تقول ابنتي: "إذا تذكّرنا الحلم الذي رأيناه، فهو يعني أنّه يريد أن يوصل لنا رسالةً ما". صدَقَتْ، فحلمي يومها أوصل لي الرسالة بوضوح. استيقظتُ منه في ذلك الصباح وأنا أتمتم بالصلاة، وتناولتُ هاتفي لأرى ماذا حلّ بالعالم بينما أنا نائمة فوجدتُ السوريين جميعاً يصلّون على خالد خليفة.
فورَ إعلان خبر رحيل الروائي والسيناريست خالد خليفة، تحوّل من ذاك الكاتب شديد الشهرة إلى هذا الإنسان القريب من الجميع، وهنا أشدّد على قولي "من ذاك إلى هذا"، لأنّ كلّ من مرّ خالد خليفة به يوماً، وإن مجرد مرور، شعر في تلك اللحظة بأنّه هذا القريب الذي فقده.
خالد خليفة الذي حضر في 12-8-2009 إلى توقيع روايتي الأولى في جناح دار الآداب في معرض دمشق الدوليّ للكتاب، ليبارك خطوةً أولى لكاتبة شابّة لم يلتقِها من قبل، ويشتري نسخاً ثلاثة بالابتسامة نفسها التي لم تفارقه يوماً. صاحب "سيرة آل الجلالي"، ها هي روحه تحلّق مع الأسماك التي كتب قبل أيّام من رحيله في منشور سرياليّ على فيسبوك أصاب قلبي بالانقباض، أنّه رآها تحلّق في السماء، وكذلك رأى الحمام يسير على صفحة الماء.
قارئ "نسر على الطاولة المجاورة"، يشعر بأنّه ينشر زبدة تجربته الحياتيّة الإبداعيّة، وكأنّه ذلك الهَرِم الذي قطع أشواط حياته كلّها وصولاً إلى شاطئ النهاية، فيراه يفتتح نصوصه بعبارات مثل: "في عمرٍ مبكّر هدمتُ اليقين"
أمضيتُ الأيام الأولى بُعيد هذا الفقد وأنا أراه يجول بين صفحات أحبّته وأصدقائه، وأدهشني كمّ الناس الذين رافقهم من قرب وأمضى معهم أوقاتاً تكاد تكون متطابقةً بالرغم من عدم تطابق الأمكنة، فأحدهم يكتب له: ("سهرنا معاً الإثنين الماضي في اللاذقية"، ويناجيه آخر: "لم تخبرني الأسبوع الماضي حين التقينا في ألمانيا بأنّها ستكون المرّة الأخيرة"، وذاك يهمس له: "ستبقى دمشق تتذكر كيف أنْهَكْنا شوارعها مشياً في لقائنا الأخير قبل أيام، ولم نتعب". ومثلهم عشرات تهافتوا على كتابة ذكرياتهم القريبة والبعيدة معه، من عواصم ومدن عربية وأجنبية تشهد على هذا القريب من الجميع في أماكنهم الكثيرة المتباعدة وفي آن واحد، لذا حضرتني شخصية أكاكي أكاكيفيتش، من قصّة "المعطف" الشهيرة للكاتب الروسي غوغول، وكأنّ خالد خليفة هو ذاك الطيف الذي كان الجميع يراه في أماكن عديدة من الأرض في الوقت نفسه، لكنّ الفرق بينه وبين بطل "المعطف"، أنّه يشاركهم مجالسهم ويرقص معهم ويبثّهم من طاقته الإيجابيّة بعكس أكاكي أكاكيفيتش الذي راح الناس يرون شبحه في كلّ مكان بعد وفاته، وهو ما كان يرعبهم.
معادلة عجيبة حقّقها بين احتشاده بالأحبّة والأصدقاء والمعارف وقضاء الكثير من الأوقات برفقتهم، وتفريغ نفسه منهم في آن: "لا يعني وجودي مع الآخرين وبينهم أنني محتشد بهم، أنا وحيد في كلّ اللحظات"، وإلا فمن أين له تلك الغزارة في الإنتاج هو الذي أبدع كلّ ما أبدع في حياته، ورحل تاركاً العديد من الأعمال التي لم يُتَح لها بعد أن ترى النور، ومنها ما أُخِذَ عن وكيلته الأدبية التي ذُكِرَ أنها صرّحت عن مخطوط رواية جاهز، وما أعلنه بعض أصدقائه كذلك عن روايات كان يعمل عليها، بالإضافة إلى إعلان الممثل والمخرج ماهر صليبي، في جلسة أقامها النادي الثقافي العربي في الشارقة، حول تجربة خليفة الشعرية والدرامية والروائية بخصوص سيناريو جاهز ومتبنّى من جهة معيّنة، وكذلك ما تحدّثت عنه السيدة رنا حايك مديرة النشر في دار هاشيت أنطوان التي تقول إنّ خالداً كان في نيّته إلحاق كتابه "نسرٌ على الطاولة المجاورة"، الصادر عام 2022، بالمزيد من الأجزاء، إلا أنّه رحل قبل أن يسلّمها أيّاً منها، وهو أشبه بدفتر سرد فيه خلاصة تجربته في الكتابة، والتي يمكن أن يستفيد منها الكتّاب الشباب الذين يطالعهم خليفة بسرّ شبه الكتابة بالرقص فيقول: "الكاتب الهاوي كما الراقص الهاوي، لا يرقص إلا إذا استبدّت به الرّغبة الشديدة فيبدو مندفعاً حارّاً". تلك أولى العِبَر المرحة التي يختصّ بها خالد خليفة في كتابه هذا الذي ليس إلا صورة عن فلسفته الخاصّة في الحياة، حيث أتقن الشغف بها بشكل لم تنفصل فيه الكتابة عن الرقص.
وفي معنى مختلف وبعيد عن الرقص يتحدّث خليفة عن الكتابة بوصفها احتمال دهشة، من هنا جاءت عنونته لدفتره هذا بـ"نسر على الطاولة المجاورة". يقول: "احتمالات الدّهشة حتّى لو كانت نسبتها واحداً بالمليون جديرة بالمغامرة"، فلطالما لازم الجلوس على الطاولة وواصل الكتابة منتظراً "أن يحطّ نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس إلى كرسيه ويتأمّل المارّة"، فمع غرابة هذا الاحتمال واستحالته، لم ينفكّ عن عيش الكتابة كاحتمال دهشة بهذا القدر: "رغم استحالة هذا، إلا أنّني أنتظره"، ويقول في الإطار ذاته: "إنها الاحتمال الأقلّ ضآلةً تحقّقه، والنّهر الذي لا تستطيع رسم مسار لاندفاعه وسط الأراضي القاحلة".
يبوح خليفة في دفتره هذا بمضمون علاقته بالكتابة من جوانب متنوّعة، فيحكي عنها باعتبارها تجربةً ذاتيّةً يعيشها بانفراد من ناحية "كلما اقترب الآخرون منك ابتعدتَ عن ذاتك"، ومن ناحية أخرى باعتبارها حالةً يتفاعل معها نوعان من المتلقّين، نوع إيجابيّ يمثّله المقدّرون للعمل الإبداعي والمتعطّشون إليه، ونوع سلبيّ وهم الحسّاد وما أكثرهم: "غيظ الأعداء جزءٌ من نصر الكاتب وتسامحه مع هذا الغيظ الذي يتحوّل إلى كراهيّة عمياء هي جزء من مجده".
بالرّغم من أنّ نصوص هذا الكتاب ليست جديدةً، إذ يتّضح خلال قراءتها أنّها مكتوبة قبل سنوات، إلا أنّ الغريب هو توقيت نشرها، وكأنّ في داخل خالد خليفة جرس نبوءة دقّ معلناً دنو الرحيل، فقارئ "نسر على الطاولة المجاورة"، يشعر بأنّه ينشر زبدة تجربته الحياتيّة الإبداعيّة، وكأنّه ذلك الهَرِم الذي قطع أشواط حياته كلّها وصولاً إلى شاطئ النهاية، فيراه يفتتح نصوصه بعبارات مثل: "في عمرٍ مبكّر هدمتُ اليقين"، ويراه يلخّص ما عاش من حكايات مع عائلته وأصدقائه وأعدائه وكتبه، إلى درجة أنّه يصعب تصديق أنّه لم يُنبأ فعلاً بموعد رحيله: "أحبّ هشاشتي، ولا أريد التعليق على أفعال البشر وانتقادها، فقدتُ هذا الشغف. كلّ البشر كائنات مسكينة، حين سيكتشفون حقيقة الموت سيندمون أنّهم لم يقولوا كلّ ما في صدورهم، لم يتقيّؤوا كل البحص الذي ملأ فمهم، لم يقولوا لمن يحبّونهم كمّ أحبّوهم، ولم يبصقوا في وجوه من كرهوهم، وأنا فقدتُ حتّى قدرة البصاق في وجوه من كرهت من البشر".
ولكن أكثر النصوص التي تتوّج نبوءة الرحيل، قوله: "كعجوزٍ أمشي إلى زاويتي المعتمة، هناك سأقول لأصدقائي الذين أحبّهم أكثر من أيّ شيء كم أحببتهم وكم أحبّهم وكم سأحبّهم، وأوصيهم كيف يحتفلون بذكرى موتي".
"نسرٌ على الطاولة المجاورة"، وثيقة لمجموعة وصايا أحبّ "الخال" خالد أن ينشرها واضعاً إياها على المنارة لتضيء للكتّاب الشباب الذين لطالما شعروا بأنّ وجوده بمثابة عمود أمل يستندون إليه في غمرة عالم مليء بالخيبات، وبرحيله مال فقط، لكنّه لم ينكسر
لم يعِش خالد خليفة خوف العثور على موضوعات ليكتب فيها، فقد امتلك سرّ ما يمكن تسميته بـ"خلود الفكرة"، بمعنى أنّه آمن بقوّة بقاء الفكرة بالقدر الذي يمنحها قوّة التجسّد في نصّ مهما طال الزّمن. يقول: "أبحث عن مواضيع رواياتي ببرود. ما أتلقّاه بحرارة اليوم يجب أن يذهب إلى امتحان البقاء".
هو الذي عاش طفولةً في بيتٍ خلف أبواب غرفه تناقضات صنعته، يقول واصفاً إيّاه: "منزلٌ يعجّ بالخرافات، حيث تتجاور الماركسيّة مع الرّقى وأدعية الأولياء". هذا الخليط التضادّي العجيب الذي شكّله دفعه إلى أن يضع أهله أمام خيارين: إمّا أن يكون كاتباً أو ينتحر. لكنّه ظلّ حيّاً وعاش الكتابة في إحدى أسمى لذّاتها "لذّة الألم السعيد" كما يصفها: "تلمّستُ متعة الصبر الذي يودي إلى نفق الألم السعيد، الذي لا يستطيع أن يفهمه الآخرون".
تصعب قراءة "نسرٌ على الطاولة المجاورة"، دون الشعور بتلك الغصّة من شدّة تداخل ما كُتب فيها مع الكثير من الأفكار والتساؤلات التي لا بدّ ستأتي على بال القارئ، فكيف يمكن قراءة نصوص تتحدّث عن تفاصيل العملية الإبداعية لكاتب، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، في ظل حقيقة أنه لم يعد هنا؟ يصعب على إنسان عرف شخص خالد خليفة أن يعلم أنّه لم يعد موجوداً، ولكن مصيره الحتمي هو أن يكون ذلك الغائب الحاضر أبداً، وبكلمة أدقّ: أن يكون اسماً على مسمّى (الخالد) بما كتب وما نشر من حبّ، لا سيّما في كتابه الأخير هذا الذي وكأنّه بنشره طبّق قول السيد المسيح حين يقول: "لا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت" متّى 5:15.
"نسرٌ على الطاولة المجاورة"، وثيقة لمجموعة وصايا أحبّ "الخال" خالد أن ينشرها واضعاً إياها على المنارة لتضيء للكتّاب الشباب الذين لطالما شعروا بأنّ وجوده بمثابة عمود أمل يستندون إليه في غمرة عالم مليء بالخيبات، وبرحيله مال فقط، لكنّه لم ينكسر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين