يقول طه حسين في أحد الحوارات المنشورة في كتاب "طه حسين من الشاطئ الآخر"، إنه يُملي ولا يكتب، وإنه يكره أشد الكره العودة إلى قراءة ما أملاه، لأنه بمجرد الانتهاء من الكتابة يشعر بالتخلص من عبء يشقّ عليه تحمّله مرةً أخرى. لكننا نحن في أمسّ الحاجة إلى قراءة إرثه الأدبي بتمعن وتدبر، مرات عدة، لما فيه من بصيرة نافذة تتجاوز زمانها على نحو مثير للدهشة.
وإذا نظرنا إلى الكتاب المذكور الذي يضم مجموعة نصوص مترجمة عن كتاباته باللغة الفرنسية، سنجد دراسةً تحت عنوان "الكاتب في المجتمع المعاصر". تبدو وكأن طه حسين (1889-1973)، جاء بها توّاً من العالم الآخر للاشتباك مع واقع حياتنا الثقافية وطرح تساؤلات تشغل أصحاب الرأي والفكر.
تمنحنا هذه الدراسة الصادرة عام 1952، نظرةً معمقةً على حال الثقافة في فترة مهمة من القرن العشرين، وتقربنا أكثر من رجل نابغة كان لديه مشروع تنويري حقيقي سعى إلى تطبيقه بكل ما أتيح له من سبل. لكن أهم ما يميزها، أنها تمد جسور النور بينها وبين المستقبل، فتضيء طريقنا غائم الرؤية.
أزمات الحياة الثقافية مستمرة
من حين إلى آخر، تثار جدالات حول معدلات قراءة المصريين ومكانتها في عصر الثورة الرقمية ووسائل المعرفة المتنوعة. مثل هذه الجدالات تبدو حاضرةً على موائد الكتّاب منذ زمن بعيد، تؤرق بالهم وترهق أذهانهم. يشير طه حسين في بداية الدراسة إلى نقاش يعود إلى صيف 1937، دار بين كبار المثقفين من القارات الخمس حول مصير الأدب في المستقبل القريب، وغلبت عليه نبرة تشاؤمية تُسلّم بأن الثقافة تلقى إهمالاً يوماً بعد يوم خصوصاً مع ظهور اختراعات، كالراديو والسينما، تستأثر باهتمام الناس، كما أن غالبية القراء لا يقدرون حقاً المنتجات الأدبية الجادة التي تقتضي الاجتهاد والتفكر.
يقول طه حسين في أحد الحوارات المنشورة في كتاب "طه حسين من الشاطئ الآخر"، إنه يُملي ولا يكتب، وإنه يكره أشد الكره العودة إلى قراءة ما أملاه، لأنه بمجرد الانتهاء من الكتابة يشعر بالتخلص من عبء يشقّ عليه تحمّله مرةً أخرى
والحقيقة أن العلاقة بين الكاتب والقارئ استحوذت على مساحات كثيرة من كتابات طه حسين، وتناولها من زوايا متباينة. يوضح: "أنا أكتب لنفسي في معظم الأحيان. ولكن ما أن أنتهي من كتابة الموضوع حتى أشعر برغبة طاغية في أن أنقله إلى الغير. وليس لدي عندئذ أي فكرة عن هؤلاء الغير. ولكني أطرح السؤال على نفسي في بعض الأحيان، فأتخيل قارئاً غير مفرط في الثقافة وإلا أصابني الخجل والارتباك، ولا مفرطاً في الجهل وإلا ازدريته".
يعيد صياغة هذا الحديث في ما بعد ضمن كتابه "خصام ونقد"، الذي يقدم تحليلاً أشمل لطبيعة الحياة الثقافية في السنوات الأولى لثورة تموز/يوليو، ويقف عند ثلاثة أسباب رئيسية تسببت في ركودها، قابلة للتأمل في وقتنا الحاضر، أولها الظروف السياسية المقيدة للحريات وممارسة الرقابة على الإبداع سواء كانت متمثلةً في جهة حكومية أو شعبية. فـ"الحرية قوام الحياة الأدبية الخصبة، وإذا ذهبت أجدب الأدب وعقم التفكير. ما في ذلك شك".
ويُرجع ثاني الأسباب إلى دور النشر التي تراهن عادةً على المضمون في الربح وتخشى التعاون مع الكتّاب الجدد، خصوصاً في ظل تخاذل الكتّاب الكبار عن دعمهم. أما ثالثها فيلخصه في ضعف التعليم الأدبي في مصر مستهجناً الأساليب التي يُدرّس بها الأدب في المدارس والجامعات.
يتطرق طه حسين في دراسته إلى تأثير هذه المشكلات على الكاتب بشكل عام، إذ تدخله في العديد من الصراعات الفكرية والمادية ومنها اللجوء إلى التبسيط في ألفاظه وصياغته حد الابتذال أحياناً، ليصل إلى القرّاء، كذلك تقديم تنازلات لصالح ناشر الكتاب ليس فقط كي يخرج عمله إلى النور، وإنما ليكفل لنفسه حياةً لائقةً على أقل تقدير.
الحرفة الثانية
كيف يتاح للأديب أن يُنشئ عملاً حرّاً صادقاً دون أن يضار في موارد عيشه؟ تساؤل يطرحه عميد الأدب العربي ويقدّم كل ما لديه من شواهد وحجج ليدلل على أهمية وجود عمل آخر يتكسب من ورائه المبدع. "إذ يكفي أن نلقي نظرةً سريعةً على التاريخ في أي بلد نختاره، وأياً كانت الفترة التي نخصها بالاهتمام، ليتبين لنا أن الكتّاب والفنانين على السواء قد مارسوا في أغلب الأوقات حرفةً ثانيةً، أو كانت لهم حرفة يشتغلون بها". حيث يذكرنا بأن أرسطو كان مُعلماً للإسكندر، وأن بيكون كان من رجال الدولة في إنكلترا، كما عمل شاتوبريان سفيراً لفرنسا ثم وزيراً، وما أكثر الكتّاب الذين كانوا قضاةً وأطباء وحتى جنوداً مثل سرفانتس.
لا يغفل كاتب "الأيام"، أن بعض الأدباء يفضلون التفرغ للكتابة، ومنهم من ينادي بدعم الدولة ناسياً أن هذا قد يحرمهم من الاستقلال الفكري، ومنهم من يعتمد على قلمه في تأمين مصادر الرزق، الأمر الذي يصفه حسين بأنه أسوأ ما يحدث للكاتب. فهو لا يرى عيباً في أن يتربح الكاتب الجيد من عمله الأدبي، لكن يرفض أن يتعامل معه كسلعة. فالفن عموماً لا يقبل التساهل ويحتاج إلى تمهل حتى يخرج بصورة لائقة، والاتكاء عليه مادياً ربما ينال من جودته.
قد يُصنف هذا الرأي على أنه مغالاة غير واقعية في التعامل مع الأدب والفنون، لكن طه حسين كان متسقاً مع ذاته في هذا الشأن منذ شبابه. يروى في تسجيل صوتي، أنه عندما بدأ كتابة المقالات في مطبوعات مثل الجريدة التي رأسها أستاذه أحمد لطفي السيد، لم يرغب في تقاضي أجر نظير كتاباته. يقول: "حاول لطفي السيد أن يجعل لي راتباً في آخر الشهر، فغضبت وقلت له لست كاتباً مأجوراً، فضحك وقال: هل أنا كاتب مأجور يا بُني، ثم لم أرضَ على كل حال".
كانت الكتابة هي الغاية بالنسبة له، فيما يمارس عمله في الجامعة أستاذاً للأدب العربي، ويُقبل على تولي مناصب قيادية في البلاد، وينخرط كذلك في برامج إذاعية وتلفزيونية حريصاً على نيل المقابل المادي المناسب. تسرد الكاتبة عايدة الشريف في مذكراتها "شاهدة على ربع قرن"، واقعةً مثيرةً للاهتمام بينه وبين الإذاعية آمال فهمي. فقد طلبت منه أن يتكلم إلى مستمعي إذاعة الشرق الأوسط التي ترأسها عبر برنامج "لغتنا العربية يسر لا عسر"، المقرر بثه في شهر رمضان. وافق طه حسين لكن بشرط تسلم أجره كاملاً قبل التسجيل. أخبرته بأن اللوائح توجب صرف المكافآت المالية بعد التسجيل، لكنه أصرّ على موقفه واضطرت هي إلى جمع المبلغ المرتفع الذي طلبه من أصدقائها.
سجالات حول الحرفة الثانية
ربما ينتقد البعض فكرة الحرفة الثانية من منطلق أنها تصرف الكاتب أو الفنان عن شغفه الحقيقي ومهمته المقدسة. لكن طه حسين يرد على هذا الانتقاد مسهباً في تعداد مزايا الاشتغال بعمل آخر سواء كان ذا صلة بالموهبة أو بعيداً عنها، بدايةً من الميزة الأساسية المتمثلة في الحرية المطلقة عند ممارسة العملية الإبداعية دون أي وصاية، فضلاً عن أنه يتيح سبلاً للتسلية لا غنى عنها: "المثقف مهما بلغ ولعه بالأدب، والفنان مهما كان شغفه بالأشكال والصور، والموسيقار مهما تاه في بحار النغم، لا بد أن يشعر بحاجة إلى أن ينأى من وقت إلى آخر عن عمله حتى يستقر وينضج، وإلى أن يقيم بينه وبين العمل تلك المسافة اللازمة للحكم على ما بدأ ولتحديد الخطوة التالية... وترك النفس على سجيتها بطريقة أو بأخرى يُسهّل علينا أن نستأنف العمل الذي نحن بصدده".
يرى أيضاً أن العمل يزوّد الفكر بالتجارب الخصبة ويوفر للكاتب فرصة البقاء على صلات مباشرة مع الحياة تساعده على اكتشاف ذاته ومجتمعه. وقد كتب لاحقاً في كتابه "خصام ونقد"، حول العلاقة بين الأدب والحياة، وأي منهما في سبيل الآخر: "الأدب الصحيح متصل بالناس أشد الاتصال، منفصل عنهم أشد الانفصال... يشتق نفسه من أنفسهم اشتقاقاً، ثم يعود إليهم بعد تكوينه خلقاً جديداً يجب أن يتهيأوا لقبوله ويعدّوا أنفسهم للرضى عنه أو السخط عليه".
وفي ما يخص احتمال أن تُلهي الحرفة الثانية المبدع عن موهبته لفترة قد تقصر أو تطول، يعترف طه حسين بأن هذا المآخذ لا يمكن إغفاله، لكن يعود ليؤكد أن الكاتب الحقيقي أو الفنان الأصيل لن يمنعه شيء عن إرضاء رغبته وتحقيق مصيره الذي يؤمن به. قد يتحفز كثيرون تجاه هذا الكلام في وقتنا الحاضر، لكن علينا تذكر أن صاحبه حُرم من بصره في عمر الطفولة، إلا أنه عاش حياةً ثريةً ومتمردةً ولم يستسلم لقدر بائس ظن البعض أنه محتوم، وحقق مسيرةً ذائعة الصيت في الداخل والخارج.
أخذ طه حسين يكتب طوال حياته متحرياً النزاهة مهما واجه من متاعب، تملأ كلماته الجريئة الصفحات دون تردد، وتشاكس عباراته أصحاب السلطة والقرار بلا هوادة
ومع ذلك، تبقى حيرة اختيار الحرفة المناسبة التي تضمن الاستقلالية دون أن تعوق الإبداع. يدرك كاتب الدراسة صعوبة تقديم رأي قاطع في هذا الصدد، نظراً إلى أن الناس في طبيعتهم مختلفون. فمن تروقه المهن الحرة قد لا يحبذ الوظائف المكتبية، ومن يجد راحته في عمل بعيد عن ميوله الشخصية لن يستسيغ حرفةً قريبةً من الأدب مثل الصحافة والسينما. وعليه، فإن الأمر يعتمد على مهارات كل كاتب في التوفيق بين المهام المختلفة.
دور الكاتب الاجتماعي
استفاضت الدراسة في ذكر محاسن الحرفة الثانية، منشغلةً بالتشديد من حين إلى آخر على أنها السبيل لحرية الكاتب، وذلك لأن طه حسين خصص الجزء الأخير ليؤكد على أن هذه الحرية تأتي معها مسؤولية تجاه الذات والمجتمع، حيث يحظى الأدباء والمثقفون بمكانة مهمة عند القراء، حتى وإن زعموا بأنهم لا يكتبون إلا إرضاءً لأنفسهم، ومن ثم لا مجال للفرار من الواجب الأخلاقي. و"الواجب بسيط غاية البساطة وإن كان يصعب الوفاء به، وهو التحلي بالنزاهة". فإذا التزم الكاتب بواجبه، يصبح على المجتمع حمايته من أي أخطار تهدده.
وقد أخذ طه حسين يكتب طوال حياته متحرياً النزاهة مهما واجه من متاعب، تملأ كلماته الجريئة الصفحات دون تردد، وتشاكس عباراته أصحاب السلطة والقرار بلا هوادة. يخوض المعارك الأدبية بشجاعة وثبات، مقتنعاً بأن الخصومة قوام الأدب وتسهم في عيشه وازدهاره وانشغال الناس به. تمسك بالتزامه الأخلاقي أمام مجتمعه، وأنصفه طلابه وقرّاؤه حينما استُبعد لأسباب سياسية من عمادة كلية الآداب، وخرجوا في مظاهرات مطلقين عليه لقب عميد الأدب العربي.
ولأن النزاهة تقتضي الأمانة مع النفس والغير، كان يُراجع أفكاره وآراءه ويطورها مع الوقت، موقناً أن الخطأ وارد على كل حال. "الشيء الذي لا يريد بعض الناس عندنا أن يفهموه ولا أن يقبلوه، هو أن الخطأ حق من حقوق الإنسان لا ينبغي أن يلام عليه أو يدان به أو يعاقَب على التورط فيه، وإنما ينبغي أن يُدلّ عليه في رفق وأن ينبّه إليه في ودّ ووفاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...