شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الحج إلى الصحراء... اقتفاء أثر سان ماو

الحج إلى الصحراء... اقتفاء أثر سان ماو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

الاثنين 4 سبتمبر 202301:46 م

في بداية السبعينيات من القرن العشرين، قرأت شابة تايوانية مقالاً في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" عن المنطقة التي كانت تسمى حينها "الصحراء الإسبانية"، فأخبرت أصدقاءها عن رغبتها في استكشاف الصحراء وزيارتها.

لم يكن أحد يعلم حينها، بما في ذلك الشابة التي اشتهرت بـ"سان ماو"، أن تلك ستكون بداية قصة فريدة من الارتباط الوجداني الذي سيستمر إلى يومنا هذا ليس فقط بينها وبين الصحراء، بل أيضاً مع قُرّائِها الذين وقعوا في حب المنطقة وفضاءاتها بفضل كتاباتها.

من تايوان إلى العيون

سان ماو هو اسم الكتابة الذي اعتمدته إيكو تشين بينغ (1943 –1991) وهي كاتبة ومترجمة تايوانية وُلدت في إقليم تشونغتشينغ في الصين. حياتها كانت فسحة من الرحلات والتنقل إذ اختارت عائلتُها العيش في تايوان عندما كانت في الخامسة من عمرها. تراوحت أعمالها بين الكتابة الذاتية وكتابة الترحال والروايات التأملية. درسَت الفلسفة ودرَّست الألمانية قبل أن تصبح كاتبة محترفة.

نظرتُ حولي إلى الرمال اللّامتناهية التي تحركها الريح، وإلى السماء العالية فوقها، والمشهد العظيم والهادئ

أبدت سان ماو اهتمامًا بالأدب منذ طفولتها وقرأت مجموعة متنوعة من الكتّاب من دول مختلفة، بما في ذلك "الكونت دي مونتي كريستو"، و"دون كيشوت"، و"ذهب مع الرياح". عندما سئلت عمّا ترغب في أن تصبح عندما تكبر، قالت إنها تريد الزواج من فنان كبير، وتحديداً بابلو بيكاسو.


إبّان محاولات الصين الانفتاح على العالم الخارجي في الربع الأخير من القرن العشرين، تعرفّ القراء في العالم الناطق باللغة الصينية عليها وهي تؤرخ لرحلتها في الصحراء التي تعرف اليوم بنزاع "الصحراء الغربية" أكثر من أماكنها ومدنها، عبر مقالات متفرقة تنشر دورياً على صحيفة "تايوان دايلي نيوز".

حقّقت المقالات نجاحاً باهراً واستطاعت كاتبة المقالات سان ماو أن تصنع لنفسها اسماً في الصين القاريّة وتايوان وهونغ كونغ. ستجمع هذه المقالات لاحقاً وتُنشر في كتاب سنة 1976 اختارت له المؤلفة عنوان "قصص الصحراء" [Stories of the Sahara] ليحقق الكتاب نجاحاً منقطع النظير إذ أعيدت طباعته أربع مرات في غضون ستة أسابيع من إصدار طبعته الأولى وتُرجم إلى الإسبانية والكورية واليابانية فيما صدرت لاحقاً ترجمته إلى الإنجليزية. وتجاوزت مبيعات الكتاب أكثر من خمسة عشر مليون نسخة.

لكن لم تكن حياة سان ماو سهلة على الإطلاق، إذ انتهى زواجها الأول من حبيبها الألماني الذي كان يعمل مدرساً في تايوان عندما توفي هذا الأخير على نحو مفاجئ بنوبة قلبية.

انغمست سان ماو في المجتمع المحليّ، وفي كثير من الأحيان نظرت بعين ناقدة إلى بعض العادات التي يتَّبعها

تأثرت سان ماو كثيراً وحاولت الانتحار. لم تتجاوز صدمة فراق زوجها إلّا بعد مدة ثم سافرت إلى إسبانيا وهناك تجدد اللقاء مع صديق إسباني رفضته سابقاً إذ يصغرها بسبع سنوات لكنها هذه المرة ستتزوّجه وتعيش معه في الصحراء التي كانت مستعمرة إسبانية.

هذا الأخير سيموت هو الآخر في حادثة غرق خلال عمله كمهندس بحري. صدمة أخرى لسان ماو التي يتكهن كثيرون أن وفاة زوجها الإسباني خوسيه هي السبب الرئيسي في انتحارها بعد ذلك في المستشفى العسكري في تايبيه بعد أن عانت من حالة اكتئاب طويلة.

سان ماو والمجتمع الصحراوي... ملاحظات صارمة ومحبّة

عند وصولها أوّل مرة إلى مدينة العيون، كبرى مدن الصحراء، كتبت سان ماو "نظرتُ حوليَ إلى الرمال اللّامتناهية التي تحركها الريح، وإلى السماء العالية فوقها، والمشهد العظيم والهادئ". وفي طريقها إلى المنزل الذي كان يستأجره وزوجها المستقبلي خوسيه ماريا كويرو إي رويز، رأت سان ماو قطعاناً من الماعز والجمال؛ ودخاناً ينبعث من الخيام القماشية والأكواخ. لقد شعرَت وكأنها "تسير في عالم خياليّ جديد تماماً".

حاولت سان ماو التأقلم مع المجتمع الصحراوي لكن الأمر لم يكن سهلاً. انغمست في المجتمع المحليّ، وفي كثير من الأحيان نظرت بعين ناقدة إلى بعض العادات التي يتَّبعها. فعلى سبيل المثال، كانت ردّت فعلها مندهشة من حفل زفاف تقليدي كان الهدف في نهايته انتزاع عذرية العروس الشابة بعنف "كان من المشين والسخيف أن يختتم الحفل بهذه الطريقة، انسحبتُ من الحفل بخطوات ثابتة دون أن أودع أحداً".

عرفت ماو بصراحتها المُفرطة، الأمرُ الذي يتضح من ملاحظاتها بخصوص جيرانها الصحراويين إذ تعبّر عن استيائها، وعدم فهمها، وفي بعض الأحيان، اشمئزازها الصريح من الطريقة التي يعيشون بها أو التقاليد التي يتّبعونها.


لكن من جانب آخر، نجحت سان ماو في تكوين علاقات إنسانية مع جيرانها رغم حاجز اللغة الذي بدأ في الانهيار مع تعلم سان ماو للحسّانية وهي لغة أهل الصحراء.

كان من الواضح أنها أغرمت بالمنطقة، وبدأت في الارتباط بالمكان، قائلة "لا يوجد مكان آخر في العالم كالصحراء. تُظهر هذه الأرض عظمتها لمن يحبونها فقط". وفي واحدة من أبرز لحظات حياتها في الصحراء، تحكي عن هدية غير مألوفة نالت إعجابها إلى حد بعيد في حفلة زفافها في 'فندق بارادور' الذي ما زال إلى اليوم واحداً من أشهر فنادق المنطقة "قمت بتمزيق الورق الملفوف بحماس وفتحت الصندوق. واو! نظَرت نحوي جمجمة ضخمة. إنها جمجمة جمل. عظام بيضاء مرتّبة بعناية، مع صفّ كبير من الأسنان، وعينان كبيرتان سوداوان. كنت في غاية السعادة. إن هذا هو ما ينبغي أن يلتقط قلبي. وضعتها على رفّ الكتب".

الحج إلى العيون

ليس من النادر أن تصادف سياحاً صينيين أو تايوانيين في الصحراء، بل على العكس من ذلك، والقاسم المشترك بين كثير منهم هو رغبتهم في زيارة العالم الذي كتبت عنه سان ماو قبل خمسين سنة، والتقاط ولو آثار ممّا كتبت عنه.

في محاولتنا اقتفاء أثر سان ماو، بدأنا بفندق أمام محطة الحافلات في مدينة العيون. كان يحمل اسم "فندق المحطة" سابقاً لكنّه يسمى الآن فندق "سان ماو الصحراء".

عند استفسارنا عن الأمر، تبين أن سائحاً صينياً جاء إلى العيون من أجل تتبّع مسار سان ماو، أقام في الفندق واقترح على صاحبه تغيير اسم المؤسسة إلى فندق "سان ماو الصحراء"، مؤكداً أن تغيير الاسم سيساعد الفندق في استقطاب زبائن صينيين وآسيويين إلى الفندق، وذلك ما حدث.


توجهنا بعد ذلك إلى كاتدرائية القديس فرنسيس بمدينة العيون، المكان الذي يفترض كثيرون حول العالم أنه احتضن زواج سان ماو وخوسيه.

"سان ماو لم تتزوج هنا داخل الكاتدرائية. إنها معلومة شائعة لكنها غير دقيقة. يمكنني أن أقودكم إلى مكان الزفاف لكنه حتما لم يكن هنا"، يقول القس فرحان الذي يعمل في الكاتدرائية والذي استقبلنا ودعانا إلى منزله. هناك، وقفنا على دفتر من الحجم الكبير، يسميه القس فرحان "السجل الذهبي" وهو دفتر مخصص للزوار الذين يزورون الكاتدرائية في رحلتهم لاقتفاء أثر سان ماو.

نظَرت نحوي جمجمة ضخمة. إنها جمجمة جمل. عظام بيضاء مرتّبة بعناية، مع صفّ كبير من الأسنان، وعينان كبيرتان سوداوان. كنت في غاية السعادة

يحمل الدفتر رسائل عديدة مكتوبة بخط اليد، جلّها بالصينية وبعضها بالإسبانية بينما بضع رسائل كُتبت باللغتين العربية والإنجليزية، وتعود بعض الرسائل إلى عقود من الزمن، تشترك الرسائل كلها في إظهار الحب والاحترام لسان ماو وزوجها. إحدى الرسائل التي كتبتها سائحة صينيّة من مدينة غوانجو في شباط/فبراير سنة 2014 تقول "مثلك يا سان ماو، أنا أيضا فعلتها وجئت إلى الصحراء".

مثلك يا سان ماو، أنا أيضا فعلتها وجئت إلى الصحراء

عند سؤاله عن سبب توافد السياح الصينيين إلى الصحراء يقول القسّ فرحان "لقد كانت كاتبة عظيمة. سُحر الناس بأسلوبها وقادهم الفضول إلى اكتشاف العالم الذي عاشت فيه وكتبت عنه. إنه أمر منطقي بالنسبة إلي"، مضيفاً أنه يتوقع استمرار هذه الظاهرة طالما أن كتابات سان ماو ما زالت تُقرأ وتحظى بشعبية كبيرة بين أوساط الشباب، مؤكداً رغبته في الكتابة عن سان ماو وعلاقتها بكاتدرائية مدينة العيون.


توفيت سان ماو في مستشفى تايواني في الرابع من يناير عام 1991. كانت في السابعة والأربعين من عمرها. صُنّفت وفاتها على أنها انتحار وأثارت موجة من الحزن في تايوان. في سنة 2019 احتفل "غوغل" بما كان سيكون عيد ميلاد سان ماو السادس والسبعين ووضعت صورة لسان ماو جالسة على كثبان رملية، ومازال إرث سان ماو متواصلاً بين الشباب إلى اليوم، إذ وصلت صفحة تنشر اقتباسات من أعمال سان ماو على موقع التواصل الاجتماعي الصيني "ويبو" أكثر من مليون مشترك، وستبقى رحلات الحج إلى الصحراء مستمرة لدى قراء سان ماو ومعجبيها، كما يتنبأ القس فرحان، كما ستظلّ الصحراء ذلك المكان الموحش والأسطوري الذي يغرم بيه الغريب والقريب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard