غرام بالكلمة الفصيحة، فتنتج تلك العلاقةُ الدهشةَ، لأغدو حتى كتابة تلك السطور قارئاً من أجلها فحسب.
القرآن، إذا شئتَ أن تؤمنَ، كتاب اجتماعي و أنثروبولوجي، وإذا شئت أن تفكّر فهو كتاب ديني على نحو من العاطفة المرعبة، وهو بين هذين التعريفين كتاب سيرة، سيرة للعرب عبر رؤية محمد وسيرة لمحمدٍ عبر رؤية ربّه.
لم أكن معتقداً إني سأذهب عبر القرآن نحو الشعر، ولم يكن بوسعي تفسير دهشتي، أحسست أن القرآن هو خطاب شعري أكثر حرية وأشد التزاماً في الوقت نفسه، و شرعت بتعلم القواعد، قواعد تلاوة القرآن و تجويده، ولعلها قواعد تصلح أحياناً لقراءة حتى الكتب الأدبية وكتب الفلسفة والتاريخ، إذ تبدو مضطراً للتوقف الإجباري عند بعض الكلمات والاختياري عند بعضها الآخر.
ثمة حق للإنسان بقراءة القرآن لا حق عليه، وأريد أن أقول إن تلك هي رؤيتي التي ينطلق منها إجلالي لهذا الخطاب الساحر الفريد في تشكله وقدرته على الجذب و الدهشة، لكي لا تفوتني المناسبة بالاعتراف الآن بأنني لم أقرأ هذا الكتاب بذهنية الخائف أو العاجز أو المخطئ، إنما بذهنية المندهش والمتأمل والشاعر، حتى المشاهد التي تصف الجنة وجهنم بدت لي مشاهد لغوية، أعني أن هذا النص استطاع أن يجسّد الجنة تجسيداً واقعياً محمولا بإحالته إلى مصدر المطلق بالطبع، أي أن النص منح تلك الأوطان الميتافيزيقية حياة واقعية وفتح آفاق العربية على عوالم جديدة.
لن أزعم أن القرآن ما يزال بالنسبة ذلك الكتاب النهائي، إذ قرأت خلفه الكثير من الكتب التي أدهشتني وعمّقت تفكيري وحساسيتي، إلا إني أزعم أن القرآن هو الكتاب القوي الساحر الذي أعود له بين الحين والآخر، عودة الهارب من ابتذال الكلمة وتلوث السمع، من إساءات الشعر المترجم وركاكة الشعر اليومي على فيسبوك، وهي إذن عودة إلى اللغة الأم لا إلى الإله الأب فحسب، على اعتبار أنه سيكون حنوناً على طفله ويغفر له مسافة الخطأ و الإهمال.
مع سورة الرحمن مرةً أخرى
مع بدء الحملة الإيمانية التي أطلقها صدام حسين، كان ثمة شعور بعثي زائف بالحاجة للدين، ولعل صدام شعر بخيبة أمل قومية شديدة ليرى نفسه النبي الذي ضيّعه قومه، كانت الحملة قد انطلقت لتنظم المدارس مسابقات دينية الغرض منها إنتاج قرّاء قرآن!
لن أزعم أن القرآن ما يزال بالنسبة ذلك الكتاب النهائي، إذ قرأت خلفه الكثير من الكتب التي أدهشتني وعمّقت تفكيري وحساسيتي، إلا إني أزعم أن القرآن هو الكتاب القوي الساحر الذي أعود له بين الحين والآخر
بدا التحضير للمناسبة، وطلب معلم الإسلامية مني أن أشترك، فقد وجد صوتي مناسباً واعتقد أنني سأفوز، لكنه لم يتوقع أن أنال المركز الأول ضمن مسابقة طلاب الابتدائية.
ذهبنا صباحاً برفقة معلمنا إلى مدرسةٍ في مركز المدينة، تحمل اسم "موسى بن نصير"، كانت القاعة المعدة للمسابقة مليئة بالمعلمين وتلاميذهم.
شرعَ كل متسابق بتلاوة السورة التي حضرها وتدرب عليها، وكنت قد اخترتُ سورة الرحمن الأحب على نفسي والأسهل على إمكانياتي الصوتية آنذاك، كان ذلك الاختيار الفطري أعظم قاعدة تعلمتها في الفن: "أن تختار النص الذي يتيح لك تقديم أفضل ما تمتلكه، النص الذي يهب طبقاتك الحرية وحسن التطريب دون أن يثقل نفسَك".
نلتُ المركز الأول ضمن المسابقة، تمَّ تكريمي ومنحي مبلغ ألف دينار عراقي، وكان ذلك المبلغ محترماً بالنسبة لطفل في الخامس الابتدائي آنذاك.
وما بدا لي أهم هو أنني اكتسبتُ شجاعة الوقوف أمام جمع من الناس وتجربة الميكروفون، فذلك التاريخ كان البداية الحقيقية للشعر، أخبرت نفسي على نحو خفي: ذات يوم سأغدو قادراً على صناعة نصي الخاص وتدوين سيرتي الشخصية عبر رؤيتي الوحيدة.
بعد ربع قرنٍ سأعيدُ سماع سورة الرحمن بصوت أحمد العجمي وقد تشوّهَ صوتي و ضعفَ نفَسي بسبب الدخّان وقلة التمرين وإهمال الحلم الطفولي العابر، فتبدو سورة الرحمن كأنني أتلوها للمرة الأولى أمام جمع فوضوي من التلاميذ ومعلميهم، لكن هذه المرة أتلوها كما يقرأ شعراء النثر قصائدهم ذات الإيقاع الخفي:
فإذا انشقّت السماءُ
فكانت وردةً
كالدهان!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع