لا تخلو أي حرب من جرائم حرب، فعلى الرغم من اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، وعلى الرغم من توقيع الدول على القانون الدولي الإنساني، ومن كل التحذيرات التي تطلقها الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، إلا أن أكثر ضحايا الحروب هم من المدنيين، ومن المحميين بموجب هذه المعاهدات.
لا يجب أن تمر جريمة حرب بدون عقاب، ومهما طال الوقت، فهل ما يحدث في غزة اليوم يقع ضمن هذا التصنيف؟ وفي حال كان الجواب نعم، هل يستطيع الناس توثيق هذه الجرائم؟ وماذا نفعل فيما نقوم بتوثيقه من أدلة؟ لمن نرسله وكيف؟ وهل يجب أن نكون اليوم في داخل غزة لنتمكن من المساهمة في توثيق جرائم الحرب التي تحدث هناك؟
يحاول رصيف22 أن يجيب عن هذه الأسئلة في هذا التقرير.
هل يجب أن أكون في داخل غزة لأوثّق الجرائم؟
لحسن الحظ، فالإجابة على السؤال السابق هي "لا".
يقول د. عمر رحال مدير مركز شمس لحقوق الإنسان في رام الله لرصيف22: "منذ حوالي شهرين خصصت المحكمة الجنائية الدولية موقعاً للتبليغ عن الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون، ومن خلال هذا الموقع يمكن أن يقوم الأشخاص بالتبليغ بشكل فردي، وليس من خلال الدولة أو المؤسسات الرسمية".
أصبح بإمكان الفلسطينيين تقديم شكاواهم كأفراد وليس كمؤسسات بخصوص الانتهاكات الإسرائيلية وجرائم الحرب بشكل مباشر إلى المحكمة الجنائية الدولية، موقع الشكاوى مرفق في التقرير
ويضيف: "الشكاوى التي يستقبلها الموقع التابع للمحكمة الجنائية الدولية تشمل جرائم الحرب والانتهاكات المتعلقة بها، مثل فقدان فرد من عائلة، فيستطيع أخ التبليغ عن تعرض عائلة أخيه للقصف، أو تستطيع امرأة التبليغ عن هدم منزل عائلتها في منطقة مدنية".
يمكنكم التبليغ عن الانتهاكات كأفراد في هذا اللينك، حيث ستصل شكواكم بشكل مباشر إلى المحكمة الجنائية الدولية، وسيتم ضمها للملف الخاص بالانتهاكات في غزة. مع ضرورة الانتباه أن تكون اللغة المكتوبة لغة معلومات واضحة قدر الإمكان.
لكن لنعرف ما الذي يجب التبليغ عنه، يجب أن نفهم أولاً ما هي جرائم الحرب التي تقع ضمن اختصاص الجنائية الدولية، بحيث لا نُغرق المحكمة بأدلة غير صالحة.
إذن... ما هي جرائم الحرب؟
يقول الدكتور أيمن هلسا أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان في الأردن لرصيف22: "يجب أن نفهم ما هي الجرائم الموجودة في النظام الأساسي للجنائية الدولية قبل أي شيء لنعرف ما هي مرجعيتنا في الشكاوى".
بالاطلاع على النظام، نجد جرائم الإبادة الجماعية، كإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً، كمنع الماء والكهرباء والدواء عن أهل قطاع غزة.
يستحسن لمن يرغب بتقديم تبليغ عن جريمة حرب الاطلاع على النظام الأساسي للجنائية الدولية المرفق في التقرير، للتأكد من أن الانتهاك يقع ضمن اختصاصها
ونجد الجرائم ضد الإنسانية وتشمل الإبادة وإبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، كإجبار أهل القطاع على النزوح.
ونجد جريمة الإعلان أن لن يبقى أحد على قيد الحياة، كتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأن "لن يبقى شيء اسمه غزة".
كما نجد في النظام الأساسي تعمد توجيه هجمات ضد المدنيين، والمواقع المدنية، والتشريد، وترحيل السكان، لذا لا بد من قراءة النظام بتمعن، ومحاولة معرفة تحت أي جريمة يصنف الانتهاك، ومن ثم تقديم الشكوى والأدلة عليها إن وجدت.
لمن أرسل الأدلة والتوثيق؟
بالإضافة إلى طريقة الإرسال المباشر إلى المحكمة الجنائية الدولية، هناك طرق أخرى يمكن استخدامها لإرسال الأدلة، وهي التواصل مع المؤسسات التي تقدم أدلتها بشكل مباشر للمحكمة الجنائية الدولية، يقول رحّال بأن هناك أربع مؤسسات تعمل في هذا الملف في داخل فلسطين وجميعها لديها أشخاص يوثقون الانتهاكات في داخل القطاع، وتستقبل الأدلة الموثقة للانتهاكات، وهي: مؤسسة الحق، والهيئة المستقلة لحقوق الانسان، ومؤسسة الضمير، ومؤسسة الميزان لحقوق الإنسان".
ويضيف: "هناك مسار آخر غير مسار الجنائية الدولية، وهو المحاكم المحلية، فكثير من الجنود يحملون جنسيات مزدوجة بالإضافة إلى الجنسية الإسرائيلية، وبعد تتبع دولهم الأخرى يمكن رفع شكاوى انتهاكات ضدهم هناك، وإرسال الأدلة المحاكم المحلية في دولهم، وهذه الطريقة قد تكون فردية لكنها أسرع من مسار الجنائية الدولية".
ويشير إلى أن تحقق العدالة من خلال المحاكم الدولية قد يكون بطيئاً، ويأخذ وقتاً طويلاً لكنه مجدٍ على المدى الطويل، يقول: "هذه الأدلة والوثائق يمكن استغلالها في تحشيدات أخرى إلى حين صدور الأحكام، فالتحشيد الإعلامي مهم، ومشاركتها بكل الطرق من خلال واتس أب، وفيسبوك، وماسنجر، والإيميل، مع المؤسسات الفنية، والرياضية، والحقوقية، ومع الأفراد والسياسيين ورجال الأعمال يساهم في تشكيل رأي عام عالمي وتوضيح الصورة، وكله يصب لصالح إثبات الانتهاكات في النهاية".
هناك أربع مؤسسات تستقبل الأدلة على الانتهاكات وترسلها إلى الجنائية الدولية، وهي مؤسسة الحق، والهيئة المستقلة لحقوق الانسان، ومؤسسة الضمير، ومؤسسة الميزان، ومواقعها الإلكترونية مرفقة في التقرير
ويروي رحّال أن أحد اللاعبين في فريق كرة قدم غير معروف في "الخضر" بالقرب من مدينة بيت لحم، كان قد استشهد على يد قوات الاحتلال، فقام فريقه بمراسلة فريق أرجنتيني كان على وشك زيارة إسرائيل لمباراة ودية، والفريق الأرجنتيني لدى معرفته بالقصة ومشاهدة أدلتها ألغى مباراته، يقول رحّال: "نحتاج إلى الإكثار من هذه المسارات".
كيف أوثق؟
يؤكد هلسا بأن كل وسائل الإثبات متاحة، هناك جزء توثيقي وجزء مادي، عن الجزء المادي يقول: "يمكن الاحتفاظ بأجزاء من بقايا شظايا أو رصاص مع الحذر الشديد من البقايا المتفجرة، أو المسممة".
أما الجزء التوثيقي فيشرح: "أفضل طريقة هي الفيديوهات والصور. يمكن تصوير الجنود بالوجوه، ولاحقاً محاولة العثور عليهم في السوشيل ميديا مثلاً لإثبات هويتهم، وبالطبع دائماً في المحاكم سيحاول الطرف المعتدي إثبات أن الجندي تصرف لوحده".
وعن الإبادة يقول: "لإثبات حالة الإبادة وأثرها يجب توثيق اليوميات، الساعة والمكان والتدرج في الأحداث أمر دقيق وغاية في الأهمية، فالإجراءات التي تؤدي إلى هلاك السكان تشمل الحصار، وهذا فعل طويل الأمد ولا يحدث بسرعة، ويجب إثباته من خلال توثيق أثره الممتد زمنياً. مثلاً ما الذي حدث في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني، ومتى بدأ الماء ينفذ، ومتى بدأ الدواء ينفذ، وهل هناك أسماء لأشخاص تأثروا بشكل مباشر بالمرض أو الموت، ومن هم وما هي أسمائهم وأعمارهم. باختصار اليوميات هي أكبر دليل على الإبادة طويلة الأمد".
محاذير قانونية وأخلاقية خلال التوثيق
يحذر هلسا من أمر بالغ الأهمية، وهو السرية التي يجب أن تتم بها عملية التوثيق، وبالذات لدى توثيق أسماء الشهود، مشيراً إلى أن الحماية الشخصية أولوية لأن بعض الأشخاص الذين تم تسجيلهم كشهود في قضايا جرائم الحرب في المحاكم الدولية قد تمت تصفيتهم في السابق".
وفي سؤال حول المحاذير التي تترافق مع توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال يوصي بضرورة التعامل بحساسية بالغة مع هذا الأمر، يقول: "مصلحة الطفل أولى بالاعتبار من أي أمر آخر، علينا أن نحذر من تسبيب صدمات إضافية لهم، ومن محاولات تصويرهم أو أخذ أقوالهم بدون موافقة أولياء أمورهم أو الأوصياء عليهم".
من المهم جداً لإثبات حالة الإبادة الناتجة عن الحصار توثيق اليوميات بالساعة والمكان، فالإبادة فعل طويل الأمد، ويجب إثباته من خلال توثيق أثره الممتد زمنياً. مثلاً ما الذي حدث في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني، ومتى بدأ الماء ينفذ، ومتى بدأ الدواء ينفذ، وهكذا...
كما يحذر بشدة من محاولات الفبركة، أو من إرسال وتوثيق أدلة ليست ذات صلة بالجريمة، يقول: "كل الأدلة تؤخذ بعين الاعتبار، إذا لم تكن مفبركة أو غير ذات صلة بالانتهاك".
ويشير إلى إن التقارير الصحافية هي أكثر الأدلة التي تستند إليها المحكمة الجنائية الدولية، وهو ذات الأمر الذي يؤكده رحّال.
أهمية التقارير الصحافية
إرسال التقارير الصحافية المنشورة إلى المحكمة الجنائية الدولية أو المؤسسات التي تعمل في توثيق الانتهاكات هو عمل يمكن لمن هم خارج غزة عمله للمساعدة في توثيق جرائم الحرب، لا سيما مع انقطاع خدمات الإنترنت عن القطاع كاملاً، وبالطبع لوجود أولويات حياة مختلفة لمن هم داخله، بشرط أن تكون هذه التقارير الصحافية من منابر موثوقة، وأن تكون ذات مصداقية.
عن النقطة السابقة يقول نضال منصور مدير مركز حماية حرية الصحافيين في العاصمة عمّان: "التوثيق لغايات النشر تحكمه صحة المعلومة، ووضوحها. لمن يرغبون بالتوثيق سواء لإرسال الوثائق كأدلة أو لمشاركتها مع العالم كمواد صحافية ننصح بتعدد المصادر لتوثيق الانتهاك الواحد، وإن أمكن التصوير من أكثر من زاوية للمكان الواحد، أو جمع الصور المتعددة للانتهاك الواحد".
في حالة وجود شهود عيان يجب توثيق هوياتهم كالاسم والعمر والعمل، مع ضرورة العمل بسرية تامة، فكثير من الشهود في قضايا جرائم الحرب تمت تصفيتهم في السابق
ويضيف في تصريحه لرصيف22: "إذا كان في شهود عيان يجب أخذ آراء شهود العيان وعدم افتراض أن الانتهاك بديهي ولا يحتاج إلى إثبات، مثلاً على صور الشهود أن تكون واضحة، وكذلك أسماؤهم، وأعمالهم، وكل ما يساهم في إثبات هوياتهم".
وينوه منصور إلى أهمية أن ننتبه إلى أن التلاعب صار منتشراً بعد التطور التكنولوجي، الأمر الذي يجعل التدقيق في الأدلة حثيثاً، ويضرب مثالاً على الأمر الأدلة التي لفقتها إسرائيل حول قتل الأطفال وكررها الرئيس الأمريكي بايدن، ثم ثبت أنها مزيفة ومصنوعة بواسطة الذكاء الاصطناعي.
ويضيف: "كما نقول للصحافيين نقول للجميع، أهم شيء هو السلامة الشخصية، ليس هناك ما يستحق المخاطرة بحياتنا لأجل توثيقه، وأعرف صعوبة هذه النصيحة في القطاع، لكن اتخاذ إجراءات السلامة ما أمكن هو الأولوية".
ويختم: "بالطبع هناك محاذير بصرية يجب عدم بثها أو تصويرها على اعتبار أنها محتوى عنيف، لكن المعايير هذه تصبح رمادية في أوقات الحروب، فكيف نطالب شخصاً يرغب بتوثيق جريمة حرب وبها قتل وإبادة ألا يصور محتوى عنيفاً، الأمر غير منطقي".
مسار المحاكم الدولية بطيء كما يشير رحّال، لكنه طريق أكيد للعدالة على المدى الطويل، ليس العدالة القانونية فقط، بل والتاريخية، لأن هذه الوثائق ستضيف الصوت الغائب إلى الرواية الكاملة للتاريخ في المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...