لطالما كان البحر الأبيض المتوسط بالنسبة لي مرتبطاً بالسعادة والسلام، فما إن تبدأ عطلة المدارس حتى نتجه إلى البحر. كانت أمي تسمح لنا بارتداء ملابس السباحة من البيت في دمشق لأنها تعلم أننا بمجرد وصولنا إلى اللاذقية لا يمكن أن نصبر حتى نستلم غرفة الفندق ونبدل ثيابنا، بل نقفز أنا وأخي في البحر مباشرة، ولا نخرج إلا عندما يحين موعد النوم وفي نهاية العطلة موعد العودة الحزينة إلى دمشق.
أتذكر كم كنت في صغري أحسد أبناء أصدقاء أهلي الذين يسكنون الساحل. كنت أعتقد أن حياتهم تشبه إجازاتنا الصيفية وأنهم يقضون السنة في السباحة فيما نضطر نحن للعودة إلى المدرسة والشتاء. كان عقلي الطفولي يعتقد أن اللاذقية ليست مدينة، بل صيفاً مستمراً على شاطئ البحر.
كثيرة هي ذكريات العطل التي قضيناها برفقة العائلة والأصدقاء على شاطئ المتوسط. تتزاحم الذكريات بين السهرات على شاطئ البحر والغناء والرقص حتى الفجر،
كان عقلي الطفولي يعتقد أن اللاذقية ليست مدينة، بل صيفاً مستمراً على شاطئ البحر.
وبين ذكريات معاناتي الدائمة من الحروق لأنني لا ألتزم الابتعاد عن الشمس حين يجب ذلك وعشقي اللامتناهي للسباحة. ولعل أول دليل على حصولي على استقلاليتي هو سفري مع الأصدقاء لقضاء عطلة بحرية في المراهقة، وعندما كنت طالبة في قسم الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية، كان مهرجان المحبة فرصة لكي نسافر جميعاً إلى اللاذقية برفقة العروض التي نشارك فيها لقضاء أيام ممتعة مع رفاق الدراسة وبدايات المشاريع الفنية.
كانت مشاهد الغروب في البحر المتوسط تملأ المسلسلات السورية، وعندما أخرجت أول مسلسلاتي، لم أشذ عن قاعدة المخرجين، ولم يخل مسلسل لي من لقطات الغروب في البحر. صورتُ في بانياس وطرطوس واللاذقية الغروب على أنه تارة في سوريا وتارة في لبنان ومرة في فلسطين.
بعد الثورة، كان متنفسي الأساسي من ضيق الخروج الأول من سوريا هو كورنيش البحر البيروتي. كنت أمشي على حافة الشاطئ ويطمئنني الموج القادم أنني ما زلت قريبة. كنت أقضي معظم يومي قرب البحر، وكان هواؤه الرطب يخفف عني آلام أكابدها بسبب أخبار الفقد اليومي والقتل المستمر التي تصل بلا توقف من سوريا. كنت أتأمل الشمس وهي تغرب في البحر، تفيض مشاعري تأثراً بالجمال، وأذرف الدموع على وحدتنا وخذلاننا.
بعد وصولي إلى منفاي الأوروبي، كانت زيارة البحر المتوسط الأولى مربكة للغاية، لأن الشمس غيرت مكانها، ولم تغرب في البحر. شعرت بضياع حقيقي، ولم أفهم معنى الاقتلاع الذي عشناه حرفياً إلا حينما كان علي الاختيار بين مشاهدة الشمس وهي تغرب بعيداً عن اتجاه البحر، أو الأمواج المتكسرة على الشاطئ ملونة بانعكاسات الغروب.
كانت مشاهد الغروب في البحر المتوسط تملأ المسلسلات السورية، وعندما أخرجت أول مسلسلاتي، لم أشذ عن قاعدة المخرجين، ولم يخل مسلسل لي من لقطات الغروب في البحر
تعقدت علاقتي بالبحر الذي أحب حين أصبح وسيلة أبناء بلدي الوحيدة للهروب من جحيم الوطن، وكلما ابتلع البحر أفراداً وقصصاً وعائلات وأحلاماً، ازداد شعوري بأن صديقي البحر قد خانني، وتفاقم غضبي من النظام السوري، لأنه سلبنا كل ما نحب، وجرد كل شيء من معناه وجعل كل ما كنا نحب مرتبطاً بالموت حتى بحرنا.
صرت أتجنب العطل التي تقودني إلى المتوسط، ووجدت حلاً وسطاً بالاتجاه إلى المحيط الأطلسي الفرنسي حيث تغرب الشمس في "المكان الصحيح"، إذ يغيب قرص الشمس مباشرة في مياه البحر، رغم أن المحيط لا يشبه بحرنا إلا أني فضلت المحيط الغاضب على بحر يظهر هادئاً وهو يبتلعنا بصمت.
بعد سنوات من المقاطعة، قررت زيارة الجنوب الفرنسي، وبعد تردد، ذهبت إلى شاطئ المتوسط. لحظة غطست في المياه، عادت الذكريات الحلوة دفعة واحدة، فملوحة المياه مألوفة، وبريق لونها يعيد إلى الذاكرة شواطئ أعرفها جيداً، ودرجة حرارتها هي ما اعتدتُه. بدأت أسبح كما كنت أفعل، هناك، في حياة أخرى. للحظة، وأنا أسبح شاهدت قارباً سياحياً ولكن عدد الأشخاص فيه كان أكبر بقليل من المعتاد بسبب الموسم. أصابني الهلع، وتداخلت الأسئلة في رأسي: ماذا إن كان هذا قارباً للاجئين؟ ماذا لو وصل أبناء بلدي إلى ضفة النجاة وأنا أسبح سائحة؟ ماذا سيقولون وسيشعرون؟ هل سيلومونني؟ هل علي الاقتراب من القارب أكثر؟ اكتشفت بعد لحظة أن القارب ليس قارب لاجئين، فدرت على عقبي وعدت أسبح باتجاه الشاطئ، لملمت أغراضي على عجل وغادرت.
تعقدت علاقتي بالبحر الذي أحب حين أصبح وسيلة أبناء بلدي الوحيدة للهروب من جحيم الوطن، فكلما ابتلع قصصاً وعائلات وأحلاماً، ازداد شعوري بأن صديقي البحر قد خانني
مساء، عدت للمشي على حافة البحر، نظرت إليه بعتب: حتى أنت يا بحر تغيرت. لم تعد كما كنت. أصبحت قاسياً كما أصبح كل هذا العالم. حاولت التركيز على صوت إيقاع الموج، على الإيقاع لعله يعيد لي إحساس السلام الذي كان يرافق النظر إلى البحر، لكن عبثاً حاولت، فعلاقتي بالبحر لم تعد ممكنة. المرارة التي أتذكرها بمجرد النظر إليه أصبحت ترافقني.
بعد سنوات تسع من الغياب، عدت هذا العام إلى بيروت زائرة، ورغم ما حملته الزيارة من أفراح اللقاء بالأصدقاء القدامى، ظل البحر عصياً. طلبت من كل من التقيتُه أن نلتقي في مقهى على البحر، لكنني تنبّهت إلى أنني أتجنب النظر إلى الأفق، أنظر إلى البحر أمامي وأسأل نفسي، لم لا أستعيد ذلك الشعور القديم بالإلفة؟ ها هي الشمس تغرب هنا داخل البحر، وهاهو البحر يمتد أمامي واللغة العربية المحكية تملأ مسامعي، وكل شيء رائحته وطعمه مألوفان، خبز ولبنة وزعتر وشاي وأصوات الأصدقاء. أمد نظري باتجاه الأفق، فتعود الغصة لتقبض على حلقي.
في بطنه أبناء بلدي الذين حاولوا النجاة ولم يرحمهم نظام عالمي يحرمهم من اللجوء بكرامة ويمنع عنهم تأشيرات الدخول.
ما الذي جرى يا بحر؟ لم نعجز عن أن نكون صديقين كما كنا؟ البحر لم يعد كما كان، لم يعد رمزاً للراحة والسلام، وأصبح رمزاً لشكل من أشكال موتنا الكثيرة، وفي بطنه أبناء بلدي الذين حاولوا النجاة ولم يرحمهم نظام عالمي يحرمهم من اللجوء بكرامة ويمنع عنهم تأشيرات الدخول.
تتصاعد الأصوات الأوروبية المتشددة المحتجة بعد وصول أحد عشر ألف لاجئ إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. تملأ الندوات والنقاشات التلفزيونات حول إمكانية استضافة هؤلاء، أما أنا، فأبتسم في سري، فنجاة أحد عشر ألفاً تكاد تكون رسالة من البحر لكي نستعيد صداقتنا.
حاول يا بحر أن تكون رئيفاً رحيماً بمن تقطعت بهم السبل، لا تكن أنت والعالم ضدهم، حاول، علنا يوماً ما نعود صديقين، حتى ذلك الحين أستودعك أولئك اليائسين لاعنة قسوة العالم اللامتناهية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم