على طريق واحدة نسير خطوات محددةً. نستكمل المُضي قدماً طالما أن الأمر مستمر. لا نتراجع أو نلتفت لإشارة ما قد تفتح لنا باباً لطريق مختلف، فالعودة إلى نقطة الصفر عبء مُقلق لا نسمح لأنفسنا بالتفكير فيه أو النظر إليه، خوفاً من الفشل أو لنقص مخزون الشجاعة في قلوبنا. هناك، في تونس، شذّت نساء كثيرات عن القاعدة، من ضمنهن 4 نساء قرّرت تغيير مهنهنّ والبحث عن تحقيق أحلامهن ولو تخلّين عن كل شيء.
عزمن على السعي وراء أحلام مدفونة لسنوات في عقلهن الباطن، وقررن ترك مجالات عمل ثابتة تحقق لهن وجاهةً اجتماعيةً وراتباً مضموناً للبحث عن ذواتهن بين الدّواجن وحقول الفراولة، وروائح الحلويات الكورية، والزهور الغذائية، ومقاعد الدراسة لتعلم الميكانيك.
بعد الأربعين... "لسّه الأماني ممكنة"
في تونس العاصمة عملت سونية أبيضي (45 عاماً)، وهي أمّ لطفلين، في مجال الصحافة طوال 22 عاماً. كانت بدايتها في الصحافة الإذاعية لمدة 7 سنوات، ثم عملت مراسلةً للإذاعة الوطنية، ومنها انتقلت للعمل في الصحافة المكتوبة في مجال الإعلام السياحي، فكانت مديرةً لمكتب مجلة "أخبار السياحة المصرية" في تونس، وبعدها عملت مراسلةً لمجلة "المسلة". في 2018، قرّرت العمل من دون قيود إلزامية، أي راحت تكتب وقتما تشاء، واختارت الكتابة لمجلة "السياحة العربية".
رفض والد سونية، أن تدرس الهندسة الزراعية في المرحلة الجامعية، وكانت قد قدّمت أوراقها بالفعل لكنها تراجعت إرضاءً له وتفادياً لغضبه، فقررت دراسة الموسيقى وسرعان ما انتقلت إلى الصحافة. تقول أبيضي لرصيف22، إنها كانت تعيش في تونس العاصمة طوال فترة عملها، وفي سن الأربعين توجهت نحو الشمال الغربي، وتحديداً مدينة طبرقة، وهي منطقة سياحية تجمع بين البحر والغابات، وتتميز بطابع أوروبي في المناخ وشكل المباني، لتبدأ بتنفيذ مشروعها في زراعة الزهور الغذائية.
من الصحافة إلى زراعة الزهور الغذائية، قررت سونية أن تشقّ طريقاً أخرى بعيداً عن عمل يضمن "الوجاهة" دون أن يحقّق الشغف المهني
كانت الانطلاقة على قطعة أرض استأجرتها من الدولة، واعتمدت على ما جمعته من رحلة عملها، فضلاً عن فوزها في مسابقة للبنك الإفريقي حصلت منها على 35 ألف دينار.
تقول سونية لرصيف22، إنها تركت الأرض بعد 3 سنوات لما واجهته من مشكلات من قبل المسؤولين الذين لم يقتنعوا بمشروعها ولم يفهموه، مضيفةً أن ما آلمها هو أن الدولة أجبرتها على ترك الأرض بينما كانت تعمل معها 24 سيدةً و5 رجال، في الوقت الذي سُمح فيه لمستثمر إيطالي بأن يحتفظ بالأرض المجاورة من دون الاستفادة منها.
لم تستسلم سونية للأزمة، واشترت أرضاً جديدةً بمساحة تقارب فداناً، أي أقلّ من سابقتها بنحو 7 فدادين، إلا أن شعورها بالظلم دفعها للعمل بجهد كبير فحققت من المساحة الصغيرة أرباحاً أكثر مما كانت تحقق سابقاً، وفق حديثها إلى رصيف22، مضيفةً أنها لجأت بعد ذلك إلى مدرّب (مهندس زراعي)، راح يساعدها ويتواجد معها في الأرض، ثم حاولت الالتحاق بدورة تدريبية في فرنسا لدى أكبر منتجة للزهور الغذائية، لكنها تراجعت عن الخطوة لارتفاع التكلفة وقررت الاستفادة من المال في شراء ما يفيد الأرض، وبعدها التحقت بالمعهد العالي للتكوين الفلاحي في طبرقة، لمدة عام، ولم تتوقف عن البحث عن مدرّبين في مجالها للاستفادة منهم.
تجدَّدَ رفض والدها مرةً أخرى حين علم بقرارها ترك الصحافة والعمل في الفلاحة، لكنها لم تقبل هذه المرة أن تتخلى عن حلمها. تقول لرصيف22: "أصبحت في سن الأربعين، ولم أحقق حلمي بعد. صمّمت على خوض التجربة وقلت في سرّي إنه سيقتنع حين يرى نجاحي وهو ما حدث، وهو الآن كلما رآني في الإعلام أو سمع عن مشروعي في الإذاعة يزداد تقبّلاً للفكرة، إلّا أن أبنائي يميلون إلى الصحافة أكثر من الزراعة".
برغم موقف أبنائها، قررت سونية الاستمرار لأجلهم في مشروعها الحالي، فهي ترى أن الصحافة في تونس لا تُورّث كما هو الحال في باقي المنطقة العربية، وأنه من الأفضل أن تترك لهم مشروعاً ناجحاً بدلاً من انضمامهم إلى طابور الانتظار بعد إنهاء دراستهم، مضيفةً أنها في صدد إنشاء مطعم سياحي داخل الضيعة يعتمد على ما تُنتجه من زهور غذائية يمكن إدخالها في المشروبات كالشاي والقهوة.
فاطمة... بائعة التيربو
لم تكن فاطمة الفرجاني البالغة من العمر 30 عاماً، والمقيمة في عين طبرنق في ولاية نابل، قد توصلت إلى شغفها بعد، فكل ما تعلَمه أنها حصلت على الشهادة الجامعية في المحاسبة عام 2018، كأي فتاة، وعملت محاسبةً لدى شركة متخصصة في بيع قطع غيار السيارات لمدة عام، لتكتشف شغفها بالمكانيك وقِطع غيار السيارات، فقررت اتّباع ما يمليه عليها قلبها.
كانت العودة إلى مقاعد الدراسة في سن الثلاثين، أولى خطواتها بعدما أصبح الهدف واضحاً. تقول فاطمة لرصيف22، إنها تعمل بائعة قطع غيار السيارات بينما يطلق عليها زملاؤها في المجال اسم "بائعة التيربو"، مضيفةً أنها انتقلت من الشركة الأولى إلى شركة أخرى كان لصاحبها الفضل في مساندتها إذ ساعدها على الجمع بين الدراسة والعمل.
كانت العودة إلى مقاعد الدراسة في سن الثلاثين، أولى خطوات فاطمة بعدما أصبح الهدف واضحاً. كانت تريد أن تصبح بائعة قطع غيار السيارات
منحها دعم أسرتها قوةً كبيرةً لخوض التجربة، إلّا أنها واجهت العديد من المشكلات فالبعض يرفض فكرة دخول فتاة مجال الميكانيك، وهو ما صعّب رحلتها في البحث عن ورشة للتعلم. تقول لرصيف22، إن المجتمع ينظر إلى الفتاة التي تخوض تجربة العمل في مهنة عُرفت بأنها للرجال نظرةً مغلوطةً فيها الكثير من الانتقاص حتى أنها تعرضت لأزمات في علاقتها الشخصية بسبب قرارها العمل في الميكانيك.
قبل سبعة أشهر، بدأت فاطمة رحلتها الجديدة، وكوّنت خلالها خبرات مختلفةً انعكست على شخصيتها، حسب قولها لرصيف22، موضحةً أنها تشعر براحة كبيرة في عملها الحالي، ولم تشعر بالندم لحظةً واحدةً، وأن لديها أحلاماً كبيرةً تتلخص في تحقيق ذاتها في مجالها الجديد، سواء بتأسيس شركتها الخاصة أو تقلّد منصب كبير في شركتها الحالية أو العمل في شركة خارج تونس.
كوريا... إشارة البدء
وُلدت جيهان واز، في ألمانيا في كانون الأول/ ديسمبر 1977. عاشت مع والدتها وصديقاتها الألمانيات قصة عشق للمطبخ منذ صغرها، وكانت صناعة "الكيك" بأنواعه المختلفة جزءاً رئيساً من أيامها، فأحبّته وتعلّمت خطوات إنجازه قبل أن تُتِمَّ الـ7 سنوات. حينها عادت إلى العاصمة تونس بصحبة والديها، إذ قرر الأب أن تدرس ابنته في بلد عربي مسلم، فحملت معها كتباً ألمانيةً مختصةً بصناعة الحلويات.
درست واز التسويق وحصلت على إجازة في علوم الاتصال لتعمل قرابة خمسة عشر عاماً في مجال تنظيم المؤتمرات الصحافية لصالح وكالة مختصة في العلاقات العامة مع الصحافة.
تقول واز في حديثها إلى رصيف22، إنها كانت تنظّم اللقاءات الصحافية والملفات، و"كنت أعمل كواجهة إعلامية لبنوك وشركات تأمين عدة وللخطوط الجوية القطرية والتركية، وغيرها، فضلاً عن كتابة مقالات صحافية ومسؤوليتي عن صفحتين في مجلة اقتصادية ثقافية تصدر شهرياً باللغة الفرنسية عن الوكالة ذاتها، أكتب فيها عن كل ما هو جديد في تونس، مثلاً عن الهواتف والكتب الجديدة في الأسواق، وحتى الأحداث الثقافية".
جيهان واز شغوفة بالحلويات والشوكولاتة قرّرت أن تبدأ مشروعها في هذا المجال بدل العمل في عالم المؤتمرات
في 2003 بدأت رحلة جيهان في عالم المؤتمرات، إلّا أن المطبخ كان شغفها الأساسي. تروي لرصيف22 أنها خصّصت دفتراً للصق الصور والوصفات الخاصة بالطعام من المجلات فلم يكن الإنترنت متوافراً حينها بشكل كبير، ولم تتوقع أن تحترف صناعة الحلوى كمهنة في يوم ما، فالأمر كما تصفه "غرام"، حتى أنها لم تكن تكرر الوصفات بعد تنفيذها ودائماً ما تبحث عن تحدٍّ جديد.
جاءت فترة كورونا فتوقف العمل تماماً، ولم يعد هناك من مجال لتنظيم المؤتمرات. ساعدها حبّها للثقافة الكورية على اكتشاف حلمها الدفين، فمع انطلاق حلقات مسلسل "لعبة الحبار"، انتبهت إلى ذوقهم الرفيع في صناعة الحلويات وطريقة تقديمها، حسب حديثها إلى رصيف22، فبدأت رحلة البحث على مواقع الفيديوهات، مثل يوتيوب وتيك توك، عن وصفات صناعة حلويات المسلسل، وقررت الانضمام إلى دورة تدريبية حول الشوكولاتة والحلويات لتنطلق بعد أسبوع واحد في مشروعها الجديد في صناعة الحلوى الكورية "شوكليت بومب، تي بومب، وغيرهما"
وتسويق المنتجات "أونلاين" والمشاركة في الأسواق والمعارض التي كانت بوابة الوصول إلى محبي "الكيك".
تقول جيهان إنها تُشارك في كل المعارض، ففي تونس يُقام معرض لكل مناسبة، فواحد للحرفيين وثانٍ للربيع، وآخر لعيد الأم وعيد الحب وغيرهما، موضحةً أن محدودية السوق التونسية دفعتها لشراء بعض المكونات من أوروبا وهو ما يؤثر على ثمن البيع، وتالياً على هامش الربح، إلا أنها لم تندم لحظةً واحدةً على ما بدأته، بل تشعر بسعادة بالغة.
أسماء... تركت الحاسوب لأجل الفراولة
في نابل، تقطن أسماء القماطي (28 عاماً)، مع أسرتها الريفية بين المساحات الخضراء وأجواء الريف الهادئة. أنهت دراستها في مجال صيانة الأجهزة "الميكرو-إعلامية" (الحواسيب)، عام 2015، وعملت لأشهر عدة في صيانة الحواسيب وتركيبها، لكنها سرعان ما شعرت بالحنين إلى حبها الأول، الزراعة. لم تماطل كثيراً في مواجهة نفسها وأسرتها برغبتها في ممارسة الفلاحة.
تقول القماطي لرصيف22، إنها لم تحب دراستها كما أحبّت الزراعة، وتأكدت من ولعها الشديد بها حين عملت في مجال آخر، لتعود وتخبر أسرتها بقرار تركها العمل والبدء من جديد. كان هدفها الأول توفير رأس مال إذ رفضت الاعتماد على أي مساندة مادية من الأسرة، لتجد ضالّتها في تربية الدواجن عام 2020. تقول أسماء إنها بعد عام ونصف العام فقط، تمكنت من جمع رأس مال ساعدها على استئجار قطعة أرض صغيرة لزراعة الفراولة وتربية النحل.
واجهت أسماء في البداية رفض الأسرة خوفاً عليها من الإجهاد، فهم يعرفون حجم المشقّة التي تجلبها، لكنهم آمنوا بإصرارها ودعموها ووثقوا بتحقيقها ما تريد، حسب قولها لرصيف22، مضيفةً أنها تستعين بأخيها في خدمة الأرض بينما تستأجر عمالاً وقت الحصاد.
لم تحب أسماء دراستها بقدر ما أحبّت الزراعة، وتأكدت من ولعها الشديد بها حين عملت في مجال آخر، لتعود وتخبر أسرتها بقرار تركها العمل
لم تكتفِ بزراعة الفراولة، فأدخلت إلى مزرعتها الصغيرة أنواعاً متعددةً، بينها البطاطس، والبطيخ، الدلاع (البطيخ الأحمر)، والخس، وغيرها. تقول أسماء إنها لم تعد تخاف شيئاً، بعدما وصلت إلى تحقيق جزء من أحلامها، موضحةً أنها راضية عما وصلت إليه بنسبة 75 في المئة. وما زالت تحلم بالكثير لتحقّقه من تأسيس علامة تجارية باسمها للعسل والفراولة، وإنشاء مزرعة بيولوجية كاملة...
هؤلاء النساء من ضمن أخريات، يثبتن أن موعد التغيير ممكن في أي سنّ، وأن الخروج من مهنٍ ذات "حظوة مجتمعية" لتحقيق الذات أمر ممكن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.