كانت مزحة عابرة في ذلك اليوم، لكنها لم تفلت من رقابة خوارزميات فيسبوك: أعلن نادي ليفربول الإنجليزي الشهير استقدام المهاجم الأوروغوياني داروين نونيز، لكن الصورة الفوتوغرافية الترويجية للمهاجم الجديد بدت شديدة الشبه بالممثل الأميركي، ذي الأصول اللاتينية، ماني مونتانا.
وهكذا، حين شاركتُ صورة لاعب كرة القدم معلقاً بـأن مونتانا (أي الممثل) لن يفيد ليفربول كثيراً، فوجئت بحذف البوست، وبتحذير من فيسبوك يتهمني بترويج أخبار زائفة! ولو كان يمكن وصف خوارزمية فيسبوك بأنها "تفهم"، فيبدو أنها "فهمت" أنني أقول إن نادي كرة القدم الشهير اشترى ممثلاً أمريكياً ليلعب ضمن صفوفه، وهكذا فقد "ضبطتني" وأنا أروّج هذا الخبر الزائف.
هل سيستلزم الأمر يوماً ما، إنتاج تطبيقات ذكاء بإصدار خاص للعالم العربي، حيث تسعين بالمئة مما نقول لا يعني مباشرة ما نقصد، تحسباً من سيوف الدين والجنس والسياسة؟
ولو كان للخوارزمية شعور لربما أحسّت في مثل تلك اللحظة بالمجد الذي يشعر به الحمقى في الأفلام الكوميدية، حين يعتقدون أنهم كشفوا أو أفحموا الآخرين، على طريقة سرحان عبد البصير في "شاهد ما شفش حاجة"، حين يقول متذاكياً: "طب والدم اللي على البنطلون ده جه منين؟"، غافلاً عن أنه بهذا السؤال يكاد يدين نفسه بجريمة لم يرتكبها، فالبنطلون بنطلونه أما الدم – فلحسن الحظ- مجرّد طلاء. في الدراما يضحك المتفرج على سذاجة من يظن في نفسه الذكاء، أما على فيسبوك، فقد يعاني المستخدم من الحظر أو الإيقاف لمدد متفاوتة.
على كل حال، خفت حماس فيسبوك لمطاردة الأخبار الزائفة، ربما لاكتشافه أنه لا يزال بعيداً جداً عن الحد الأدنى لذكاء الإنسان، فضلاً عن أن يفهم المزاح والسخرية، وبالتأكيد، عجزاً عن ملاحقة التلاعب الحقيقي. ومن ناحية أخرى، انطلقت برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بعيداً عن بدائية خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، وانطلقت معها النقاشات الفلسفية والتكنولوجية في آن معاً.
ورغم الحماس والخوف، لا يزال علماء يتحفّظون على إطلاق كلمة "ذكاء" على ما تجيده التطبيقات، من عينة تشات جي بي تي، إذ إنها، رغم سرعتها وتطورها، لم تحقق بعد القفزة الأهم في عالم الذكاء؛ قفزة الخلق والإبداع.
إنها تطبيقات تجعل الأجهزة أسرع وأكفأ، وتهدّد العديد من العمليات الذهنية البشرية، لكنها ليست خلّاقة بعد، ما يمنح الخائفين – على وظائفهم أو على مستقبل البشرية – فسحة من الوقت للتفكير والاستعداد للحظة "ربما لا تأتي أبداً"، على طريقة فيلم "الأب الروحي" في الحديث عن العروض التي لا يمكن رفضها.
غير أننا في هذه البقعة العالمثالثية، بخصوصياتها العربية، قد نحتاج إلى أن نضيف سؤالاً إضافياً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي، يُضاف إلى أسئلة الخلق والابتكار والوظائف، سؤال يتخطى حتى مسألة فهم المجاز والبلاغة، ويتصل بمعظم ما نقصده بأحاديثنا داخل عوالمنا الرقابية الحديدية، رقابة الواقع لا رقابة فيسبوك، سؤال يتصل بما وراء السطور، وبقولنا كلمات تعني في معظم الوقت شيئا آخر، كما صار قبل أيام مع الفنانة ليلى علوي، وهي تعتذر عن عدم الحضور لتكريمها ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي تقام دورته الثلاثين في الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر الجاري.
في بيان اعتذارها، قالت ليلى، بعد توجيه الشكر للجنة المهرجان: "نظراً لظروف خارجة عن إدارتي متعلقة بارتباطات فنية وسفر، ترتب عليها اضطراري للاعتذار عن التكريم الذي كنت أتمنى التواجد في القاهرة لاستلامه من حضراتكم وتشرفت به كثيراً". وتابعت: "تبقى خشبة المسرح لها مكانة خاصة لأي فنان، فهي مصدر الطاقة بالنسبة لي".
لم يخفِ القائمون على مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، أنهم دعوا الفنانة ليلى علوي لكسب "الجذب الإعلامي"، فاعتذرت الفنانة لرفع الحرج عنها وعن اللجنة المنظمة
أشاد النقاد، والصحافة وغالبية أهل المسرح، باعتذار ليلى علوي، التي إن كانت بلا شك نجمة تلفزيونية وسينمائية، إلا أن علاقتها بالمسرح واهية، تقتصر على أدوار محدودة في شبابها المبكر أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أما بخصوص المسرح التجريبي، أي موضوع المهرجان، فليس لها به أدنى علاقة، ولم يخفِ القائمون على المهرجان – أمام الانتقادات- أنهم دعوها لكسب "الجذب الإعلامي"!
الأمر الذي أساء للمهرجان وللفنانة في الوقت نفسه، وتسبب في جدل تصاعد حتى أنهته ليلى باعتذارها الذي لم تتطرّق فيه إلى أي من نقاط ذلك الجدل، لكن النقاد والصحافة، وجميع المهتمين تقريباً، أدركوا السبب الحقيقي للاعتذار (أي رفع الحرج عن ليلى وعن اللجنة التي دعتها)، على الرغم من أن حرفاً واحداً في البيان لم يذكر ذلك، فماذا لو أن برنامجا للذكاء الاصطناعي "قرأ" ذلك الاعتذار، هل "يدرك" معناه؟ هل "يرى" ما بين السطور أو ما ورائها؟ وهل يستخلص منه الحقيقة؟ وهل "يفهم" معنى أن مجتمعاً قد تعود على المعاني غير المباشرة، لدرجة أنه يقرأ بياناً يهم قطاعاً من الرأي العام، فيفهم منه ما لم يرد فيه تصريحاً ولا تلميحاً؟ وتتناوله صحافته بمعناه الحقيقي لا المعنى المباشر.
وبمد الخط على استقامته، هل سيستلزم الأمر يوماً ما، إنتاج تطبيقات ذكاء بإصدار خاص للعالم العربي، حيث تسعين بالمئة مما نقول لا يعني مباشرة ما نقصد، تحسباً من سيوف الدين والجنس والسياسة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين