وسط ساحة قصبة تاوريرت التاريخية في مدينة ورزازات جنوب شرق المغرب، تَحلَّق الجمهور حول شاعرٍ وشاعرة أمازيغيّين توسّطا الحلقة واقفين، فيما كان الحاضرون، رجالاً ونساءً، جالسين يرتدون اللباس الأمازيغي المعتاد في الأعراس والأفراح ورقصات "أحواش".
افتتح الشاعر كلامه بالسّلام وتحية الحاضرين، وأردف متوجّهاً إلى الشاعرة: "أتوجه إلى 'تاونزا' لأقول لها بعض الكلام". وتعني كلمة "تاونزا" بالعربية "ناصية شعر المرأة"، وترمز أيضاً إلى شرف المرأة، وتطلَق كذلك على تاج من صنع محلي تضعه الفتيات الأمازيغيَّات على رؤوسهن.
مبارزة على "مسرح القبيلة"
كان واضحاً للعيان أن الشاعر افتتح اللقاء بدعوة المرأة الى المبارزة الشعرية، ولتحديد الموضوع أضاف ما معناه بالعربية "سنصبر لـ'تاوزنزا' (ويقصد المرأة) لأنها امتلكت السلطة واستطاعت التحكم فينا وأعلى الله من شأنها، غير أن الصناعة الصينيّة زودتها بمتاعب ومشكلات، بدءاً من جهاز التلفاز وانتهاءً بالهاتف الذكي، الذي انشغلت به كل النساء حتى صار يصرفهن عن مهامهن، ومن داخل المطبخ يتواصلن مع أشخاص خارج أرض الوطن في أوروبا وأمريكا، ولم تعد لديهنّ الرغبة في أبناء القرية".
تقاطعه الشاعرة وترد عليه بشعر أمازيغي على الإيقاع والبحر الشعريّ نفسيهما، بما معناه بالعربية: "هذه من سنن تطوّر وتقدّم البشرية، وإن الشاعر مغفل وجاهل ولم يواكب التطور وعليه أن يعتني بأبنائه وبناته وتربيتهم تربيةً حسنةً متوازنةً تراعي التطور الحديث للمجتمع، وإن لم يستوعب هذا التطور بعد، ويدرك أن القرية لم تعد منغلقةً على نفسها، فعليه أن يصمت ويترك الخوض في أمور العلم لمن يدركون قيمته".
افتتح الشاعر كلامه بالسّلام وتحية الحاضرين، وأردف متوجّهاً إلى الشاعرة: "أتوجه إلى 'تاونزا' لأقول لها بعض الكلام"
لا يتأخر الشاعر، ويرد عليها بأن ردّها كان قاسياً، وأن في جعبته الكثير للردّ عليها وفي وسعه إفحامها، لكنه آثر الإحجام عن قول كل شيء، ولا يرغب في 'وضع لسانه على كتفه' تشبيهاً للّسان بالعصا التي يضعها الشخص على كتفه قبل أن يوجه ضربات إلى خصمه.
يُرجع الشاعر ذلك إلى خوفه وخشيته، وتنبهه إلى وجود رجال السلطة والأمن بين الحضور وهواتف توثق وتسجّل بالصوت والصورة ما يُلزمه التريث وأن يزن كلامه لأن لكل مقام مقالاً.
توالى الرد والجذب بينهما في مبارزة شعرية شيّقة أمتعت الجمهور، إلى أن ختمها الشاعر بالدعاء للملك والبلاد والعباد بالخير والاستقرار والازدهار.
كانت هذه وقائع ومشاهد من المحاورة الشعرية التي تُسمّى بالأمازيغية "أباراز نايت أومارك"، التي تُنظّم في إطار فعاليات المهرجان الوطني لفنون "أحواش" من تنظيم وزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية، وتهدف الوزارة إلى التعريف بهذا النوع من التراث الأمازيغي المنتشر في العديد من القرى الأمازيغية جنوب شرق المغرب والمحافظة عليه من الاندثار.
شعر البديهة والارتجال
عن تعريف "أبراز نايت أومارك"، يقول محمد أكوناض، الكاتب والرئيس السابق لرابطة الكُتّاب بالأمازيغية في تصريح لرصيف22: "هو نوع من الشعر يتحاور فيه شاعران أو أكثر حول موضوعات مختلفة، ويُعرف أيضاً بشعر البديهة لأن الشعراء يتفاعلون مع ما يطرحه الشّاعر في 'أسايس'، وهي كلمة تعني ساحة الرقص أو نظم الشعر بحضور الجمهور، ويرتجل الشعراء ويبدعون في اللحظة نفسها التي يتلقّون فيها السؤال، وغالباً ما تدور مواضيعه حول المنطقة أو محيط الشاعر من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية. ويلتزم المتحاورون باحترام أعراف كل منطقة والتنوّع اللغوي والقيم المتعارفة فيها، وأحياناً يتم استدعاء شعراء من مناطق أخرى من جنوب المغرب".
فيما يرى محمد الخطابي، الأستاذ الباحث في جامعة بن زهر في أكادير (جنوب)، أن "'أباراز نايت أومارك' مرادفها باللغة العربية 'شعر الهجاء'، غير أن ما يقع في 'أبراز نايت أومارك' لا يمكن أن ينزلق إلى ما يسمى بالهجاء المقذع أي الإساءة بطريقة فجّة إلى المنافس".
"أبراز نايت أومارك" هو نوع من الشعر يتحاور فيه شاعران أو أكثر حول موضوعات مختلفة، ويُعرف أيضاً بشعر البديهة لأن الشعراء يتفاعلون مع ما يطرحه الشّاعر في 'أسايس'، وهي كلمة تعني ساحة الرقص
ويضيف الخطابي: "يمكن تعريفه أيضاً بأنه منافسة عن طريق نظم الشعر على إيقاع بحر معيّن لا يُحدَّد مسبقاً بل يقوم الشعراء فقط بتحديده لحظة المبارزة، والشاعر المبادر إلى افتتاح الحوار هو الذي يحدّد بحر نظم شعر 'أبراز'، وتالياً على المنافِسين المشاركين اتّباع النهج والإيقاع نفسيهما واحترام الموضوع إلى أن ينتقل الشّاعر الذي افتتح الحوار إلى موضوع آخر. والمتعارف أيضاً في هذا الباب هو ألا يزلّ منافس إلى ما يُعدّ مهيناً أو مسيئاً أخلاقياً إلى المنافس الثاني أو بقية المشاركين".
ويختلف الاصطلاح الذي يُعرف به هذا النوع من الشعر من مجال جغرافي إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، ففي مناطق سفوح جبال الأطلس الكبير، خاصةً 'تيديلي'، يتميز بالنظم وبمشاركة المتنافسين ذكوراً وإناثاً بعكس مناطق أخرى تقتصر فيها المشاركة على الرجال فقط.
يُسمى هذا الفن أيضاً "أنعبار" في مناطق دادس وقلعة مَكُّونة، فيما اشتهرت مناطق الأطلس المتوسط بظاهرة "إمديازن"، حيث يتم نظم الشعر من طرف ثنائيّ شهير، أو جماعَتين متنافستين متبارزتين.
وتظل عبارات "النظم" و"أنعبار" و"أَبَراز" مرتبطةً بـ'المبارزات". ومن الظواهر الفريدة في إيقاع "إمديازن" في جبال الأطلس المتوسط، خاصةً في نواحي صفرو، أن بعض الشعراء يَنظمون شعراً بإيقاع شعريّ أمازيغي وكلمات من الدارجة (العاميّة) المغربية. واشتهرت هذه المناطق بشيوخ فطاحل في هذا الباب.
قضايا القبيلة في مبارزة شعرية
خلال أداء المبارزات الشعرية تصطفُّ النساء في جانب، والرجال في الجانب المقابل في "أسايس" الذي يعني بالأمازيغية المرقص، حيث تؤدى رقصة فن أحواش أو نظم الشعر، ويكون ذلك في المساء.
ويُعدّ هذا الفن فرصةً لجمهور الأمازيغ منذ مئات السنين للاستمتاع والترفيه والتنشئة الاجتماعية عبر معالجة مختلف الظواهر والقيم، ولم تكن حينها وسائل الإعلام والتسلية والترفيه قد ظهرت بعد. يبدأ الحوار بين الشعراء، ويتابعهم الجمهور ويتفاعل معهم، وتطلق النساء الزغاريد وترميهم بأوراق نبات الرياحين تشجيعاً لهم واستحساناً لردودهم.
يرتدي الشعراء لباساً أمازيغياً خاصاً وأنيقاً ومحترماً يُكسبهم هيبةً ووقاراً، ولا يلتحق بهم إلا من اكتسب الدراية والقدرة على المحاورة والإجابة عن أسئلة الشعراء المتحاورين والمتبارزين.
خلال أداء المبارزات الشعرية تصطفُّ النساء في جانب، والرجال في الجانب المقابل في "أسايس" الذي يعني بالأمازيغية المرقص، حيث تؤدى رقصة فن أحواش أو نظم الشعر، ويكون ذلك في المساء.
ويحاول كل شاعر الدفاع عن وجهة نظره أو قبيلته وعاداتها من أجل إدخال الفرجة وإذكاء الحس النقدي لدى الجماهير، ويمكن لأي شخص من الجمهور سواء من الرجال أو النساء، الالتحاق والمشاركة في المحاورة كلما سنحت له الفرصة.
تتعدد المواضيع التي يتناولها الشعراء في "أبراز نايت أومارك"، وتعكس مختلف هموم وانشغالات سكان المنطقة التي يُنظّم فيها الاحتفال، وقد يكون الموضوع غزلياً أو دينياً أو هجائياً دون أن ينزل الشاعر إلى ما يسيء أخلاقياً إلى المنافس. وقد يكون التنافس حول مدى إتقان موضوع من الموضوعات، مثل أداء فرائض الحج حيث يستعرض أحد المتنافسين أحد الفرائض ثم يكمل المتنافس الثاني تتمّتها أو ما يجب أن يلتزم به المسلم من أخلاق وسلوك عن غيره، وقد يكون الموضوع مرتبطاً باستعراض الأعراف التي تلتزم بها القبيلة، أو موضوعاً سياسياً مثل الانتخابات وأداء المجالس الجماعية، وكذلك القيم الكونية التي يجب التحلي بها، مثل الصدق والتسامح والكرم وحسن الضيافة، وتتم معالجة المواضيع في قوالب فنية شعرية مؤثرة في الجمهور.
تراث شعري أمازيغي يقاوم الاندثار
حافظ الشعراء الأمازيغ على هذا النوع من الأداء الشعري باعتباره من أفضل وأحب الأنواع لدى المشاركين والجمهور لأنه يكشف سرعة الأداء والبديهة والذكاء واصطياد الأخطاء، وما زال يتمتع بشهرة كبيرة وبتعاطف مع الجمهور في مناطق الأطلس الصغير سواء في سفحه الشمالي أو الجنوبي، ونذكر على وجه الخصوص مناطق سوس، تالوين، إغرم وتافراوت، وفي السفح الجنوبي، خاصةً في إقليم طاطا، حيث يتواجد شعراء فطاحل في قرية "تاكموت"، وقد نشر رواد مواق
ع التواصل الاجتماعي تسجيلات لمئات من المبارزات والمواجهات الشعرية وأبرزهم الشاعران الثنائي "عثمان أزوليض" و"لحسن أجماع" وشعراء آخرون.
يتأسف محمد أكوناض على رحيل العديد من روّاد الشعر الأمازيغي المعروفين بمشاركاتهم في "أبراز نايت أومارك"، وضياع قصائدهم النفيسة التي لم يُحفظ أو يُدوّن منها إلا القليل، خاصةً قصائد الشاعرات اللواتي حاورن فطاحل الشعراء في أسايس وتفوقن عليهم.
ويتصف الممارسون لهذا النوع من الشعر بالموهبة وامتلاك الخبرة في الاستماع وحفظ الكثير من الأشعار، بعد حضور ومتابعة الكثير من المحاورات والمبارزات الشعرية والتعرف على تقنيات ومهارات المناظرة الشعرية وما تتطلبه من سرعة البديهة.
وما زال هذا النوع من الشعر صامداً في جنوب المغرب، بالرغم من وفاة العديد من الشعراء الأمازيغ، بالإضافة إلى التطورات التي طرأت على القرى والبوادي الأمازيغية بسبب الهجرة الكثيفة نحو المدن، وكذلك توالي سنوات الجفاف وتراجع النشاط الفلاحي، حيث كانت الاحتفالات والمواسم تُنظّم من قبل السكان بعد اختتام موسم الحصاد وجمع المنتوج.
وهناك محاولات عديدة ومبادرات للشباب لحمل مشعل نظم الشعر الأمازيغي والسير على نهج الشعراء السابقين. وعبّر محمد أكوناض عن تفاؤله بأن الشعر الأمازيغي سيشهد صحوةً وحياةً جديدةً، خاصةً بعد الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية من طرف الدولة لغةً وطنيةً، وتدريسها في المؤسسات التعليمية، وشرع بعض المؤلفين والكتاب في جمع أغاني رواد هذا النوع من الشعر وتدوينه، وهو ما سيضمن له البقاء والاستمرارية.
كما أكد أكوناض، أن هذا الشعر الأمازيغي يُعد الركيزة التي يعتمد عليها "الروايس" أو المجموعات الغنائية، وغالباً ما يكون بعض الشعراء مغمورين من حيث إنتاج الأشعار، والبعض منهم يُزوّدون المجموعات الغنائية، ويتقاضون مقابلاً مادياً عن تلك الأشعار دون ذكر أسمائهم وتنتقل أشعارهم بين الناس دون معرفة أصحابها.
وفي هذا الإطار يذكر أكوناض، أن فنانةً أمازيغيةً شهيرةً في المجال الفني، تمنح وتدفع مقابلاً مادياً للشعراء الأمازيغ الذين يمدّونها بالأشعار التي تغنّيها دون معرفة الجمهور لمصدر كلمات أغانيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.