تحضر في الأدب تلك الأعمال القادرة على التعبير عن تلك الجدلية بين العقيدة والجسد، بين القناعة العقلية وبين معطيات الجسد، بين الفكر وبين الحس الدافعَين إلى سلوكيات ومصائر مختلفة. وضمن هذه الإطر يمكن قراءة مسرحية "مولانا"، كتابة فارس الذهبي، تمثيل وإخراج نوار بلبل، والتي قُدّمت على مسارح عربية وعالمية عدة.
ويختار المؤلف المسرحي الفضاء المكاني والثقافي المناسب لمعالجة موضوعته، وهي حارات الشيخ محي الدين الدينية الشعبية في مدينة دمشق، وفي أوساط البيئات الصوفية والمشيخية.
أسئلة الجسد في عوالم الصوفية والحج
تتبدى أهمية اختيار الفضاء المكاني والثقافي الملائم لمعالجة جدلية العقيدة والجسد، باعتبارها العنصر الأساسي في بناء العالم الفكري والوجداني القادر على مناقشة هذه الجدلية، وهذا ما يدفع المفكر نصر حامد أبو زيد، في التركيز على أهمية الفضاء في الافتتاحية التي كتبها للنص المسرحي، ففضاء العرض، هو سفح جبل قاسيون، حيث مرقد ابن عربي في دمشق بمآذنها وقبابها وباختلاط أصوات المؤذنين بأصوات المنشدين، بأصوات الأغاني الصادرة عن المذياع، بأصوات الباعة والمنادين على السلع في السوق. وهي أصوات لا تقدّم خلفيةً للمشاهد، بل هي جزء من العرض، ينجح المؤلف في توظيفها كجوقة بحسب المقام والحال، حال البطل ومقامه. اختلاط الأصوات هذا وتعددها واختلاف طبقاتها وتنغيماتها ماذا تعني؟ أوركسترا الموسيقى الكونية؟ ربما.
على مستوى الجنسانية، تتميز رواية "خاتم" للكاتبة السعودية رجاء عالم، بمعالجتها لمفاهيم العبور الجنسي، من خلال رواية تسرد حكاية امرأة تعيش تداخلاً في هويتها الجنسية بين الذكورة والأنوثة
كذلك تحرص الروائية السعودية رجاء عالم، في روايتها "خاتم" (2006)، على بناء الفضاء المكاني والثقافي للحدث الروائي الذي ستناقش من خلاله جدليات الجسد والمقدس: "على المنعطف العشرين للدرب الضيق الذي تتخلله سلالم متآكلة يقوم البيت الكبير، بيت نصيب، وكل مغارب مكة تتجمع على قمة هذا البيت على جبل هندي المتربع بقلب المدينة. ينافس القلعة التركية في إخفاء شموس مكة والتطاول للنجوم، لا أحد يملك أن يتجاوز البيت دون أن يرفع عينيه لخوارجه التي تبدو داخلةً بعسكرها الحجر في الأفق. الأنظار اتفقت على اعتباره أعلى بيوت الجبل أو مكة على الإطلاق، إذا أخذنا في الحسبان قاعدته الجبلية التي ترفعه للأعلى، لذا يظل مثار فضول أهل الجبل والناظرين من بقية الأحياء".
وتتقارب العوالم المرسومة في البيت الضخم الذي ستجري فيه أحداث الرواية مع العوالم المرتبطة بمدفن الشيخ ابن عربي في مسرحية "مولانا": "كل من ولج أو انضم لذاك البيت تعايش حتى ألف العلو في المقام، بقي الفضول يدور حول مغالق البيت، ما يعرفه السكان جيداً أن بيت نصيب يدور حول أسرار المفاتيح، كل طابق بمفتاح كبير يسلم لبنت من البنات، بقي الطابق السابع للابن الذي لم يولد".
قواعد الجسد الجمعي وتهويمات الجسد الفردي
يوصف أبو زيد، الشخصية الأساسية في مسرحية "مولانا"، بالدرويش عابد في ثياب المولوية، وهو ابن خادم مسجد مولانا محي الدين بن عربي، والأب رجل صالح ينتمي إلى هؤلاء المؤمنين الطيبين الذين يفزعهم كلام المتصوفة وشطحاتهم؛ لأنهم أقرب إلى الأمان في عباءة الدين المعياري: "دين الحلال والحرام، دين المكروه والمباح. هؤلاء المؤمنون الذين يعشقون الاحتماء بالجماعة، ولا يحبون الفرد الذي يخرج عن السرب: التغريد خارج السرب نشاز".
في البداية، ينشأ الصراع بين ميل عابد، إلى الطرق الصوفية وتمسك والده بالأساليب الدينية الأكثر تقشفاً مانعاً عن ابنه دخول التيار الصوفي، وفي مرحلة تالية في المسرحية ينتقل الصراع إلى ميل عابد إلى الفردية والعشق من جهة، وصرامة النظام الصوفي وترفّعه عن ميول الجسد من جهة أخرى.
يكتب أبو زيد: "تصوف الطريقة هذا لا يناسب روح الفتى المتوثبة لما هو أعلى وأعمق، للرقص مع أنغام الكون وللاتحاد بالمطلق في صفائه وجماله وجلاله. يريد عابد أن يندمج في أوركسترا الموسيقى الكونية، التي تعكسها موسيقى تداخل الأصوات حول قبر محي الدين".
خصوصية الشخصية في رواية "خاتم" تتشكل من دافع داخلي، من بواطن أعماق جسدها الذي يتحرك وفق إيقاع موسيقي، ويعلن عن رغبته في التواصل مع جسد الكون.
ويركز الكاتب المسرحي الذهبي، في المقدمة المرافقة للنص على فكرة الصراع، حيث يكون الصراع الداخلي هو المحرك لحياة هذا الشاب الذي يتمتع بفردانية عالية تجعله يرفض الانخراط في المجموعة، ويصرّ على أن يبقى صوتاً متفرداً وهو ما يدفعه إلى السقوط والانحدار من مجتمعه، وهذا ما يجعله يفهم التصوف بفردية وعلى طريقته الخاصة مع الاحتفاظ بقداسة المقدسات.
ويقارب الكاتب الذهبي، بين سيرة الشيخ ابن عربي الذاتية، وبين الشخصية الأساسية في المسرحية: "إن الصراع الذي يعيشه البطل عابد ضد مجتمعه الذي يؤمن بالحلول الجمعية لكل تفاصيل المجتمع والقامع تقريباً لكل التجارب الفردية، هو بشكل أو بآخر الصراع ذاته الذي عاشه الشيخ محي الدين بن عربي بفرديته العالية ضد المجتمع المتدين المتطرف، والذي رفض بكل الوسائل مفهوم تواصل العبد مع المعبود دون واسطة أو وسيط، ذلك المجتمع الذي رفض حب الفرد للذات الإلهية عبر المفهوم الشخصي للذات الإلهية".
يقول والد عابد، لأحد أتباع الصوفية في المسرحية: "أصلحك الله يا عبادة، فكل هذه التوهمات مرجعها التصوف الذي ما انفككت عنه دارساً ومجرباً!؟ وأقسم لك بأن ما تفعله حرام فالله سبحانه تعالى أمرنا بالعبادات والأركان على سنّة الله ورسوله وكفى المؤمنين شر التأويل، فاذهب إلى ما ينفعك وينفع عباد الله على أن تبتعد عن الأوهام والمشاهدات".
الجنسانية في تشكيل الوعي بين الطفولة والنضوج
تلعب الجنسانية دوراً أساسياً في تشكيل وعي عابد وإدخاله في الصراع المتأتي من لحظات انتقال الوعي الجنسي من الطفولة إلى المراهقة، ومن تقدّم المريد الصوفي في طريق الزهد والتنسك والترفع عن نداءات الجسد.
يصف النص المسرحي لحظة اللقاء بين الوعي الطفولي وجسد الجنس الآخر، أي جسد المرأة: "كنت مربوط بخيط من دهب شاددني من عيوني وما عم اقدر شيل نظري عنهن، كانوا عم يحكوا مع بعض بهدوء واقفين وعم يتمايلوا، في وحدة كانت بآخر الليوان عم ترقص وتدور لحالا، وكأنها بحضرة، مغمضة عيونها ونسيانة العالم، ووحدة تالتة كانت قاعدة وحاطة رجليها بقلب مية البحرة وعم تتطلع على المي، وعم تفكر ما بعرف بشو. وفجأة هي يلي بالبحرة رفعت راسها وبضربة وحدة وكأنها شايفتني، اتطلعت عليّ وعملتلي باي".
في حين يتشكل الوعي الجسدي – الجنساني في وعي عابد من دافع خارجي هو ذلك اللقاء الذي يجمعه بجسد المرأة وكيانها، فخصوصية الشخصية في رواية "خاتم" تتشكل من دافع داخلي، من بواطن أعماق جسدها الذي يتحرك وفق إيقاع موسيقي، ويعلن عن رغبته في التواصل مع جسد الكون: "تنصت لجسدها الذي بدأ يقرصه قارس مكة وطقسها الجبلي، جسد أبيض مشتعل بحمرة يرجعه جسد في سواد يميل للخضرة، يركضان طيرين في بلل وجيشان، في ضحكة تتقطع على تخريمات الخوارج، وتهطل بالطيرين لمسارب الجبل. بلغ البلل العظم وجاز، يلحثها يهيمن على تلك النشوة الطاغية في الجسد الصغير، ما الذي يسمعه في تلك العين من رعد؟ أي موسيقى يلملمها، يخبئها ذاك الجسد؟ أي دانات تمور بذاك الصدر الحرير؟ يلحقها وينصت باستماتة، تدخله أصوات لا يعرف طالعة من جسده أم من جسد الكون الكبير الذي صاره".
الموسيقى والرقص في تشكيل الوعي الوجودي
تلعب الموسيقى والرقص دوراً في تشكل وعي الجسد المتمرد سواء على التحريم الديني، أو على موانع العادات والتقاليد. يقدم الناقد كولن ويلسون، في كتابه "اللا منتمي"، عدداً من الأنماط الشخصية التي تشكل رؤيته المتكاملة للّا انتماء. في الفصل الرابع بعنوان "محاولة السيطرة"، يتفحص ثلاثة نماذج من اللا منتمي هم الكاتب د. هـ. لورنس، الرسام فنسنت فان كوخ، الراقص فاسلاف نيجنسكي، ويعدّ الأول لا منتمياً عقلياً، والثاني لا منتمياً حسياً، والأخير لا منتمياً جسدياً. يكتب: "فأما اللا منتمي العقلي فعليه أن يجيب عن الشكل الوجودي: الوجود أم العدم؟ وأما اللا منتمي الانفعالي فعليه أن يجيب عن الحب الخالد أم اللا إكتراث الخالد؟ وأما اللا منتمي من نوع نيجنسكي، رجل الحركة، اللا منتمي الجسدي، فإن السؤال الخاصه به هو: الموت أم الحياة؟ اندرحا الجسد النهائي أم الانتصار؟ ما هي الحقيقة النهائية؟".
تلعب الموسيقى والرقص دوراً في تشكل وعي الجسد المتمرد سواء على التحريم الديني، أو على موانع العادات والتقاليد.
لقد كان الرقص طريقة نيجنسكي، للتواصل مع الحضور العلوي الإلهي، ليصل في مذكراته للكتابة: "إنني الله في جسد، وكل إنسان يحس بهذا الإحساس، إلا أن أحداً لا يستخدمه". وهو يحلل دوافعه الخلاقة تحليلاً بارعاً نافذاً حين يقول: "إنني أحس بواسطة الجسد، لا بواسطة العقل".
يرى ويسلون أن الكاتب لورنس يستطيع أن يقول: أنا أدرك بواسطة العقل، لا بواسطة الشعور. والرسام فان كوخ يستطيع أن يقول: أنا أدرك بواسطة الشعور، لا بواسطة العقل. في حين يقول الراقص نيجنسكي: أنا أدرك بواسطة الجسد، لا بواسطة العقل أو الشعور: "لقد أطاع جسد نيجنسكي دوافعه الخلاقة، كما أطاعت ريشة فان كوخ وقلم لورنس تلك الدوافع".
لقد كان الجسد مملكة نيجنسكي المُميزة، وقد شهد الناس الذين رأوه وهو يرقص بقابليته الفذة على أن يكون الشيء الذي يريد تمثيله، سواء أكان ذلك العبد في عرض "شهرزاد"، أو التمثال في عرض "بتروشكا"، أو الأمير في "جيزيل". وقد وهبه نظامه القوة على نبذ ذاتيته متى أراد، أو توسيع بعض الأجزاء، وتقليص الأخرى، ليحقق وهم الشخصية الجديدة بصورة كاملة.
وكانت هذه القوى قد أصبحت، في بعض الأوقات، شدةً صوفيةً من الإنكار والتضحية الذاتيين في رقصاته، مما وهبه بين الحين والحين تلك الرؤى المدركة عن ذهول القديسين. لقد كان إله الرقص كما لُقّب، فالرقصات التي أداها في عرض "طقوس الربيع" تحتوي على أجزاء معقدة قال جميع راقصي عصره عنها إنها لا يمكن أن تُؤدّى، تماماً كما قال عازفو الكمان في أيام بيتهوفن عن بعض رباعياته الموسيقية أنها غير قابلة للعزف. وكان قد أخذ معزوفات ديبوسي بعنوان "أمسية الحيوان الخرافي"، ووضع تلك الموسيقى الشهوانية الجسدية الناعسة حركات راقصة شديدة الصعوبة، تعتمد على الزوايا، فلاحت الباليه كأنها سلسلة من المشاهد تشبه تصماميم الإغريق القدماء في تنسيق مزهرياتهم.
كذلك، يلعب الجسد الراقص دوراً أساسياً في عالم الصوفية في مسرحية "مولانا"، إذ يقول الشيخ لمريده في مديح الرقص: "الرقص أقرب طريق للإنسان ليتقرب من الله وهو أول صلاة ابتكرها المؤمن ليقترب من الروح والذات الإلهية، لا تخاف طالما قلبك مغمور بالحب فأنت دائماً على حق، وكل الطرق اللي رح تمشي فيها رح توصلك، طالما بوصلتك الإيمان، وأكبر دليل هو السكينة اللي منحك ياها الرب".
ترتبط حركة الرقص في التيار الصوفي بالرؤية المتعلقة بالميتافيزيقيا أو العلاقة مع دوران الكون والوجود: "الجوقة يعني إنتو بدورانكم هاد إذا عرفتوا تعملوه بتكونوا عم تتواصلوا مع الدوران الكلي للكون، مع سر الكون وايقاعه وسر الخليقة، ومع الحركة الكبرى للحياة والبشرية، ومع دورة الحياة والطبيعة والبشرية... وإنتو كل ما تدوروا بتكونوا عم تنصهروا مع المجموعة ومع الجماعة لتفهموا معنى الجسد الواحد". لكن جسد عابد، في المسرحية، ينحو نحو التفرد، ويعيد إليه رؤى وأحلام يقظة عن المرأة التي أحب وجهها (حبيبة): "صرت إتخيل حالي عم علّي بالسما ولفّ حوالين النجوم، والقمر، واتطلع على حبيبة من فوق وهي عم تعملي باي من البحرة، كنت حس إنو هالدورة حوالين حالي وهالدوخة يلي عم تصير معي أحلى شي بحياتي، وقدّر ليش أهلي طار عقلن، وطرت فوق الشام والبسطا والفقرا، وعليت فوق دعاوي الناس وأبي اللي ماسكها حنبلية، عليت فوق الصبر والآهات والظلم، حسيت حالي قربت من الفرح وقربت من البياض، حسيت حالي نار ونور، رفعت راسي وخشعت يا ربي بحبك بحبك".
مزاوجات الجسد والآلة الموسيقية في التعبير والجنسانية
يلعب العزف على آلة العود الموسيقية في رواية "خاتم"، دوراً مماثلاً للرقص في النص المسرحي: "تقرب خاتم من جسد العود سكنها بهاجس الزمن، صارت تعتني بحساب أزمنة الموجودات حولها، امتداد حركتها وقصرها، وجواب تلك الحركة، الذي يكمل سُلمها الوجودي، ديوانها الموسيقي، كائن بلا جواب هو الكائن النشاز، هو البعد عن الكمال، وكانت تعرف أن جواب جسدها في العود أو في زرياب ذلك الجسد الذي أينما مسته كان وتراً ويرسل نغمةً مغيبةً.
تنصت خاتم وتغرق في المسافات بين الصوت وما يليه، نقاط التحويل تلك، صارت تُقيم في تلك النقاط، نقاط في جسد الصوت وتنويعته، نقاط في جسد الكون الكلي، نقاط بين الكائن والكائن ليقول الكون جملةً متفردةً، كل ربطة بين كائن وآخر تقول جملتها الخاصة، كل معنى ما هو إلا حزمة من أجساد وما بينها من مسافات تتبدل وتنتقل لتكوين حكاية. تقول: 'الجسد الذي نؤول إليه بالموسيقى لا يموت، هو هذا الممتد من ولد لامك لجسدي'".
في مسرحية "مولانا"، للكاتب فارس الذهبي، يختار المؤلف الفضاء المكاني والثقافي المناسب لمعالجة موضوعته، وهي حارات الشيخ محي الدين الدينية الشعبية في مدينة دمشق، وفي أوساط البيئات الصوفية والمشيخية
يتداخل الجنساني بالفني، العشقي بالراقص والموسيقي في مسرحية "مولانا"، حين تدخل صورة ورؤى حول المعشوقة حبيبة، في طقس الرقص الصوفي: "يعني يا شيخي صرت حس حالي وقت أتذكر وجه حبيبة حس حالي عم أنظر للنور، والنور يغشى عيوني والدمع ينزل من جفوني متل الولد اللي مشتاق لأمو، يا رب بحبك، دخيلك لا تحرمني وصالك".
ويظهر الصراع بين العقائدي والجنساني، بين الديني والعشقي كذروة أساسية في حركة الشخصية إلى مصيرها: "وأنا عم إتذكرها وحوالي شيوخ الطرائق والأئمة وأصحاب الدين ومع إني شربان قنينة عصير الليمون كلها، بس أنا كنت فوق، كنت بين النجوم وعم اتطلع على حبيبة تحت، عم تعملي باي، وفجأة حسيت حالي هويت بفرد مرة، من سقف السما على بلاط أرض المدرسة وعلى وشي، الدراويش ضلوا عم يدوروا لأنو الطبيعة والحياة ما بتوقف مشان واحد عاطل".
وتتطور أيضاً صراعات الشخصية في رواية "خاتم"، بالبنية ذاتها، التحرك نحو مصير الوعي الجنساني المرتبط بالعلاقة مع العزف وآلة العود، وتبرع الروائية في صياغة النص الذي يداخل بين مفردات القاموس الموسيقي ومفردات القاموس الجسدي: "تنفي خاتم تلك النظرة، تَذُبها مثل حشرة عن عودها، وباستحواذ تغمر أصابعها في الأوتار، في حفنة الأوتار بين يديها تقبض خاتم على الكون، وعلى زمانه، تقبض على عمرها متنقلة بضربة ريشة نسر من عنفوان الشباب لسكينة الاكتهال والشيخوخة، كل وتر ينقلها لعمر، والأوتار تنقلها لتلك المساحة من الوجود، تلك النوتة المنساقة أبداً لشهوة التقلب والتحليق، مساحة لا تسمح بانغلاق وتغري خاتم بالثورة على سُلم العمر وتسلسله الحتمي، تنجو بها من كهولة لطفولة، ومن موت لشباب، فإذا جمعت الأوتار في مقطوعة لخصت تلك المقطوعة عمرها كاملاً، في تقدمه وارتداداته، لخصت جسدها وجسد الكون بروجه ومواسمه وعناصره من نار وهواء وتراب وماء، كل مقطوعة هي عجينة من عجينة حقيقتنا، وتاريخنا ما هو إلا التنقل بدهشة عبر علاماتها وتقسيماتها النغمية، لم يعد بوسع خاتم التنازل عن ذاك الكمال الذي تبلغه بالموسيقى".
وعلى مستوى الجنسانية، تتميز رواية "خاتم"، بمعالجتها لمفاهيم العبور الجنسي، من خلال رواية تسرد حكاية امرأة تعيش تداخلاً في هويتها الجنسية بين الذكورة والأنوثة، وتصبح الموسيقى الفن المجرد مساحةً لنمو هذه الكينونة الجنسانية الثنائية أو المغايرة: "خاتم إنسان خطفوه من جسده، لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى، أي لغة يمكن لجسد هذا الإنسان أن يتكلم؟ العود له أيضاً شطر ذكر وشطر أنثى، الوتر والريشة، من الذكر ومن الأنثى؟ وجسد العود هذا الذي يولد الألحان، لا هو أنثى ولا هو ذكر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...