شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مقال مكتوب بالغباء البشري الطبيعي

مقال مكتوب بالغباء البشري الطبيعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الجمعة 11 أغسطس 202305:54 م

مقال مكتوب بالغباء البشري الطبيعي

استمع-ـي إلى المقال هنا

هذا المقال جزء من ملفّ "على رصيف المستقبل"، بمناسبة عيد ميلاد رصيف22 العاشر.


في ظهيرة يوم حار من أيام حزيران/ يونيو، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت أقبّل صديقتي في موقف باص الجامعة، واحدة من تلك القبل التي ترغب الفتيات بالخلاص منها بسرعة، بينما يرغب الفتيان بإطالتها، بل واستخدام اللسان فيها حتى، عندما قالت لي: "أتعلم... هناك سبعة أنواع من السلاحف البحرية في العالم، وربما تكون أنت النوع الثامن".

ما علاقة هذا الأمر بمقال يتحدّث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره على الكتابة عامة؟ سأجيب لاحقاً في نهاية المقال.

إنها فكرة عظيمة أليس كذلك؟ أن تملي على الكومبيوتر أفكاراً وأنت تضطجع على الصوفا تشاهد لاعبك المفضّل يسحق أعداءك المفضّلين، أو وأنت تشاهد فيلماً أو وثائقياً أو خبراً عاجلاً، وتطلب منه أن يكتب لك مقالاً أو قصّة أو حتى رواية عن كل هذا

مخاوف قديمة

العالم بأكمله يترقب الكلمة الفصل في سيطرة هذا الشيء على حياتنا، هل سيقوم بكل ما نحلم القيام به، هل يستطيع أن يُنشئ مقالة فعلاً بمجرد أن أطلب منه ذلك أو فيلماً؟ ما الذي يمنعه أن يفعل لاحقاً ذلك دون أن أطلب منه؟

إنها فكرة عظيمة أليس كذلك؟ أن تملي على الكومبيوتر أفكاراً وأنت تضطجع على الصوفا تشاهد لاعبك المفضّل يسحق أعداءك المفضّلين، أو وأنت تشاهد فيلماً أو وثائقياً أو خبراً عاجلاً، وتطلب منه أن يكتب لك مقالاً أو قصّة أو حتى رواية عن كل هذا، وفي النهاية تلقي بعض الرتوش الصغيرة على المادة، تضع اسمك عليها وترسلها بالبريد، أو يفعل هو كل هذا، ولا حاجة لقراءة أي شيء عن أي شيء، فهناك من يقرأ لك وهناك من يكتب عنك، وكل ما عليك فعله هو اختيار المجال الذي تود الاستثمار فيه.

بل ربما سيكون بإمكانك أن تطلب منه تغيير هزائمك الكروية لانتصارات دائمة، وسيكون لكل منا "ميسّيه" الذي لا يهزم، حتى إني فكّرت (أسجّل هنا أن هذه فكرتي الخاصّة ويمنع استخدامها لاحقاً بدون موافقتي) بأن أستخدمه لأغيّر نتيجة التسديدات الرائعة لكن الضائعة التي قام بها ميسي، وأجعلها تدخل الشباك، في فيديو أظنّ أنه سيحقق مشاهدات هائلة.

ذكاء غبي

عالم الصحافة المبني على نماذج الذكاء الاصطناعي مصنوع من مجموع رغباتنا ومجموع السياق الكلامي الخاص بنا في كل ما ندوّنه على الإنترنت من كتابات وتعليقات ورسائل، ويقال إنك إذا كنت فاعلاً على الإنترنت أو قمت بكتابة أي شيء فسوف يدخل، بطريقة ما حسب سياقه، أي حسب التنبؤ الإلكتروني لسياق الجملة، في كتابة أي شيء يقوم به الذكاء هذا.

أي أنه مصنوع تماماً من مزيج الغبي والأغبى والذكي، الجاهل والأقل ثقافة والمثقف، هو محصّلة رياضية لتفاعل الإنسان مع النصوص التي يُنشئها على النت، أي شيء وكل شيء سيساهم بطريقة ما، أي أنه يدرس أيضاً حماقاتك اللغوية، أخطاءك بالتذكير والتأنيث، نسيانك ألف التفرقة أو واو الجماعة، "إن" و"أن" و"حتى" المختلف عليها، ويقوم باستبعادها أو قبولها على مبدأ الأكثرية، فإذا كتب شخصان: "أوحب الفصاتين المزرقشة" وكتب شخص واحد: "أحب الفساتين المزركشة"، سيختار الجملة الأولى في سياقه الذي يصنعه، أي أننا، مجدّداً وأكثر من كل مرّة، تحت سيطرة الأغبياء، قليلي المعرفة، أنصاف الموهوبين، حتى في العمل الذي يتطلّب ذكاء أكثر من غيره، أو جهداً "بحصياً"، والأنكى من ذلك، أنه يسمّى "ذكاء اصطناعياً" رغم أنه مصنوع من مادة الغباء البشري العام، إذ لا نحتاج لإحصائيات لنعرف أن الأغبياء في العالم أكثر عدداً.

وهذا الأمر لا نحتاج طويلاً لنراه، في الحقيقة هو يحصل منذ سنوات، إذ صرّحت العديد من الصحف أنها تقوم باستخدامه منذ زمن، ومنها الأسوشيتد برس على سبيل المثال، وبعض الصحف نشرت "مدوّنة أخلاقية" تلتزم بالإشارة إلى أن بعض المواد تمت كتابتها باستخدام بعض تطبيقات الذكاء هذا، والبعض لا يصرّح، وأغلب المواقع الكبرى والصحافة العالمية تستخدم بعض منتجاته للبحث عن العناوين الأشد إثارة وتفاضل بين مفردات بعينها لتستخدم الأنسب، وهذا يضيّق اللغة نفسها، إذا سنكون مجبرين على استخدام كلمات بعينها واستبعاد أخرى، وهذا ما يحصل حالياً عبر ما يسمّى بالترند: تخيّل أن العالم بأكمله، أي كل من يستخدم مجموعة تطبيقات السوشال ميديا المرتبطة ببعضها يشاهد نفس مقطع الفيديو للمغنية تايلور سويفت وهي تخفي سوتيانها الممزق (مزحة)، أو نفس السقوط المضحك لراغب علامة عن ظهر حصان مثلاً (أيضاً مزحة)، بنفس التعليقات الموحّدة، بأخطائها اللغوية، ولاحقاً بردود فعلك اللغوية المتشابهة مع ردود فعل شخص لا يعرف راغب علامة ولا سويفت حتى. إنه توحيد الغباء، فالعالم أصبح "مشفى مجانين" صغيراً.

لكن في الحقيقة هذا صنع يدنا: سنين وعقود ونحن نبحث عن الأذكياء والأكفّاء، ندرّبهم ونوظفهم ونشاركهم الأفكار لنتوصل إلى النتيجة المثالية (المثالية... هذه هي) التي أصبحت تعني "البيست سيللر"، والآن، أصبح المثالي هو الأقل تعقيداً، والأكثر وصولاً إلى جموع قليلي الذكاء وكسالى العقل وسادة التفاهة الذهنية.

واحدة من أكثر الصناعات ربحية هي وتنمو باضطراد رهيب، وهذه الصناعة تذهب للاستفادة من الذكاء الاصطناعي بطرق مختلفة، منها إنشاء "عشيقات" افتراضيات باستخدام الذكاء الاصطناعي، يتبادلن الأحاديث البذيئة مع المستخدمين، مقابل المال

صناعة الإباحية

واحدة من أكثر الصناعات ربحية هي وتنمو باضطراد رهيب، وهذه الصناعة تذهب للاستفادة من الذكاء الاصطناعي بطرق مختلفة، منها إنشاء "عشيقات" افتراضيات باستخدام الذكاء الاصطناعي، يتبادلن الأحاديث البذيئة مع المستخدمين، مقابل المال.

موقع OnlyFans وهو موقع للجنس التفاعلي عبر الفيديو، يستخدم الفيديوهات التي تسجّلها العاملات أو المستضيفات في إنشاء شخصيات افتراضية تقوم بأداء العمل نفسه بأجر يساوي "زيرو"، وباعتبارها افتراضية، أي لا مسؤوليات أخلاقية أو جرمية، يقوم المستخدمون بممارسة شتّى أنواع العنف الجنسي، الفعلي واللفظي، على صور مبتكرة فحسب، فلا جرم لهذا، وهكذا يعتاد الشبّان على إرضاء رغباتهم بسرعة بغض النظر عن رغبة الآخر، فلا يوجد آخر حقيقي هنا.

إذن، كم من المرضى النفسيين والقتلة المتسلسلين والمغتصبين العنيفين يقوم هذا الموقع، بمفرده، بخلقهم يومياً، وبتدريبهم على الجريمة؟

هذه هي: الذكاء الاصطناعي ليس أحمقاً كفاية ليستمرّ ممتعاً

في معرض سعينا نحو المثالية في العمل فقدنا الجانب الأهم في عملية الإنتاج، سواء كان الإنتاج مادياً أم فكرياً، الجانب الإنساني، لنفكّر في الرواية المثالية أو الفيلم المثالي: المثالية تعني هنا تطابق المادة المقدمة أو المحتوى المقدم مع رغباتنا مطابقة تامة، الشخصيات الخيّرة مطابقة لوجهة نظرنا بالخير والشريرة كذلك، المشهد الطبيعي هو ما نحب أو نكره (حسب السياق)، كم مرّة نستطيع أن نستمتع بفيلم مثالي أو رواية مثالية كهذه؟ مرّة أظن أو مرّتان على الأكثر، لاحقاً سنبحث عن "مثالي" مختلف، وهذا المثالي المختلف لم يعد مثالياً، أي أنه لم يعد يطابق رغباتنا، بل ربما يعمل عكسها لتكون متعتنا أكبر، وبالتالي سيكون علينا أن نتدخّل كل مرّة لمخالفة توقعاتنا عن المنتج لنكتسب متعة جديدة، أي ببساطة سيتوجب علينا أن نرتكب حماقة لنجعل من المادة المثالية مثالية حقاً.

هذه هي: الذكاء الاصطناعي ليس أحمقاً كفاية ليستمرّ ممتعاً.

فلو حذفنا كل الحماقات من الأدب العظيم الذي يعجبنا، وهذا ما سيحصل مع "أدب مثالي مكتوب بالذكاء الاصطناعي"، أو غيّرنا كل النهايات الحمقاء التي لا توافق رغبتنا، أي حذفنا "حبّوا بعضن، تركوا بعضن" على سبيل المثال، وتركنا "عاشوا بثبات ونبات وخلّفوا صبيان وبنات"، وهذا ما يتفق مع رغبات الجموع عموماً، لحصلنا على نتائج "مرضية" للجميع لكن فاسدة للأدب العظيم.

للإجابة على السؤال

والآن لأشرح ما علاقة القبلة التي بدأت فيها المقال بالذكاء الاصطناعي. الحقيقة لا علاقة لها البتة، ولكني فكّرت بطريقة لكتابة شيء أحمق لا يستطيع الذكاء الاصطناعي كتابته لأثبت وجهة نظري.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image