بعد تلقّيه مكالمةً هاتفيةً من زوجته، تطالبه بالحضور فوراً، هرع أبو فهد (نازح، 48 سنةً)، مسرعاً إلى خيمته المهترئة في مخيم سوق الغنم شرق مدينة مأرب، وسط اليمن، ليجد ابنه الأصغر الذي لم يتجاوز عمره خمسة أعوام، فاقداً للوعي، بعد أن عثرت عليه شقيقته الكبرى عارياً، أمام منزل يقع بالقرب من المخيم، تعود ملكيته إلى أحد أبناء المحافظة.
على الفور أخذ أبو فهد ابنه، إلى مستشفى كرى الحكومي، لتلقّي الإسعافات، ومن ثم عرضه على الطبيب الشرعي، الذي أفاد بعد الكشف على الطفل بأنه تعرّض للاغتصاب.
وكشف تقرير الطبيب الشرعي الذي حصلنا عليه حصرياً، عن وجود جروح حول فتحة الشرج وتعرُّض الطفل فهد(5 سنوات) للضرب على وجهه، ما أدى إلى الإغماء.
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي مدى اتّساع رقعة الاغتصاب الذي يتعرض له الأطفال في مخيمات النازحين في اليمن، وحالة الإفلات من العقاب لمرتكبي هذه الجرائم.
على مدى خمسة أشهر، التقى معدّ التحقيق ببعض ضحايا الاغتصاب وعائلاتهم، وأجرى مقابلات معهم ومع منظمات ومحامين وجهات رسمية، بالإضافة إلى أنه حصل على تقارير طبية حصرية، موثّقة من قبل أطباء شرعيين ومنظمات محلية ودولية، تثبت وقوع اغتصاب لأطفال في مخيمات النزوح المختلفة في البلاد.
مأرب ملاذ النازحين
استقبلت محافظة مأرب أكثر من مليونَي نازح من مختلف المحافظات اليمنية، منذ انطلاق الحرب بين جماعة الحوثي والحكومة المعترف بها دولياً، قبل تسع سنوات، يعيشون في ظروف صعبة ويفتقرون إلى أغلب الخدمات المعيشية وسبل الحماية، بحسب التقرير السنوي لإدارة النازحين الذي نُشر أواخر العام الفائت 2022، ويفيد أيضاً بأن 197 مخيم نزوح يسكنها أكثر من 55 ألف أسرة نازحة، بمعدل 299،325 نازحاً من أصل 2،274،598 نازحاً في مختلف مناطق محافظة مأرب.
غياب العدالة
يقول أبو فهد، إنه بعد قيام الأجهزة الأمنية بالتحقيقات وإلقاء القبض على الجاني، تم تهريبه من السجن من قِبل بعض العناصر الأمنية، الأمر الذي دعاه إلى التوجه إلى النيابة لرفع قضية ضد مدير قسم شرطة المطار في محافظة مأرب سلطان الصبيحي، الذي استدعته النيابة للتحقيق معه بتهمة تهريب الجاني من السجن. وبينما وجّهت النيابة أمر قبض قهري بحق الجاني، تم الحكم على مسؤول الحجز في قسم الشرطة، وهو المتهم الرئيسي، بالسجن لمدة عام، ليتم الإفراج عنه لاحقاً بضمانة حضورية.
تسببت قضية الطفل فهد بمشكلات إضافية للأسرة، فبعد أن اضطرت إلى مغادرة المخيم الذي وقعت فيه حادثة الاغتصاب، هرباً من الوصمة الاجتماعية التي تعرضت لها بعد الحادثة، استأجرت منزلاً يبعد عن المخيم السابق، وبعد خمسة أشهر طُردت من قبل مالك المنزل بسبب عدم دفع الإيجار.
وبعد شهر من صدور الحكم الغيابي بحق الجاني، بالسجن لمدة ثلاث سنوات، يقول أبو فهد إنه تلقّى اتصالاً من أحد التجار المعروفين في مأرب، مدفوعاً من أسرة الجاني، ليتوسط لحل القضية. ويضيف أنه عرض عليه مليون ريال (900 دولار أمريكي)، مقابل التنازل عن القضية، وبسبب حاجته إلى المال وفقدانه عمله، اضطر إلى القبول بالحكم والتنازل عن القضية مقابل المال.
معاناة مزدوجة
بحسب مدير مركز حماية الطفل اليمني أحمد الصوفي، فإن "الاغتصاب معاناة مزدوجة يرزح تحتها الأطفال اليمنيون في مخيمات النزوح. والمسؤولية تقع على عاتق السلطات المختصة أولاً، والمجتمع وأولياء الأمور ومنظمات المجتمع المدني".
ويستطرد قائلاً: "لا يقدر الطفل بعد الاغتصاب أن يحصل على حقه القانوني، بفعل عادات العار وتواطؤ بعض السلطات الأمنية"، مشيراً إلى أن عام 2021 كان أكثر سنوات الحرب شدّةً على الأطفال النازحين في مختلف المحافظات.
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي مدى اتّساع رقعة الاغتصاب الذي يتعرض له الأطفال في مخيمات النازحين، وحالة الإفلات من العقاب لمرتكبي هذه الجرائم
وذوو الإعاقة أيضاً
حسن (14 عاماً)، من ذوي الإعاقة (أصمّ وأبكم)، تعرّض للاغتصاب من قبل يافعَين اثنين من جيران خيمته وزملاء له في العمل في مطعم شعبي لشواء السمك.
التقينا أبا حسن الذي يقول إنه في مساء يوم الإثنين 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021، لاحظ تصرفات مختلفةً على ابنه، إذ كان يتردد كثيراً على دورة المياه، مضيفاً أنه كان شاحباً ومكتئباً على غير عادته بعد عودته إلى مخيم حي المطار في مأرب. وعن طريق التحدث معه بلغة الإشارة، وبعد جهد، كشف الطفل حسن لوالده أنه تعرّض للاغتصاب.
وفي اليوم الثالث من وقوع الاعتداء الجنسي، نقل أبو حسن ابنه إلى وحدة صحية تديرها منظمة "أطباء بلا حدود" الدولية في مأرب، التي قدّمت له تقريراً طبياً بناءً على الكشف الخارجي والفحص السريري من قِبل الطبيب الشرعي، وطبيب جرّاح آخر، يؤكد تعرّض الطفل للاغتصاب بحسب نص التقرير الذي حصلنا على نسخة خاصة منه.
لا تختلف قضية الطفل أمين (10 أعوام)، عن بقية قضايا الاغتصابات التي تم رصدها وتوثيقها، حيث لم تستطع والدته إيمان (اسم مستعار)، متابعة القضية في النيابة بعد أن تعرّض للاغتصاب في إحدى مزارع البرتقال في مأرب، لجهلها بالقوانين اليمنية، ولعدم توافر القدرة المالية للمتابعة، فاكتفت بعلاج ابنها.
اضطرت إيمان إلى نقل خيمتها إلى مخيم آخر للنازحين (بمساعدة منظمة محلية)، في مأرب، هرباً من وصمة العار التي لحقت بالأسرة وأعين الجيران، وهرباً من تهديدها وطفلها من قبل أسرة الجاني، في محاولة لإسكاتها وعدم التشهير بالقبيلة التي ينتمي إليها الجاني كما أوضحت لنا.
متغيّرات نفسية وجسدية
يقول علي الكثيري، وهو طبيب يعمل في مستشفى خاص في مأرب، والذي استقبل الطفل أمين، وقام بإجراء الفحص والعلاج الجراحي له، إن الطفل أمين ليس الوحيد الذي استقبله في المستشفى.
وأشار الكثيري إلى أن هناك أعراضاً مختلفةً يتعرض لها الأطفال ضحايا الاغتصاب، منها الاستمرار في الدخول إلى دورة المياه بشكل غير طبيعي، وينتج عن حالة التشقق الرخو الحاصلة لدى الطفل، كما أن هناك آلاماً أخرى تمنع الطفل من الجلوس بشكل طبيعي، ما يدفعه إلى البقاء واقفاً، بالإضافة إلى المتغيرات النفسية عند الطفل والاكتئاب والشعور بالذنب والانزواء.
ويشدد الطبيب النفسي مهيوب المخلافي، على أهمية العلاج النفسي للأطفال ضحايا الاغتصاب، مشيراً إلى ضرورة الجلسات النفسية، كون ذلك أمراً مهماً للتخلص من الحالة النفسية التي يصابون بها.
اضطرت إيمان إلى نقل خيمتها إلى مخيم آخر للنازحين (بمساعدة منظمة محلية)، في مأرب، هرباً من وصمة العار التي لحقت بالأسرة وأعين الجيران، وهرباً من تهديدها وطفلها من قبل أسرة الجاني، في محاولة لإسكاتها وعدم التشهير بالقبيلة التي ينتمي إليها الجاني
القانون والعقاب
نصّت المادة (269) من القانون رقم (12) لسنة 1994، بشأن الجرائم و العقوبات، اليمني، على "أنه يعاقَب بالحبس مدةً لا تزيد على سبع سنين كل من اعتدى بالاغتصاب على أي شخص، ذكراً كان أو أنثى، دون رضاه، وتكون العقوبة الحبس مدةً لا تقلّ عن سنتين ولا تزيد على عشر سنين إذا ارتكب الجريمة شخصان فأكثر، أو كان الجاني من المتولين الإشراف على المجني عليه أو حمايته أو تربيته أو حراسته أو معالجته أو أصيب المجني عليه بسبب الحادث بضرر جسيم في بدنه أو صحته أو حملت المجني عليها بسبب الجريمة، وتكون العقوبة الحبس مدةً لا تقلّ عن ثلاث سنوات، ولا تتجاوز خمس عشرة سنةً، إذا كانت المجني عليها لم تبلغ الرابعة عشر، أو نتج عن الفعل انتحار المجني عليها"، ويُعدّ اغتصاباً كل إيلاج جنسي جرى ارتكابه على شخص الغير، ذكراً كان أو أنثى، دون رضاه بحسب القانون اليمني.
يقول رئيس نيابة مأرب عارف المخلافي، إن قضايا الاغتصاب لا تنتهي بمجرد صدور الحكم التأديبي بفعل قضيته وكذلك لا تنتهي بالتنازل من قبل وليّ أمر الطفل، بل هناك حقّ عام يُلزم الجاني بعقوبة إضافية أكثر تشديداً تهدف إلى الحد من انتشار الجريمة في أوساط المجتمع.
ويشير المخلافي إلى أن جرائم الاغتصاب شاعت كثيراً، واتسعت رقعتها، خلال سنوات الحرب في مختلف المحافظات اليمنية.
ويلفت إلى أن لدى النيابة في مأرب أكثر من 60 قضية اغتصاب خلال عام 2022 فقط، ومثلها عام 2021، كاشفاً عن انتشار جرائم الاغتصاب ليس في مخيمات النازحين فحسب، بل في مختلف المناطق السكنية في المحافظة.
وعن قضايا الأطفال التي وثّقها التحقيق، يقول المخلافي إن مهام النيابة تبدأ حين تصل القضية إلى النيابة فقط وما قبل ذلك يكون من مهام الجهات الأمنية وعقّال الحارات ومشايخ القبائل ومديري المخيمات، ولا يوجد تساهل على الإطلاق في جرائم الاغتصاب في المحكمة حسب قوله.
قضايا ضائعة
بحسب رئيس منظمة "سياج" لحماية الطفل، أحمد القرشي، فقد ارتفعت أعداد حالات الاعتداءات الجنسية ضد الأطفال في اليمن بشكل كبير خلال سنوات الحرب.
ويرى أن النزوح والمخيمات المزدحمة وغير الملائمة للعيش الجماعي للنازحين، من أسباب زيادة معدلات اغتصاب الأطفال النازحين في الآونة الأخيرة.
ويضيف أن ما يتم الإبلاغ عنه من قضايا اغتصاب الأطفال إلى المنظمات أو القضاء أو الشرطة، نسبته لا تتجاوز 5% من مجمل القضايا، مرجعاً السبب إلى النظرة المجتمعية والتشهير ووصمة العار التي قد تتعرض لها الضحية وأسرتها، بينما هناك أكثر من 95% من قضايا العنف الجنسي لا يتم الإبلاغ عنها، ويذكر أن هناك عمليات تصفية جسدية للضحايا أحياناً من قِبل أسرهم، وهناك عمليات انتحار للضحايا، خاصةً من قبل الإناث.
القانون الدولي يلزم الأطراف بحماية الأطفال
برغم مرور أكثر من 30 عاماً على مصادقة اليمن على اتفاقية حقوق الطفل، إلا أنه لا يزال من ضمن أسوأ البلدان في العالم من حيث حماية الأطفال، بحسب المنظمة الأممية اليونيسف، فيما صادق اليمن في آب/ أغسطس 2004، على البروتوكول الاختياري الذي يتعلق ببيع الأطفال وإشراكهم في النزاع المسلح والاستغلال الجنسي كما صادق اليمن أيضاً، عام 1991، على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من المعاملات القاسية.
الحماية ليست من أولويات إدارة النازحين
عند لقائنا بنائب مدير الوحدة التنفيذية لإدارة النازحين في مأرب خالد الشجني، وعرْض ما توصلنا إليه في هذا التحقيق من معلومات ووثائق، أجاب بقوله إن إدارة الوحدة التنفيذية للنازحين في مأرب تركّز أولوياتها على تنسيق التدخلات لتوفير الغذاء والماء كمتطلبات أساسية للنازحين، فيما "القضايا الأخلاقية" بحسب وصفه ليست من الأولويات التي تعطيها إدارته اهتماماً في ظل وجود سلطات أمنية وقضائية فعّالة في مأرب، ومن مسؤولياتها حل المشكلات ومنها "المشكلات الأخلاقية والحقوقية إن وُجدت".
ويضيف أن إدارته تقوم أيضاً بالتوعية والتثقيف للحد من حدوث مثل هذه الجرائم الأخلاقية في المخيمات.
تبقى قضايا اغتصاب الأطفال من القضايا المنسية في ظل غياب حقيقي لدور الأجهزة الحكومية المختصة والمعنية بإنفاذ القانون، وقصور التشريعات التي تفرض عقوبات رادعةً على من يرتكب مثل هذه الجرائم، بالإضافة إلى الوصمة الاجتماعية التي تلاحق الضحايا وتحوّلهم إلى متهمين.
بين قسوة المجتمع وغياب الدولة، يظل الأطفال ضحايا ذلك الواقع الذي يحول بينهم وبين تحقيق العدالة، ويفتح أبواباً مشرعةً للمجرمين للاستمرار في ممارسة جرائمهم، ويظل مستقبل الأجيال النازحة محفوفاً بالمخاطر والغموض.
أُنجز هذا التحقيق الاستقصائي تحت إشراف محمد جهلان وأحمد الواسعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.