في بداية توليه المنصب، زار شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي (1928-2009) المعاهد الأزهرية الابتدائية، ولاحظ أن عدد الذكور الذين يلتحقون بهذه الصفوف الأولى يفوق عدد السيدات، فاقترح أن يفوق عدد السيدات والفتيات عدد الرجال والفتيان لإيمانه بأن "الخالق وضع الرقة في قلب المرأة أكثر من غيرها"، لكنه قوبل بالاعتراض من المسؤولين حوله، لكنه بـ"المناقشة والمحاورة والترغيب وبإقامة الأدلة" استطاع تفعيل اقتراحه، وفقا لكلمته بمؤتمر "تحرير المرأة في الإسلام"، فبراير/شباط 2004.
قبلها بنحو 13 عاماً تقريباً، اشترك طنطاوي في تأليف كتاب مغمور بعنوان "المرأة في الإسلام" مع الشيخ محمد الغزالي وأحمد عمر هاشم، أستاذ علوم الحديث في جامعة الأزهر، وكشف عن فوارق جوهرية لرؤية كل من الغزالي وطنطاوي تحديداً؛ فبينما ركّز الأول على مغازلة الأصولية والسلفية المنتشرة آنذاك، وعمل على استغلال المرأة لصالح أنشطة الإسلام السياسي، اعتمد الثاني على رؤية أكثر انفتاحاً أسست لفتاوى جريئة عدة خالفت الرائج وجرّت على صاحبها هجوماً عنيفاً.
أعجبُ من إخلاص المرأة لدينها
أسباب رداءة المستوى الفكري والإنساني للمرأة، تعود إلى القطيعة مع التراث الديني، وأساس القطيعة الغزو الأوروبي؛ هكذا تتلخص إحدى أفكار الغزالي في الفصل الخاص به من كتاب "المرأة في الإسلام"، فالحضارة الأوروبية "فتحت أبواب المدارس للمرأة، فلم تتعلم فيها حقائق التراث الغالي ومناقب المرأة في عصرها الأول. كلا لقد غزا عقلها الفكر الأوروبي ونهجه الشارد فإذا نحن أمام تقاليد لا تسرّ ومناهج لا تنفع بل قد تضرّ".
الغزالي وطنطاوي، كلاهما أُعجب بالسيدة عائشة، محدثةً ومفسرةً ومفتيةً، وقف بها الغزالي في مواهبها الأدبية عند استحضار أبيات الشعر في المناسبات، بينما ربط طنطاوي ذلك بتفوقها في فنون التعبير والخطابة
مستهدفاً إحياء النماذج النسائية المعززة لاستغلال المرأة، التفت الغزالي إلى العصر الإسلامي المبكر، مستخلصاً منه أن على المرأة واجباً تؤديه لخدمة دينها؛ المرأة الثرية تدعم النشاط الديني بالمال، والمرأة الفقيرة تساند الرجال في الحروب.
أمثلة نسائية عدة، تشترك في الوعي الحربي بما يفيد التصور الذي اعتنقه الغزالي عن دور المرأة، منها عمرة الخثعمية التي رثت ابنيها بقولها: "هما أخوا في الحرب من لا أخاً له/إذا خاف يوماً نبوةً فدعاهما"، مسجلاً إعجابه بها لأنها "تفخر بشجاعة ولديها في وجه الحتوف". وسمية أم عمار وزوجة ياسر، لكونها أول شهيدة في الإسلام، ممتدحاً نساءً أنشدن شعراً للفخر برجال ماتوا في الحرب، كلماتهن بحسبه "يستحيل أن تكون لها نظائر على لسان النساء في أعصار التخلف الأخيرة"؛ مثل أم الصريح الكندية التي رثت رجالاً من قومها ثبتوا في الميدان ولم يفرّوا، وصفية الباهلية التي رثت أخاها، ونسيبة بنت كعب الأنصارية التي نذرت ألا تغتسل حتى تثأر لابنها من مسلمة الحنفي، الشهير بمسيلمة الكذاب، وظلت حتى شاركت في الحرب ضده وأصيب بـ12 جرحاً، وقُطعت يدها، وجعل الغزالي منها "مثالاً عالياً للمسلمة المجاهدة التي شرّفت أسرتها ودينها"، مشدداً على دورها: "هكذا كان الرجل والمرأة. فهل هما كذلك الآن؟"، كما يذكر في "المرأة في الإسلام".
تتحول المساومة عنده إلى ذكاء، فيذكر امرأةً خطبها أحد المشركين، فأخبرته: "إن أسلمت فإني لا أريد منك صداقاً غير الإسلام"، فلما أسلم تزوجته، مُعلّقاً على الموقف: "إنني بقدر ما أعجب من ذكاء المرأة وإخلاصها لدينها أعجب لسلامة الفطرة وانتفاء الريبة وسهولة الحلال وسرعة إقراره"، وأمام هذه الصور الانتقائية لخَّص رؤيته هكذا: "كانت الأسرة الإسلامية كلها تهتم بشؤون دينها وبقضاياه السياسية والعسكرية ولم يكن هذا الاهتمام التقاط أخبار أو تسمّع أنباء المعارك في شتى الميادين بل قد يكون مشاركةً شخصيةً من الأمهات والزوجات"؛ كما في كتابه المشار إليه.
أين نساء اليوم؟ أين نساء الإسلام؟
أمام نماذجه، قلل الغزالي من دور المرأة العصرية، إذ تعمد ذكر نموذج قديم ثم القفز للسؤال عن فائدة نساء عصره، هكذا: "هل المرأة العربية اليوم على هذا المستوى في الوعي والسلوك والكفاح؟".
واحدة من النماذج المبكرة وُصفت بالعقل والحكمة، مطالباً المرأة العصرية بالصعود إلى مستواها، وهي هند بنت النعمان بن المنذر ملك الحيرة، الملقبة بـ"حرقة"، التي وصفت تدنّي حالها بعد سقوط ملك أبيها للصحابي سعد بن أبي وقاص، فأكرمها، فدعى له: "لا جعل الله لك إلى لئيم حاجةً ولا زال لكريم عندك حاجة ولا نزع من عبد صالح نعمةً إلا جعلك سبباً لردها عليه"؛ وفق ما ينقله الغزالي.
أمام نماذجه، قلل الغزالي من دور المرأة العصرية، إذ تعمد ذكر نموذج قديم، ثم القفز للسؤال عن فائدة نساء عصره، هكذا: "هل المرأة العربية اليوم على هذا المستوى في الوعي والسلوك والكفاح؟".
لم تفعل الأميرة أكثر من الشكوى ثم الدعاء لقائد أكرمها، وهو سلوك يحسنه أي شخص، حتى المتسولون في الشارع، لكنه عند الغزالي جعله يعلق متأسياً: "وددت لو أن المثقفات العربيات كن على هذا المستوى، فنلن إعجاب واحد من العشرة المبشرين بالجنّة"، أي أن وصف حرقة بالعقل والحكمة كان نتيجة نوالها إعجاب أحد المبشرين بالجنّة، لا لشيء آخر.
المرأة العصرية بكل ما أنجزته مقصرة، ليس لها دور. سلوك أم جميل زوجة أبي لهب في هجاء النبي ووصفه "مذمماً" قديماً، وحماسة زوجة مرشح في الانتخابات الأمريكية الرئاسية ودعمها له، جعلا الغزالي يعود إلى الأسى، محدّثاً ذاته: "قلت في نفسي إذا رزق الضلال نسوةً ينصرنه بهذه الحمية، ويتبنّين قضاياه بهذه القوة، فلماذا يُحرم الإيمان نشاطاً نسائياً معارضاً له واقفاً ضده"؛ مكرراً أسئلته: "لماذا لا ينشغل نساؤنا بخدمة المثل الإسلامية بهذه القدرة؟".
التنوع البشري والسلام
خلافاً لرؤية الغزالي، جاء الفصل الثاني من كتاب "المرأة في الإسلام"، وعرض فيه طنطاوي رؤيته منطلقاً من الإعجاب بفكرة النفس الواحدة التي أقرّها القرآن الكريم أصلاً للتنوع البشري، في قوله: "يا أيها الناس اتّقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء" (النساء: آية1).
هذا الأصل سبب للتواصل والسلام، وبحسب طنطاوي فإن "التعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها، قد تكاثروا وانتشروا في أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعاً ينتمون إلى أصل واحد، وهذا يقتضي تراحمهم وتعاطفهم في ما بينهم"؛ شارحاً تركيز الخطاب القرآني على الأصل والانتشار من أجل أن "تتواصلوا في ما بينكم وتتعاونوا على البرّ والتقوى"؛ وفقاً لما ذكره في "المرأة في الإسلام".
المرأة المحاورة باقتدار
ركّز طنطاوي على نماذج تتصف بالقدرة على المناقشة والمحاورة ودفع حجج الطرف الآخر، مستشهداً بهند بنت عتبة، التي جاءت مع أخريات يبايعن النبي عقب فتح مكة، وبحسب الرواية التي نقلها طنطاوي فإن النبي "لما قرأ 'ولا يقتلن أولادهنّ' قالت: ربّيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وتشير بذلك إلى قتل ابنها حنظلة في غزوة بدر، وفي رواية أخرى أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأبناء؟ تشير إلى مقتل أبيها وعمها في غزوة بدر"؛ وفي حديثها تعريض واضح أو اتهام للنبي بقتل أقربائها.
الغزالي وطنطاوي، كلاهما أُعجبا بالسيدة عائشة، محدثةً ومفسرةً ومفتيةً، وقف بها الغزالي في مواهبها الأدبية عند استحضار أبيات الشعر في المناسبات، بينما ربط طنطاوي ذلك بتفوقها في فنون التعبير والخطابة، إلى جانب إشادته بمعارفها في الطب ونصائحها للمرضى، أي منشغلاً بكونها نموذجاً إنسانياً كبيراً.
خولة بنت ثعلبة من نماذج طنطاوي المفضلة، فهي التي جادلت النبي في مسألة الظهار، رافضةً رأيه في طلاقها من زوجها، قائلةً: "إن لي منه أولاداً إن تركتهم عنده ضاعوا وإن أخذتهم معي جاعوا"، فنزلت آيات سورة المجادلة توضح كفارة الظهار انتصاراً للمرأة. ثم ذكر السيدة التي عارضت عمر بن الخطاب، في تحديده مهور النساء، وأجبرته على التراجع.
وبحسب طنطاوي فإن "حرية الرأي كانت مكفولةً للمرأة حتى في مناقشة رسول الله"؛ مستشهداً بـ"ما كان يجري بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نسائه من مناقشات تدل على إفساح صدره صلى الله عليه وسلم لآرائهن عندما كن يطلبن منه الزيادة في النفقة"؛ مؤكداً أن "الشريعة التي أعطت للمرأة حرية التملك والتصرف والتعلم وغير ذلك من الحقوق لا تبخل عليها بحرية التعبير عن رأيها".
بينما ركّز طنطاوي على مغازلة الأصولية والسلفية المنتشرة آنذاك، وعمل على استغلال المرأة لصالح أنشطة الإسلام السياسي، اعتمد الغزالي على رؤية أكثر انفتاحاً أسست لفتاوى جريئة عدة خالفت الرائج وجرّت على صاحبها هجوماً عنيفاً
منحازاً إلى حقها في العمل، ألحّ على تفصيل حريتها في التعاقد مع الآخرين، فذكر في الكتاب المشار إليه أنه "متى كانت المرأة بالغةً عاقلةً أباحت لها شريعة الإسلام أن تتعاقد عن طريق البيع أو الشراء أو الهبة أو الوصية، أو ما يشبه ذلك من العقود، وأعطتها كامل الأهلية في تحمل الالتزامات، وفي تملك ما تريد أن تتملكه من أموال أو عقارات أو منقولات، وأن تتصرف في ما تملكه بالطريقة التي تختارها"، وفقاً لما جاء في كتاب "المرأة في الإسلام".
وللتخلص من تعقيدات ولي المرأة في مسألة الزواج، شرح أنه "إذا اختارت المرأة زوجاً ولم يرضَ وليّها به من غير سبب شرعي، فلها أن ترفع الأمر إلى القاضي ليتولّى عقد زواجها مع من اختارته زوجاً"؛ ليس هذا فقط بل أُعجب برأي الإمام أبي حنيفة النعمان، بأنه "للمرأة البالغة الرشيدة أن تزوّج نفسها بمن تشاء، بشرط أن يكون كفؤاً لها، وليس لوليها حق الاعتراض عليها إلا إذا زوجت نفسها من غير الكفء، أو كان مهرها أقل من مهر مثلها، ومن حجج الإمام أبي حنيفة في ذلك أنها ما دامت تستقلّ بعقد البيع وغيره من العقود فمن حقها أن تستقل بعقد زواجها، إذ لا فرق بين عقد وعقد"، بحسب كتاب "المرأة في الإسلام".
مستغلاً مساحته في الكتاب، انشغل طنطاوي بالمسائل الواقعية والاجتماعية أكثر مثل حق المرأة في التعليم والثقافة المتنوعة، واختيار الزوج، وحقها في العمل وإنفاذ العقود المختلفة، وحرية التصرف في أملاكها، والنهي عن أكل حقوقها، وقد اتسعت مواقفه في ما بعد، فكانت له مواقف رافضة للنقاب، خاصةً في المعاهد الأزهرية، وفي لقاء مع نيكولا ساركوزي، وكان وزيراً للداخلية قبل أن يصبح رئيساً لفرنسا، أيّد طنطاوي حق باريس في تشريع قانون يمنع ارتداء الفتيات المسلمات الحجاب في المدارس الفرنسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...