كل يوم يقصد الشاب العشريني وسط المدينة وتحديداً ساحة الشهداء بمدينة المنستير حيث يقضي ساعات يومه في تزيين أيادي النساء وأصابعهن بالحناء و"الحرقوس" وهو صبغ أسود اللون يصنع من مكوّنات طبيعية تستعملها النساء التونسيات منذ القديم لتزيين أصابع أيديهنّ وأرجلهنّ خصوصاً في الأفراح والمناسبات، حيث تكون للعرائس زينتهن الخاصّة المختلفة عن ضيفاتهن، أو للأمّهات وأولادهن خلال حفل الختان وكذلك للحوامل المقبلات على الولادة.
والحناّء في الثقافة التونسية ليست فقط زينة نسائية فهي أيضاً جالبة للبركة والشفاء من أمراض كثيرة، يعدّدها حازم المتشبع بأنواعها وأسرار تحضير خلطاتها.
يجلس الشاب جنب حائط ضريح الإمام المازري، الوليّ الصالح الذي تتبرّك به المدينة جمعاء حتّى أنها تقيم له الولائم وتتغنّى باسمه في أفراحها فيشدو الرجال والنساء بكلمات ترجو بركة العلامة التقيّ الذي حملته الأقدار قبل مئات السنين إلى ذلك المكان.
يغنّي "المستارية"، وهكذا يسمّى سكاّن المنستير، "يا مازري حل البيبان أنا جيتك يا سلطان، إن شاء الله الحاجة مقضية" أملاً أن تساعد بركة وليهّم في قضاء حاجتهم فيما اختار حازم أيضاً أن يجاوره علّه ينال نصيبه من هذه البركة فتُفتح "أبواب الرزق في وجهه."
الشغف "المحرم"
منذ كان في سنّ الرابعة عشق حازم رائحة الحناء و"الحرقوس"، ويقول "إنّها رائحة طُبعت في ذاكرتي بعد أن ملأت رئتيّ. كنت لا أفارق والدتي وأنا طفل. مثل قطة صغيرة تجتذبها رائحة سمك سردين مقلي كانت رائحة الحرقوس تسحرني".
كانت والدة حازم السيدة لطيفة تشتغل "حَنَّانة"، و"الحنّانة" هي السيّدة التي تزيّن النساء بالحناء والحرقوس، وهي مهنة نسائية صرفة لا يقترب منها الرجال الذين ليس لهم نصيب من الحنّاء سوى زينة صغيرة تُخضِّب أصغر أصابع أياديهم في حفل عشاء عرس أحدهم. "هكذا هي عادات أهل تونس"، تقول الأمّ.
تعلّم حازم المهنة على والدته فقد كان يلازمها وهو أصغر إخوته كظلّها ويحكي "سحرتني الأشكال التي كانت ترسمها، واكتشفت منذ صغري شغفي بالرسم. أشعر أنني لا أزيّن الأكفّ بالحنّاء، بل أرسم لوحات باستعمال الحرقوس والحنّاء".
بعض زبوناتي يأتين من محافظات بعيدة
حاول الوالدان منع ابنهما من الاقتراب من الحنّاء والحرقوس إذ هناك صورة نمطية رائجة مفادها أنه من "العيب أن يقوم رجل بذلك، هذه هي أعراف المجتمع وأحكامه وهكذا علّمونا" تقول الأمّ.
وصل الأمر بالأبوين إلى حدّ تعنيف طفلهما، "لكن ذلك لم يردعه" تقول والدته مستحضرة صورة ابنها وهو طفل تتحسّس بأنامله الصغيرة عجينة الحناء، " كان أترابه يفضلّون اللعب بالكرة والركض في الشوارع لكنّه كان يفضّل تطويع عجينة الحناء".
تعلَّم حازم أسرار المهنة عن والدته التي اكتسبت شهرة كبيرة بين نساء المدينة فصارت مقصداً لكلّ عرائسها حتّى تفوّق عليها بشهادتها وصارت له زبوناته يأتينه من كلّ حدّ وصوب. "بعض زبوناتي يأتين من محافظات بعيدة، يؤكد حازم بفخر كبير تشي به ابتسامة واسعة ترتسم على وجهه.
كنت لا أفارق والدتي "الحناننة" وأنا طفل. مثل قطة صغيرة تجتذبها رائحة سمك سردين مقلي كانت رائحة الحرقوس تسحرني
طوّر حازم مهاراته وتعلّم رسم أشكال جديدة وصارت له طريقته المختلفة في تزيين النساء. تقول والدته إنه تفوَّق عليها مضيفة بكثير من الفخر "لقد تغلّب عليّ فأنا أنتمي للمدرسة القديمة أمّا هو فقد وجد طريقاً مختلفة".
أنجز حازم كتيباً صغيراً جمع فيه أشكالاً مختلفة من الزينة بالحنّاء والحرقوس رسمها بنفسه ويعرضها على من تقصده وتكون حائرة بلا هدف مسبّق لتختار ما يروق لها من رسومات وأشكال مختلفة تفنّن في تشكيلها.
"لا أخجل مما أفعله"
في ذلك المكان لا يستغرب أبناء من المدينة رؤية حازم وهو يقوم بتزيين كفيّ سيّدة بالحنّاء أو الحرقوس في الطريق العام وقد تعودوا على ذلك ولم يعد وجوده هناك مثيراً لدهشتهم.
منذ الصباح الباكر يجلس حاتم ووالدته وسط الساحة بالقرب من ضريح الإمام المازيري وإلى جانبهما كيس الحناّء وقنينّة الحرقوس الصغيرة اللتين تملأ رائحتهما المكان في انتظار ما سيجود به اليوم من زبائن.
لم تكن البداية سهلة بالنسبة لشاب ترعرع في مدينة صغيرة يغلب على السواد الأعظم من سكانّها طابع المحافظة فهناك قواعد صارمة تقليدية يسير عليها الجميع تُميِّز بين مهن الرجال ومهن النساء.
لم يختر حازم كما يؤكد أن يشتغل في هذه المهنة بل هي الأقدار التي ربّما دفعته نحوها، لكنّه لا يخفي شغفه بها وفخره بممارستها ويقول "يكفي أنها تمنحني لقمة عيش وتقيني الحاجة"، ويكمل باعتزاز "آكل لقمتي بعرق جبيني وهذا فخر لي ".
يحب حازم مهنته التي جعلته شخصاً مختلفاً بل أكثر من ذلك صار يتفاخر بأنه الشابّ الوحيد الذي استطاع كسر الصورة النمطية عن مهنة لطالما مارستها نساء المدينة بشكل حصري.
يقول إنه تعلم من هذه المهنة الكثير من القيم مثل "الصبر والدقة والاتقان والكتمان والوفاء. كلها خصال اكتسبتُها بفضل الحناء والحرقوس".
صدمت صور حازم على تيك توك التي لاقت رواجاً واسعاً الكثير من المعلقين ممن استغربوا أن يقوم رجل بتزيين كفوف النساء بالحرقوس والحنّاء لكن ذلك جلب المزيد من الشهرة للشاب
ينشر حازم على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات له وهو بصدد تزيين زبائنه، ويحكي لنا قائلاً "عندما تقصدني إحداهنّ وأمسك يدها أنسى من تكون وأترك العنان لخيالي ولإبرتي وكأنني رسام يخطّ أشكاله وألوانه على ورقة بيضاء".
"يحدث أن يكتب أحدهم تعليقاً ساخراً أو يسبّني وينتقص من رجولتي لكنني لا أعير لهذه التعليقات أي اهتمام ولا أترك المجال لأصحابها لتثبيط عزيمتي وإحباطي فأنا مقتنع وفخور بما أقوم به ولا أرى في ذلك عيباً".
تقول والدته إنها شجعته على المضيّ قدماً في هذه المهنة بعد أن أدركت كم هو موهوب في ممارستها، مضيفةً "ما العيب في ذلك إنه عمل شريف ككلّ الأعمال الأخرى والأهمّ من ذلك أنه حماه من كل المخاطر التي قد يتعرّض لها شاب في مثل سنّه. أنا سعيدة بأنه يملأ وقته بعمل يوفر له لقمة عيشه ويحميه من الانحراف".
"وصيّة والدي"
يساعد حازم والدته في تحمّل مصاريف البيت فأغلب إخوته عاطلون عن العمل. يقول إنّه ينفذ وصية والده الذي طلب منه قبل وفاته أن يفعل ذلك "كلّما أتذكر كلماته وهو على فراش الموت أشعر بسعادة لأنني أنفّذ وصيّته"، يقول الشاب متأثراً.
صدمت صور حازم على تيك توك التي لاقت رواجاً واسعاً الكثير من المعلقين ممن استغربوا أن يقوم رجل بتزيين كفوف النساء بالحرقوس والحنّاء لكن ذلك جلب المزيد من الشهرة للشاب الذي يفضل أن يناديه الجميع بـ"حازم لارتيست" (حازم الفنّان).
شتمه البعض وشكّك البعض في رجولته فقط لأنه أمسك إبرة ورسم بها أشكالاً جميلة على أطراف نساء نجح في إسعادهن بأنامله الدقيقة والسريعة في حركاتها.
لكن الفتى لا يعبأ لكل ذلك كما يقول وهو الذي اختار أن يكون عالم الأنوثة مورداً لرزقه فقبل سنوات حصل على شهادته في التجميل والحلاقة، وهو يأمل اليوم أن يكون مستقبلاً مالكاً لأكبر فضاء حلاقة وتجميل في مدينته، "لكنني لن أنقطع عن رسم الأشكال بالحناء والحرقوس"، يؤكد.
تحت أنظار الزعيم الحبيب بورقيبة ومحاطاً ببركات "سيدي المازري" يمضي حازم في طريقه راسماً البسمة في من يقصدنه وحالماً بغد مشرق ترسم الحناء خطوطه، بعد أن أحدث تغييراً ولو طفيفاً في نظرة جزء من التونسيين التقليدية إلى المهن التي يحدّدونها وفق معايير جندرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...