ما زال السؤال يمثل أخطر ما يصدر عن الإنسان، فعبره تتحدد حاجياته ويتحدد وعيه ومن ثمة تتحدد هويته، فيمكن أن نختزل معرفتنا بالكائن البشري في اختبار سؤاله: اسأل سؤالاً لأعرفك، تقفية على العبارة الشهيرة "تكلم حتى أراك" المنسوبة إلى سقراط و "تكلّموا تُعرفوا، فإنّ المرء مخبوءٌ تحت لسانه" المنسوبة لعلي بن أبي طالب. فنحن مجاهل غفل ومقفلة ما دمنا في الصمت والكلام، والسؤال فضّاح الشخصية.
ينسحب هذا المفهوم على كل قطاع من قطاعات الإبداع والثقافة والإعلام، فبعض الكتاب نعجب بأعمالهم ولكنهم متى تحدثوا عنها نكتشف بؤساً كبيراً عالقاً بأذهانهم، وذات الأمر مع الحكام والساسة. أما في الصحافة فإن السؤال هو ما يتحدد ويصنّف كل صحافي/ة عبره. لذلك تهتم معاهد الصحافة في العالم بتكوين الطلبة وتعريفهم بأنواع الحوارات وأشكال طرح السؤال والتحضير له؛ فالسؤال جزء أساسي من إنتاج المعنى، ويصبح هذا الدور أساسياً وخطيراً في مجتمعات تطمح إلى الرقي والخروج من التخلف المعرفي، مثل عالمنا العربي اليوم؛ هذه المعرفة التي تشكلها الآداب والفنون والعلوم ويمثلها العلماء والفنانون والأدباء عبر السؤال الذي يوجهه الصحافي. فأي واقع للصحافة الفنية العربية اليوم؟ وأي صورة لسؤال الصحافي الفني العربي اليوم؟ ماذا ينتج السؤال من معرفة اليوم؟ وماهي طبيعة الأزمة؟
أزمة قديمة
بدأت الأزمة في التسعينيات مع انتشار ما يسمى بالصحافة الصفراء في البلدان العربية واستبعاد تلك المؤسسات للصحافيين والمثقفين الحقيقيين، وبداية موجة الاستعانة بالجميلات والرشيقات والصديقات! وتقهقر السؤال الصحافي من مستوى تجسير ظهور الفكرة إلى مستويات إنتاج الابتذال عبر نشر الفضائح وتسليط الضوء على الحياة الخاصة للفنانين وإذكاء الفتن بينهم، ولم يعد ظهور المفكر أو الفنان أو الكاتب في التلفزيون أو الصحيفة أو المجلة إلا من قبيل الدعاية للثياب والماركات والكليشيهات الرديئة والمجاملات، وتحول الصحافي الفني من دوره في تقديم المنتج الثقافي القيّم ومحاولة تفكيكه عبر السؤال والتوغل في العقل الذي أنتجه إلى كائن رخوي يستمد شرعية وجوده من مجاملة الضيف أو إحراجه بأسئلة من خارج الحقل الذي يتحرك فيه.
الصحافة الفنية المحترمة تكون مرعبة للفنان لأنها تجعله أمام اختبار طوال الوقت، لذلك كان الفنان في العالم عبر التاريخ محاطاً بمستشارين ويسعى لتثقيف نفسه كل يوم من أجل أن يكون لائقاً بلقب فنان ويستطيع أن يتحدث في كل شيء
حتى وصلنا إلى منابر إعلامية تستثمر في الرداءة، وتتنافس الوجوه التلفزيونية والإذاعية والصحافية من الصحافة الفنية على الظهور بمظهر الجهل والسخافة، باعتبار أننا في عصر الابتذال وعالم "السخفاء"، الذي يتحكم فيه من لا ذكاء وبصيرة لهم، وانقلب مفهوم القيمة من المعرفة إلى الجهل والسذاجة والسطحية بديلاً عن العمق.
وهكذا أصبحنا أمام السؤال الساذج والسطحي بديلاً عن السؤال المعرفي العميق، وانتقلنا من عالم الثقافة إلى عالم الترفيه بالفراغ. وصلنا اليوم إلى التفاخر بالسؤال الساذج كجزء من السيرة العطرة للصحافي وقصة السؤال الخطير للإعلامي التونسي عبد الرزاق الشابي مثال، عندما سأل مرة توأماً: "هل أنتما من نفس الأم؟"، ليتحول ذلك السؤال إلى ظاهرة، وأصبح الإعلامي يحاول أن يختلق أسئلة من ذلك النوع بعد أن حقق شهرة غير مسبوقة بسبب سؤاله "الغريب العجيب".
مؤتمر صحافي لراغب علامة بتونس، مثال على الراهن
إثر حفله بمهرجان قرطاج التقى المغني اللبناني راغب علامة بمجموعة مما يطلق عليهم "الصحافة الفنية"، وانهالت عليه أسئلة غريبة وعجيبة يصارع أصحابها من أجل افتكاك الكلمة لإلقائها؛ من مثل: هل حقاً اشتريت بيتاً في تونس؟ وهل أنت مستعد لتزويج ابنك من تونسية؟
مثل هذه الأسئلة التي صارت تتصدر التلفزيونات وكل المنابر الإعلامية تعكس ما وصل إليه حال الصحافة الفنية اليوم في عالمنا العربي والبؤس الذي صار عليه السؤال الفني. فهل انتهت الأسئلة التي يمكن أن تُطرح على فنان جاء يحيي حفلاً في أهم مهرجان بالبلاد؟
يطرح البعض: ماذا يمكن أن يطرح على فنان مثل راغب علامة من سؤال؟
في الصحافة المحترمة في العالم تكون الندوات الصحافية أو الحوارات فرصةً لكي نتعرف على الوعي الحقيقي للفنان ومواقفه من قضايا وطنه والعالم، إضافة إلى الأسئلة المتعلقة بتجربته الفنية وفق معرفة بالفن نفسه.
وصلنا إلى منابر إعلامية تستثمر في الرداءة وتتنافس الوجوه التلفزيونية والإذاعية والصحافية من "الصحافة الفنية" على الظهور بمظهر الجهل والسخافة باعتبار أننا في عصر الابتذال وعالم السخفاء.
وفي حالة راغب علامة، فهو فنان يأتي إلى تونس من بلد يعيش أزمة اقتصادية خانقة جراء أزمة سياسية مزمنة، ألا يطرح عليه سؤال حول هذا الواقع المرير الذي يعيشه شعبه وبلده؟ ألا يمكن طرح سؤال متعلق بموقفه من السياسة في المشهد اللبناني الغارق في الطائفية لنعرف أين يتخندق؟ ألا يطرح عليه سؤال حول اتفاقية الطائف ومآلاتها اليوم وجدواها؟ ألا يطرح عليه سؤال ما موقفه من انفجار بيروت الذي هزّ العالم ولم يهز "السوبر ستار"، وواصل حفلاته في الخليج كما لو أنه لم يحدث شيئاً؟ ألا يسأل السوبر ستار عن نتائج التحقيق في اغتيال الحريري؟ ألا يتحرك صحافي ليسأله عن موقفه من نهاية الربيع العربي وانهيار الديمقراطية الناشئة بتونس؟ أليس من يتجرأ ليطرح عليه القضايا المتعلقة باللاجئين السوريين في لبنان لنسمع بوضوح رأيه في تشعبات تلك القضية؟ ألا يتجرأ صحافي ليسأله عن موقفه مما جرى ويجري للأفارقة جنوب الصحراء بتونس وعلى الحدود الليبية، والتي دفعت فنانين من العالم إلى إلغاء حفلاتهم في تونس تضامناً معهم؟ لماذا لم يلغِ حفلته؟
وعندما سُئل سؤالاً وحيداً كان يمكن أن تتولد عليه أسئلة عميقة كثيرة: متى يمكن أن تعتذر عن إقامة حفل في تونس؟ كانت إجابته التي أراد بها مجاملة الجمهور فاضحة: "احتراماً للجمهور سأعتذر عن إقامة حفل بتونس إذا كان هناك سوء تنظيم، لأني أريد الجمهور أن يكون مرتاحاً". ربما كان يشير إلى حفل أحمد سعد بنزرت ودخول جهات طفيلية في تنظيم المهرجانات. ولكن الإجابة تعكس كارثة أخلاقية وفنية كبيرة، لأنه بهذا المبدأ هو غير مستعد لإلغاء حفل له مهما حدث من كوارث للشعب التونسي ومهما كانت السلطة التي تحكم البلاد ومهما تفاقم الاستبداد والديكتاتورية وجوع الشعب وحدثت انقلابات، فهذا أمر لا يعنيه طالما كان التنظيم جيداً ويدفعون له جيداً.
تفكيك خطاب الإجابة عن السؤال يكشف لنا ذهنية الفنان وكيف يفكّر، وبالتالي كيف وماذا ينتج؟ فهذه الذهنية لا يمكن أن تحمل آمال شعوب أو أحلامها بالحرية والديمقراطية والعدالة، بل هي مهووسة بحسن التنظيم وعبر التاريخ كانت الدول الاستبدادية العسكرية منها والبوليسية أكثر البلدان قدرة على تنظيم التظاهرات الفنية والرياضية.
من هو الفنان؟
رأيْنا عبر تاريخ الفن العربي انحرافات كثيرة لفنانين ممثلين ومطربين وصلت إلى الاغتيالات والاغتصابات ومنذ 2011 رأينا بعض الفنانين التحقوا بتنظيمات إرهابية على غرار ما حدث بعض فناني الراب الذين التحقوا بداعش، واللبناني فضل شاكر الذي خرج يفتخر أنه قتل اثنين وجرح أربعة أشخاص، وحرّم الفن وكفر الفنانين. هؤلاء تقف الصحافة الفنية الصفراء اليوم لاستعادتهم ودون محاكمات، وتقبل برجوعهم، بل هي متعطشة، مثلها مثل الجماهير التي تنتجها إلى عودتهم. لذلك عادوا ينتجون ويعيشون من إنتاجهم عبر اليوتيوب تمهيداً لعودتهم إلى المسارح والتلفزيونات.
هل فعلاً طرأ على فضل شاكر أمر خطير جعله يتحول إلى إرهابي يحمل السلاح ويعتنق أفكاراً تكفيرية أم بنية ذهنه من الأول هشة وجاهزة لهذا الانحراف؟ من كان المسؤول عن تقديم هذا الفنان للجمهور؟ الصحافة الفنية بلا شك. فحول ماذا كانت تحاوره هذه الصحافة؟ ما هي طبيعة الأسئلة التي كانت تطرحها عليه؟
الصحافة الفنية المحترمة تكون مرعبة للفنان لأنها تجعله أمام اختبار طوال الوقت لذلك كان الفنان في العالم عبر التاريخ محاطاً بمستشارين ويسعى لتثقيف نفسه كل يوم من أجل أن يكون لائقاً بلقب فنان ويستطيع أن يتحدث في كل شيء ويعطي رأيه في ما يحصل حوله وما يحدث في العالم. أما أن يتحول الفنان إلى مجرد آلة للغناء أو التمثيل بلا أي موقف من خارج الأداء، ولا نكاد نعرف عن عقله وأفكاره شيئاً فهذا وضع مؤسف للفن عندنا وتتحمل مسؤوليته الصحافة الفنية التي تحولت إلى آلات دعاية للفنانين، لا غير.
هل هذا الوضع الذي جعل عمر الشريف يستشيط غضباً ويشتم الصحافيين ويصفهم بالبهائم في أحد اللقاءات التلفزيونية؟ هل هذا الوضع هو سبب ظهور الإعلامي محمود سعد اليوم على صفحته في الفيسبوك لممارسة الصحافة الفنية بدل التواجد في التلفزيونات ليترك المجالات لـ"السخافات" التي تملأ بها الفضائيات مساحاتها. هل استبعاد آمال الشاهد من التلفزيون التونسي نتيجة موقفها من الانقلاب واضطرارها مواصلة العمل عبر صفحتها في الفيسبوك جاء ببديل محترم في الصحافة الفنية والثقافية في ذات التلفزيون الذي استبعد كل المقدمين والمعدين الجيدين وجاء بمن يصفق للرئيس وللسلطة؟
هل تفشي هذا البؤس الإعلامي وراء ظهور الشاعر والإعلامي جوزيف عيساوي صاحب البرنامج الثقافي الشهير "قريب جداً" في قناة الحرة على صفحته في الفيسبوك ليواصل عمله وشغفه؟ هل أصبحنا أمام واقع مقلوب تغزو فيه الكائنات الطفيلية مراكز الإعلام ليدحر المختصون نحو الهامش عبر إسكاتهم ومحوهم لإنتاج شعوب جديدة لا تفقه شيئاً؟
هل الوعي والقيمة والذكاء صار اليوم تهمة ومجلبة للفشل وللاستبعاد في ظل ثقافة الرداءة؟
في وقت تعمل الصحافة الفنية الجادة في العالم على إنتاج الأفلام الوثائقية حول حيوات الفنانين وتنتج الكتب السير ذاتية، ترجمُنا الفضائيات العربية بمسوخ من البرامج الفنية التي ترتكب مع كل سؤال يوجه لفنان جريمةً معرفية
أليست كل الفضائح التي حدثت في المهرجانات التونسية هذا العام من خروج بعض المنتسبين إلى الفن على ركح قرطاج للتفوه بكلام بذيء أمام الجمهور أدلة على تردي هذا الوضع؟ ألم تكن وراء هؤلاء الصحافة الفنية التي روجت لهم واقترحتهم على إدارة المهرجان؟
ضحكت وابتسمت إيناس الدغيدي أمام عمر الشريف عندما سألته عن ابنه غير الشرعي وكيف لم يعترف به، وأجاب بأنه يعرف أنه ابنه ولن يعترف به، وأنه عرض عليه المال، لكن الاعتراف به لا. الابتسامة ثم الصمت وتغيير الموضوع من إيناس الدغيدي، المخرجة التي ترفع شعار النسوية والدفاع عن النساء، مخجل ويعكس الشيزوفرينيا التي يعيها الفنان العربي. وأن النجم يمكنه أن يفعل ما يشاء وعلينا أن نغفر له دائماً لأنه النجم ولأن الصحافي أو المتقلد لدور الصحافي إما أن يعيش حالة بؤس معرفي أو جبن تجعله لا يجادل وتجعل صحافية يهين النجم قطاعاً كاملاً في حوارها ويهدد بصفع الصحافيين تجيب بأنها تنتظر "بوسة" منه لا صفعة.
في وقت تعمل الصحافة الفنية الجادة في العالم على إنتاج الأفلام الوثائقية حول حيوات الفنانين وتنتج الكتب السير ذاتية، ترجمُنا الفضائيات العربية بمسوخ من البرامج الفنية التي ترتكب مع كل سؤال يوجه لفنان جريمة معرفية. بينما تعاني الاستثناءات المحترمة من التهميش والطرد، فأي مستقبل يمكن أن ننتظره للصحافة والإعلام الفني والثقافي عامة بعد انتشار هذا النمط من البرامج وهذه النوعية من أصحاب بطاقات الصحافة؟ وأي شعوب سينتجها هذا القصف اليومي بالجهل والابتذال عبر الإذاعات والتلفزيونات والمنصات؟ ألم يحن الوقت لمراجعة كل هذا الانحراف في قطاع الإعلام وإعادة التفكير في بناء إعلام حر ومسؤول يستعيد دوره التنويري؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...