لنفترض أن إحدى المصريات الشغوفات بالعمل النسوي، أو المهتمات بقضايا المرأة على الأرض، ذهبت، قبل عشر سنوات من كتابة هذا المقال، في رحلة دون وجهة معلنة؛ حيث استقرّ بها الحال فوق إحدى الجزر البعيدة والمهجورة، ولا يوجد بينها وبين العالم أي نقطة اتصال مباشرة أو غير مباشرة؛ لا تلفزيون ولا راديو ولا جرائد ولا هاتف، وبالتالي لا إنترنت أيضاً. في الحقيقة لا شيء على الإطلاق.
تُركت لمشيئتها تسبح في صحراء العزلة والقلق الممتدة حتى الطرف الآخر من نكبتها، بلا صلبان على كاهلها. بعد عشر سنوات من ذلك، وتحديداً في 2023 ولنقل في تشرين/أكتوبر المعاش، أي قبل شهرين تقريباً من فعاليات الانتخابات الرئاسية، والتي باتت محسومة قبل حتى طبع استمارات الاقتراع لطرف معلوم بالتأكيد.
يتسنّى لهذه الفتاة الرجوع إلى القاهرة، وبدافع الغريزة وحدها عكفت على بعض الصحف القومية والمدعومة نظامياً، تقرأها بنهم ولهفة، لتسترد إحساسها بالواقع وتعود إلى الحياة في دنياها وتعرف آخر ما آل إليه الحراك النسوي في مصر، بعد عشر سنوات من انفصالها عنه. تُرى ما الذي ستفهمه بطلة قصتنا مما تقرأه عيناها.
الصحف كلها تشيد بالدور الذي أوكله عبد الفتاح السيسي للمرأة، وما تحقق من إنجازات لها في عهده، وتمكينها في كافة مجالات الفضاء العام، سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
ستندهش فتاتنا الجميلة عندما تعلم أن نسبة تمثيل المرأة في المناصب الوزارية، في ذلك العهد دون غيره، وصل إلى 24% خلال الفترة من 2017 حتى 2022، بعد أن كانت لا تتجاوز في الماضي 7%.
بدأت حمى الغليان المتصاعد تنتقل إلى كافة أنحاء مصر، حتى باتت اللجان الانتخابية، والتي بلا نساء يرقصن أمامها، تغيب عنها كل وسائل التغطية الإعلامية اللازمة، لافتقادها ربما إلى الحماسة الوطنية في يوم البهجة العامة
وما إن تخرج من صحراء دهشتها تلك، حتى تغوص قدماها في مستنقع الفخر اللذيذ بجنسها، عندما تعلم أن نسبة تمثيلهن تحت قبة البرلمان فاقت 28% وفي مجلس الشيوخ 25%، وأما عن تمكينهن في مناصب الإدارة العليا، فقد وصل إلى 32% وفي السلك الدبلوماسي 27%، إلى جانب تعيين امرأة كمستشار لرئيس الجمهورية، في سابقة هي الأولى من نوعها، ووصول امرأتين إلى منصب المحافظ.
ستتفاجأ هذه الفتاة عندما تعلم أن المرأة المصرية، بعد سنوات من العناء، نالت ما كانت ترنو إليه، وها هي الآن، والآن فقط، أصبحت محافظة ووزيرة ووكيلة للنائب العام وقاضية، بل ورئيسة محكمة.
وعلى هذا الأساس يمكن لهذه الفتاة العائدة من الجزيرة البعيدة أن تقول إن عبد الفتاح السيسي هو الرئيس الذي نعمت فيه المرأة بعصرها الذهبي، وأن ما قدمه للقضية النسوية في مصر يكفي لبرهنة، لا تحتاج أدنى مسببات الدلالة لفض مسوغاتها، على أنه يستحق وعن جدارة لقب "نصير المرأة"، وهو لقب يضاف إلى سلسلة طويلة من الألقاب دأب الإعلام المصري على مرافقتها بجانب اسم السيسي كلما ذُكر، مكتوباً ومسموعاً ومنطوقاً.
إذا فالفتاة العائدة من الجزيرة المهجورة لا يمكنها أن ترى هذه الصورة البراقة إلا من زاوية ضيقة وخافتة، ولها العذر، فذلك ما تقوله الصحف التي وقعت بين يديها، وربما ذلك ما ستراه بعينيها من أحلام وطموحات كانت تتطلع المرأة المصرية إليها منذ عقود، وبذلت في سبيلها الدم والقهر والذل والدموع، باتت الآن متجسّدة في مرآة الواقع، لحماً وعظماً، رأساً وذيلاً، بطناً وأنفاً، ويمكن لمسها بالأيدي وتشغل حيزاً لا بأس به من حقول الطمأنينة بعد كل هذه الفدادين من القلق، ولكن هل ذلك ما حدث أم أن عكسه تماماً هو الحقيقة؟
أن المرأة المصرية كان عليها أن تدفع ثمن كل هذه الامتيازات التي حظت بها حتى قبل أن تطأ قدماها هذا الرحاب العفن من السلطة، ففتاة الجزيرة البعيدة لم يتسنّ لها رؤية ما رأيته أنا يوم 27 حتى 29 من مايو/أيار 2014، في ظل ما كان يسمى آنذاك بالانتخابات الرئاسية.
بدا الأمر في بدايته عرضياً ولم يحتمل الكثير من القلق بقدر ما حمل الكثير من الدهشة، بعض النساء تواجدن أمام اللجان الانتخابية، حاملين الأعلام وصورة المرشّح الرئاسي آنذاك عبد الفتاح السيسي، وبدأن بالرقص على بعض الأغاني الوطنية الحماسية، كأغنية "تسلم الأيادي" والتي أُنتجت على عجل بعد أن تولى الجيش مقاليد الحكم، و"بشرة خير" للمغني الإماراتي حسين الجسمي، والتي كانت الراعي الرسمي لهذه الانتخابات، وشيئاً فشيئاً، وتحت كنف التساهل العذب والذي أشاعته الفوضى العامة بأمر السلطة وحدها، بدأت حمى الغليان المتصاعد تنتقل إلى كافة أنحاء مصر، حتى باتت اللجان الانتخابية والتي بلا نساء يرقصن أمامها تغيب عنها كل وسائل التغطية الإعلامية اللازمة، لافتقادها ربما إلى الحماسة الوطنية في يوم البهجة العامة ذلك.
السلطة والجسد
كانت ثورة 25 يناير، من البداية وحتى النهاية، حراكاً شعبياً، مرناً و فضفاضاً، ولم يكن مطروحاً بداخله منذ اللحظة الأولى أي خيار لاستقصاء فصيل سياسي أو ديني بعينه، لذلك شمل جميع التوجهات السياسية والفكرية والدينية، بل والجنسية أيضاً. ومن هذا المنطلق الثوري شديد النزاهة، شاركت النساء في صناعة ذلك الحدث، حيث تعد مشاركة المرأة في ثورة يناير هي أكبر مشاركة لها في الحراك السياسي بعد ثورة 1919.
نزلن جميعاً إلى الشارع، طالبن بالحرية والعدالة الاجتماعية، شاركن في أكثر الأحداث شراسة وأعنفها قسوة وأشدها مرارة، ولكن الدولة، بمنظور أبوي لا سياسي، لم ترحّب بوجودهن في المجال العام، ولا بمشاركتهن في الفعاليات السياسية ذات التأثير المنتظر كثورة 25 يناير. فكانت كشوف العذرية والتي يمكن وصفها كرد عنيف، رأت الدولة أنه "أخلاقي" على مشاركة المرأة في المظاهرات، حيث جرى إخضاع سبع عشرة متظاهرة للكشف على عذريتهن من قبل قوات الجيش بعد القبض عليهن من ميدان التحرير، واحتجازهن وتعرضهن لعمليات تعذيب وتنكيل مخجلة، ومساومتهن على الاستسلام بدنياً لفحوصات الكشف العذري، أو توجيه تهم تمس شرفهن كالدعارة والإتجار بالمواد المخدرة.
وقد أصدر السيسي بياناً يؤكد فيه صحة ما حدث، مبرراً بأنه مجرد إجراء روتيني لحماية الجيش لمصري من اتهامات بالاغتصاب قد تطال ضباطاً بداخله.
حاولت الدولة، وربما نجحت في ذلك، استخدام جبرها السلطوي في التحكم بإرادة النساء عبر قنوات الجسد، فتم مقايضتهن على الاستمرار بالمشاركة السياسية أو تلطيخ سمعتهن بتُهم تمسّ الشرف، ناهيك عن حالات التحرّش اللفظي والبدني، والتي كانت تُجرى تحت مرأى ومسمع من رجال الأمن أثناء المظاهرات لتهويل النساء، والتي اضطرت الدولة لغض الطرف عنها كتجاوزات أمنية وأخلاقية، لأنها وجدت من خلالها أداة يمكن استخدامها للتضييق على النساء وتحجيم مشاركتهن في ذلك الحراك.
الكيل بمكيالين
تتسم الدول الشمولية، خاصة ذات الحكومات "الستراتوقراطية"، بنظرتها الفردانية أحادية المعنى تجاه كل شيء، فهي تعتبر أن كل الأشياء يمكن، بل ويجب، تطويعها واحتواؤها لخدمة مصالحها العليا، سياسية كانت أم شعبية، وفق الحاجة والضرورة بما في ذلك أجساد النساء، فالدولة التي باركت رقص النساء أمام اللجان الانتخابية، بل واحتفت بهن سياسياً وإعلامياً واعتبرته نوعاً من أنواع حرية الجسد؛ هي نفسها التي تمنع الرقص في الشوارع والأماكن العامة، وتعتبره جرماً أخلاقياً وجب ملاحقته قانونياً وتصنيفه على أنه نوع من أنواع الإخلال بالموروث الاجتماعي وخرق للعادات والتقاليد المجتمعية الحميدة.
فإعلام الدولة الذي وصف راقصات اللجان الانتخابية بالمناضلات بخصورهن وجذوعهن هو نفسه لم يتوان في وصف أستاذة جامعية ظهرت في مقطع فيديو وهي تمارس حرية الجسد عن طريق الرقص، بنشر الفسق والفجور ومخالفة الآداب الجامعية، حتى أحالها إلى مجلس تأديب قرّر عزلها وإحالتها إلى التقاعد.
ليست واقعة الدكتورة منى البرنس، أستاذة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة السويس، وحدها من ستبرهن على ازدواجية الدولة، أو كيلها بمكيالين، تجاه ما هو يمكن أن يكون مسموحاً من الرقص وما لا يمكن؛ ففي عام 2022 تم إحالة المدرّسة آية يوسف، والتي تعمل بنظام التطوع بإحدى المدارس التابعة للإدارة التعليمية غرب المنصورة بمحافظة الدقهلية، إلى التحقيق، ومن ثم الفصل نهائياً من وظيفتها، إثر مقطع فيديو ظهرت فيه وهي ترقص رفقة زملائها في مركب نيلي، وعلى الرغم من أن الفيديو المصوّر يظهر أن وصلة الرقص كانت ضمن رحلة شخصية وليست رسمية، بمعنى أنه لم يكن هناك طلاب على متن المركب من الأساس، إلا أنه جرى تصنيفه ضمن الإساءة للمهن ذات الوقار الإنساني بالمجتمع المصري.
ناهيك عن الملاحقات القضائية للعديد من فتيات "تيك توك" في مصر، تحت مظلة مخالفة قيم المجتمع والحضّ على أعمال منافية للآداب وحتى الإتجار بالبشر، وتم الحكم بالفعل على عدد منهن بالسجن لمدد متفاوتة، فالحقيقة وحدها تقول إن الدولة هي من تمتلك زمام المبادرة فيمن له الحق أن يمارس حرية الجسد ومن ليس له الحق في ذلك.
فطالما أن الخصور لن تعود بالفائدة على السلطة؛ فالأفضل أن تبقى حبيسة صمتها.
الرقص كأداة سياسية
الرقص هو قدرة الجسد على الشعور بالحياة، طقس روحاني للتعبير عن الحب والثورة بأشكال وحركات مختلفة، هو لغة شديدة السرية تحاول إيصال رسائلها بإيجاز يفتقد أدنى مسببات الدلالة بداخله.
كل الحضارات على مرّ التاريخ عرفت الرقص ومارسته، النقوش التي تمتلئ بها المعابد الفرعونية والبابلية تشهد على ذلك، فربما وجد الإنسان القديم فيه أداة للتعبير عن غضبه ونشوته والتنفيث عن قهر مكبوت بداخله.
وعن علاقة الرقص بالسياسة في مصر تحديداً؛ يمكننا أن نأخذ قصة "الراقصة والسياسي" للكاتب المصري إحسان عبد القدوس، كنقطة انطلاق حقيقية لتسليط الضوء على علاقة الراقصات برجال السياسة، أو المتحكمين في دائرة صنع القرار "النخبوية الحاكمة".
لربما سردية قصة "الراقصة والسياسي" تصف الإشكالية الأخلاقية والتي تقع فيها السلطة حال تعريفها للرقص وفق الضرورة والحاجة؛ فحين تحتاجه الدولة يسمى "رقصاً وطنياً" أو أسلوباً للتعبير عن الابتهاج والفرح، وحين لا يخدم مصالحها يتم نعته بالفعل الفاضح، ويوصف فاعله بالعهر وانعدام الأخلاق وإفساد الخلق المجتمعية.
هذا عن علاقة الرقص بالسياسة، وأما عن علاقة الراقصات أنفسهن بالعمل السياسي، فتُعد تحية كاريوكا، النموذج الأكثر شهرة للاستدلال به، تحية، الفتاة العشرينية والتي هربت من أهلها بالإسماعيلية والتحقت بـ كازينو "بديعة مصابني"، ونالت في وقت قصير من الثراء والشهرة ما عجزت عنه سابقاتها ومعاصراتها.
بدأت نشاطها السياسي في عام 1948 أثناء مساعدتها للفدائيين، لدرجة أنها كانت تنقل السلاح لهم في عربتها الخاصة، واعتقلت أكثر من مرة بسبب انخراطها في العمل السياسي المباشر، حيث كانت عضواً فعالا في حركة "حدتو" أو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، كما أنها شاركت في المقاومة الشعبية أثناء "أزمة السويس" أو ما يعرف بـ "العدوان الثلاثي" على مصر 1956.
ربما ليست تحية كاريوكا وحدها من برق اسمها في عالم الفن والسياسية معاً. حكمت فهمي هي الأخرى كان لها نصيب في إدراج اسمها ضمن الراقصات اللواتي انخرطن بالعمل السياسي.
النسوة المنكسرات بحاجتهن والذليلات بفقرهن والموصومات بجهلهن؛ هن من سيتصدرن المشاهد الأكثر تشويقاً في الانتخابات القادمة، كما حدث في 2014 و2018، فلكل ثورة قامعيها ولكل مهزلة سياسية راقصيها
في كتابه "السادات والجاسوس" يقول الدكتور محمود صلاح: "إن الراقصة حكمت فهمي تجاوز اسمها حدود مصر ليصل إلى مسامع الشعب الأوروبي، خاصة في العاصمة النمساوية فيينا، والتي كانت تزين جدران ملاهيها ملصقات للراقصة المصرية"، ويستطرد الدكتور محمود صلاح في كتابه، أنه أثناء الحرب العالمية الثانية، شاهد رينهارد هيدريش، رئيس المخابرات الألمانية، حكمت فهمي وهي تؤدي وصلة من الرقص في أحد ملاهي النمسا، فرشّحها للرقص أمام هتلر ووزير دعايته جوزيف جوبلز، والذي رأى فيها أكثر من راقصة، فطلب من رجال المخابرات الألمانية تجنيدها، خاصة أنهم كانوا يعرفون دائرة علاقتها ببعض ضباط في الجيش الإنجليزي في القاهرة، وهو ما تم فعلياً تحت مسمى "عملية كوندور"، والذي كان هدفه زرع جاسوس ألماني في القاهرة لمساعدة رومل في حملته بالصحراء وغزوه مصر من الشمال.
هربا من الجوع أم حرية جسد
لا يمكنني أبداً نسيان صورة هذه المرأة العجوز، والتي ربما أُجبرت أو اضطرت على الرقص أمام أحد اللجان الانتخابية. لا يمكنني محو ذلك المشهد من ذاكرتي مهما حاولت "فتاة الجزيرة المهجورة" إقناعي بغير ذلك.
كن أغلبهن مسنات، فقيرات، مجرد النظر في عيونهن يوحي أنهن جميعاً يعانين الألم نفسه والخوف نفسه، بل والقلق نفسه، وضعتهن الدولة بسلطتها العظيمة بين خيارين، إما الرقص وتقاضي الأجر اللازم، والذي عادة ما يكون بعض السلع التموينية ذات الضرورة الحياتية، أو الموت جوعاً.
هؤلاء النسوة المنكسرات بحاجتهن والذليلات بفقرهن والموصومات بجهلهن؛ هن من سيتصدرن المشاهد الأكثر تشويقاً في الانتخابات القادمة، كما حدث في 2014 و2018، فلكل ثورة قامعيها ولكل مهزلة سياسية راقصيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع