حين تضاجع ماعز الأسلمي والغامدية في علاقة "زنا"، حاول النبي محمد أن يلتمس له العذر ولا يعاقبه، فسأل: أَبِهِ جنون؟ فقالوا إنه ليس بمجنون. فقال: أشَرِب خمراً؟ فقالوا له إن فمه ليست فيه رائحة خمر. هكذا تخبرنا العديد من المصادر حول بحث النبي عن سبب يلتمس من خلاله العذر لماعز فلا يعاقبه، فسأل عن الخمر والجنون لأنهما يُذهبان العقل، وتالياً يجعلان الشخص غير مسؤول عما يفعل فلا يُعاقَب.
وحين هرب النبي والملك داود إلى مدينة جليات الجبار الذي قتله، همَّ الناس أن يقتلوه، فادّعى الجنون لينجو بنفسه، لأن المجنون لا يعاقَب على تصرفاته، حسب ما جاء في سفر صموئيل.
ويقول المتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمُ". فالعقل دائماً ملازم للمسؤولية بين البشر في حضارات وثقافات مختلفة، ولذلك فإن ادّعاء الجنون قد يكون وسيلةً لتجنّب المسؤولية، يلجأ إليه من يجد نفسه متورطاً في موقف قد يكلفه أشياءً لا يستطيع أداءها.
من الصوفية من ادّعى الجنون، لأن الجنون يمنح الإنسان الحرية، للتعبير دون لوم من المجتمع، وهنا يستطيع الصوفي البوح بأفكاره حول الزهد والحب الإلهي التي تصل إلى حدود لا تقبلها السلطتان الدينية أو السياسية
المسألة شائعة في العصر الحديث، حيث يلجأ مدانون في قضايا جنائية إلى ادّعاء الجنون لتجنّب العقاب بالسجن والإعدام ولكننا سنرصد في السطور التالية مشاهير ادّعوا الجنون لتجنّب حمل المسؤولية أمام السلطتين السياسية والدينية، وذلك من واقع أزمنة وثقافات مختلفة.
ادّعاء الجنون لأسباب لها علاقة بالسلطة
في التاريخ، سواء العربي الإسلامي أو غيره، هناك قصص مختلفة في هذا الجانب، نذكر منها قصتين من التاريخ الإسلامي، وأخرى من التاريخ الأسطوري الأوروبي:
الحسن ابن الهيثم
يكثر ترديد قصة العالم الموسوعي الحسن بن الهيثم، الشهير باجتهاداته في الفيزياء والرياضيات والهندسة وغيرها، والمولود في البصرة، والذي ادّعى أن لديه قدرةً على بناء سد على النيل جنوب مصر لتنظيم فيضان الماء، فأرسل له الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ليأتيه، ولكنه حين ذهب جنوب أسوان وجد أن الجغرافيا المحيطة بالنيل لا تنسجم مع فكرته الهندسية، فعاد إلى القاهرة واعتذر للحاكم، الذي قبل اعتذاره وعيّنه في وظيفة إدارية.
لم يسعد ابن الهيثم بالوظيفة، وخاف أن يخطئ فيعاقبه الحاكم فادّعى الجنون، فصدّقه الحاكم وأمر بأن تحدّد إقامته داخل منزله، وكان قبواً بجوار الجامع الأزهر، حسب ما توضح الدكتورة إيناس محمد البهيجي في كتابها "الدولة الفاطمية".
ولكن في كتابه "تاريخ فلاسفة الإسلام"، ينقل محمد لطفي جمعة عن "تراجم الحكماء" لأبي الحسن القفطي، أن ابن الهيثم كان قد ادّعى الجنون وهو لا يزال في البصرة -وكانت في ذاك الوقت تحت الحكم العباسي المعادي للفاطميين- كي يجد مبرراً لترك بلاده والذهاب إلى القاهرة عاصمة الفاطميين، لتحقيق حلمه الهندسي، الذي كان شبيهاً بفكرة السد العالي الذي أقيم في القرن العشرين.
بهلول
لا توجد رواية واحدة حول ادّعاء بهلول، "أبو وهيب بهلول بن عمر الصيرفي"، الجنون. كما لا توجد رواية واحدة أكيدة على شخصيته نفسها، ولكن ضمن الروايات ما جاء في "غرائب الأخبار" للتستري، حسب ما نقل عنه محمد باقر الأصفهاني الخوانساري في موسوعته "روضات الجنان في أحوال العلماء والسادات"، حيث يذكر أن الخليفة العباسي هارون الرشيد أراد توليته القضاء بناءً على ثناء أصحاب الرشيد على علمه، فرفض بهلول، ولتجنّب غضب الرشيد عليه ادّعى الجنون وصار يمشي في شوارع بغداد وبين فخذيه قصبة يجرّها على الأرض وكأنه يمتطي حصاناً، ويقول: "خلّوا الطريق لا يطأكم فرسي"، فقال الناس: جُنّ بهلول، فقال هارون: ما جُنّ ولكن فرّ بدينه منا. وبقي بهلول على حاله حتى مات.
هناك طعن في صحة هذه الرواية، وطعن في أن بهلول هو أبو وهيب بهلول بن عمر الصيرفي، ولكن الأكيد أن الكوفة في العهد العباسي شهدت الكثير من البهاليل (مدّعي الجنون)، الذين نطقوا بالحكمة وقالوا كلاماً لا يصدر من مجانين أبداً، بل ادّعوا الجنون اتقاءً لغضب السلطتين السياسية أو الدينية اللتين كانوا على خلاف معهما، حتى قيل إن أعدادهم كانت بالمئات، على مدار القرون الإسلامية الأولى، حسب ما نفهم من كتاب "عقلاء المجانين" للنيسابوري.
أوديسيوس
أوليسيز أو أوديسيوس، ملك إيثاكا (جزيرة يونانية)، كان ممن ادّعوا الجنون هرباً من المشاركة في حرب طروادة، التي لم يكن مقتنعاً بخوضها في البداية، فكان يأخذ المحراث ويحرث مياه البحر، تجنباً للحرج أمام ملوك الإغريق الراغبين في الثأر لعرضهم من الطرواديين.
ادّعاء الجنون قد يكون وسيلةً لتجنّب المسؤولية، يلجأ إليه من يجد نفسه متورطاً في موقف قد يكلفه أشياءً لا يستطيع أداءها.
ولكن بالاميدز، رسول ملوك الإغريق إلى أوليسيز، استطاع بحيلة أن يكتشف أن ملك إيثاكا ليس مجنوناً وإنما يدّعي الجنون، حين وضع له ابنه أمام المحراث، فتجنّب أوليسيز أن يؤذيه، وهنا انكشفت خديعته، حسب ما تخبرنا "الإلياذة" ملحمة هوميروس الشهيرة.
القصة بالطبع أسطورية، ولا نستطيع عدّها حقيقةً مؤكدةً، ولكننا لا نستبعد وجود صدى للحقيقة مرتبط بها، فالأساطير ليست أكاذيب محضة.
حباً في الله وهرباً من خلقه... الجنون حرية
في كتابه "التصوف الإسلامي وأثره في فنون الأدب العربي"، يتجه الدكتور قيس كاظم الجنابي، إلى أن من الصوفية من ادّعى الجنون، لأن الجنون يمنح الإنسان الحرية، للتعبير دون لوم من المجتمع، وهنا يستطيع الصوفي البوح بأفكاره حول الزهد والحب الإلهي التي تصل إلى حدود لا تقبلها السلطتان الدينية أو السياسية، كذلك يستطيع الصوفي نقد الواقع بشكل لا يعرّض حياته للخطر كما الحسين بن منصور الحلاج الذي أُعدم بسبب أفكاره؛ فكان الجنون نوعاً من الرفض السلبي لواقع متقلب وإدانة خفية لمتغيرات سياسية وثقافية واجتماعية شهدها المجتمع العربي آنذاك.
ومن هؤلاء المتصوفة الذين عدّ الجنابي أنهم ادّعوا الجنون:
أبو بكر الشِّبلي
يوضح الجنابي أن أبا بكر الشبلي (تـ334هـ-945م)، كان صديقاً وتابعاً للحلاج وشهد مأساته، وفي هذا يقول: "أنا والحلاج في شيءٍ واحد، فخلصني جنوني وأهلكه عقله". وكان الشبلي يُشاهَد في شوارع بغداد يحرق الطعام ويمزق الملابس، فيعاتبه المارة على أفعاله فيقول: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برّاء مما تعبدون".
وكثيراً ما كان يظهر الشبلي هائجاً في هيئة المجانين متلعثماً ومردداً كلاماً ليس متزناً، ولكنه كان ينطق بالحكمة مستلهماً إياها من كلام المجانين، حتى أن مجنوناً كان يصيح: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله. فسمعه الشبلي فقال:
جُننتُ على ليلى فقلتُ لهم/الحبُّ أيسرُه ما بالمجانينِ
وقال أيضاً:
باح مجنون عامر بهواه/وكتمتُ الهوى ففزتُ بوجدي
عبد القادر الجيلاني
الإمام عبد القادر الجيلاني (تـ561هـ)، من أشهر مشاهير الصوفية، ومن رحم طريقته القادرية خرجت العديد من الطرق الصوفية.
كان الجيلاني يتظاهر بالخَرَس والجنون لينفر الناس منه، ويبعدهم عنه، ولا يشغلونه عن ربه، فأقام في خرائب وصحراء بغداد نحو 25 عاماً، لا يأنس الخلق ولا يأنسونه.
ذات مرة حُمل إلى المارستان (مستشفى المجانين)، وفيه دخل في حال من أحواله حتى ظن الناس أنه مات، وأحضروا له الكفن، وفي أثناء تغسيله استفاق، حسب ما ذكر جعفر البرزنجي في كتابه "الجني الداني في ذكر نبذة من مناقب القطب الرباني".
سعدون المجنون
قيل إن اسمه سعيداً "أبو عطاء البصري"، كان يعيش في بغداد، ويعدّه عوامها مجنوناً (تـ190هـ)، ولكنه لم يكن كذلك. يقول سعدون عن جنونه "يزعمون أني مجنون وما بي من جنون، ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظامي، وأنا والله من حبه هائم مشغول".
ويتذمر سعدون من صحبة الناس، واصفاً إياهم بالعقارب فيقول:
خذ من الناس جانباً وارضَ بالله صاحباً/قلت الناس كيف شئت تجدهم عقارباً.
ونستطيع قراءة الكثير من القصص حول سعدون وأفعاله وأقواله التي يبدو منها الجنون، على عكس حقيقتها، في كتاب "عقلاء المجانين" للنيسابوري.
رهبان مسيحيون على خطى الصوفية أو العكس
الملاحظ أن ادّعاء الجنون لأسباب دينية لا يخص الصوفية المسلمين فقط، بل نجدها بين الرهبان المسيحيين أيضاً، وقد ذكرنا في بداية المقالة أن ادّعاء الجنون له صدى في الكتاب المقدس، من خلال قصة النبي والملك داوود. ولكن دعونا نذكر هنا قصتين شائعتين بين المجتمع المسيحي المصري.
عبدالمسيح المناهري
عبد المسيح المناهري المقاري (تـ1963م)، كان راهباً في دير الأنبا مقار في برية شيهيت، في صعيد مصر، واشتهر بزهده وتقواه، ما جعل البابا يؤانس التاسع عشر يقرر رسامته أسقفاً، وهو منصب ذو سلطة والتزامات يكرهها عبدالمسيح لأنها "مجد باطل" في رأيه، فادّعى الجنون كي يفلت من التكليف بالمنصب، ونجحت الحيلة.
ادّعاء الجنون لأسباب دينية لا يخص الصوفية المسلمين فقط، بل نجدها بين الرهبان المسيحيين أيضاً، وله صدى في الكتاب المقدس، من خلال قصة النبي والملك داوود
وكان عبد المسيح يستعمل أسلوب الجنون كثيراً، حتى أنه أخبر من حوله بيوم وفاته ونياحته، فقال: "أنا سوف أكلل وأفرح يوم العيد"، فاعتقد من حوله أنه يدّعي الجنون كعادته، ولكنه بالفعل تنيح يوم عيد القيامة.
القصة نقلتها مواقع مسيحية كثيرة، وموجودة بالتفصيل في كتاب "سيرة قديس عاصر: القس عبد المسيح المقاري" للأنبا مينا مطران جرجا.
يعقوب صليب المسعودي
من القصص الشائعة أيضاً بين المجتمع المسيحي المصري، ادّعاء القمص يعقوب صليب المسعودي (تـ1936م) الجنون، حيث كان "أب اعتراف" في دير البراموس، وذات يوم شب حريق في طاحونة الدير، وكان مرتكب الفعلة راهب في الدير، فعل ذلك كرهاً بالعمل ورغبةً في التفرغ للعبادة، ولكنه بعد أن فعل ذلك ندم وذهب إلى القمص يعقوب واعترف له وبكى.
هنا قرر يعقوب أن ينقذ الراهب فادعى الجنون، وقال إنه هو الذي حرق الطاحونة، حتى أنه أودع مستشفى المجانين، وظل فيها فترةً، ولكن الأطباء لاحظوا أنه سليم، وأنه يمارس الوعظ بين المرضى والعاملين في المستشفى فأخرجوه بعدها.
والقصة تحولت إلى مسرحية أعدّها فريق الشهيد جورجيوس المسرحي، بعنوان "مسجون ترانزيت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون