أثارت قضية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اهتماماً إعلامياً واسعاً، وهي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يقف فيها رئيس أمام القضاء بتهم جنائية لا سياسية ستؤثر سلباً على حملته الرئاسية المقبلة، ومن الممكن أن تؤدّي إلى اعتقاله. ولكنها ليست المرة الأولى في التاريخ القريب التي يتم فيها توجيه تهم جنائية إلى رئيس سابق، فقد حدثت في البرازيل والأرجنتين وإيطاليا وفرنسا، حيث صدر قرار اعتقال مؤجل بحق الرئيس جاك شيراك -لم يُنفّذ بسبب تقدّمه في السنّ- وبحق خليفته نيكولا ساركوزي.
وفي إسرائيل، يواجه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، تهم رشوة وفساد منذ سنة 2019، وكان سلفه أيهود أولمرت قد حُكم عليه بتهم مشابهة، وكذلك الرئيس الإسرائيلي الأسبق موشي كاتساف، الذي أدين بتهمة اغتصاب فتاة قبل انتخابه رئيساً سنة 2000. ولكن في وطننا العربي، لا شيء من هذا القبيل يحدث مع أيّ من الرؤساء السابقين الذين تم اعتقالهم لظروف مختلفة، إذ وُجّهت إليهم تهم سياسية كما حدث مع الرئيس العراقي صدام حسين، والرئيس المصري حسني مبارك، وخليفته محمد مرسي.
أثارت قضية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، اهتماماً إعلامياً واسعاً، وهي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يقف فيها رئيس أمام القضاء بتهم جنائية لا سياسية، ولكنها ليست المرة الأولى في التاريخ القريب التي يتم فيها توجيه تهم جنائية إلى رئيس سابق
الرئيس ترامب ثار ضد قرار الاتهام في قضية الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز، عادّاً أنه سياسي لا جنائي، وقال إنه يجعل من الولايات المتحدة "جمهورية موز" على طريقة دول أمريكا اللاتينية، أو شيئاً قريباً "من دول العالم الثالث"، بحسب تعبيره. ولكن في هذا العالم الثالث، وقعت حادثة فريدة ومنسية تخالف وصف الرئيس ترامب، جرت قبل تسعة عقود في سوريا، لتثبت أن القضاء السوري لم يكن أقل نزاهةً من القضاء في دول متطورة للغاية، مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وذلك يوم مثول رئيس الجمهورية محمد علي العابد، أمام المحكمة خلال فترة حكمه (1932-1936)، في دعوى ميراث ضد شقيقه عبد الرحمن، على تركة والدهما الراحل أحمد عزت باشا العابد، المتوفى في مصر سنة 1924.
والرئيس العابد كما هو معروف جيداً لدى المؤرخين، كان قد درس القانون أولاً، ثم الهندسة المدنية، وعمل في بداية حياته مستشاراً في نظارة العدل العثمانية (وزارة)، قبل انتقاله إلى الخارجية وتعيينه سفيراً في واشنطن سنة 1908. ورث عن أبيه أراضي زراعيةً خصبةً في غوطة دمشق، مع بناء العابد الشهير في ساحة المرجة، وفندق فكتوريا الكبير، وأسهماً موزّعةً بين قناة السويس وقناة بنما الواصلة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادي.
انتُخب كأول رئيس للجمهورية السورية في 11 حزيران/يونيو 1932، وأثيرت قضية الميراث مجدداً أمام المحكمة المختلطة لأن إحدى الوريثات كانت متزوجةً من بريطاني. كان رئيس هذه المحكمة فرنسياً يُدعى القاضي إيتين ليك، وأحد قضاتها سوريّ يُدعى حنّا مالك، وهو الذي اشتهر لاحقاً كمدّعٍ عام، وكأمين عام لرئاسة الحكومة السورية قبل قيام الوحدة السورية-المصرية عام 1958. والقصة الواردة حول دعوى العابد ترد في مذكراته غير المنشورة.
"يا فخامة الرئيس، إن المحكمة التي لا تتأثر لمصلحة رئيس الجمهورية بالذات، فإنها من باب أولى لن تتأثر لمصلحة أخيه، وإنه لمن دواعي الفخر أن تكون في سوريا محكمة لا تتأثر حتى لمصلحة فخامة رئيس الجمهورية".
كان القاضي مالك، من أشد القضاة نزاهةً ورفعةً في سوريا، وقد سلّمه القاضي الفرنسي ملف دعوى آل العابد لدراستها وتحضير قرار فيها.
جاءه ذات يوم وزير الاقتصاد في عهد العابد، سليم جنبرت، ودعاه لزيارة رئيس الجمهورية في منطقة المهاجرين، وكانت الدعوة طبعاً موجهةً من العابد. وقد طلب العابد وساطة جنبرت، بسبب العلاقة الأسرية بينه وبين والد القاضي مالك. ولكن مالك رفض الزيارة بدايةً، معللاً رفضه بعدم جواز قيام القاضي بزيارة أحد أطراف دعوى منظورة أمامه، ولو كان رئيساً للجمهورية. إلا أن الرئيس العابد أصرّ وألحّ وكرر الدعوة، فرضح مالك لهذا الطلب حسب ما جاء في مذكراته.
ذهب حنا مالك إلى القصر الجمهوري، حيث التقاه الرئيس العابد بكلمات الترحيب والتأهيل، ثم بدأ حديثه بموضوع قضية ميراث والده، وقال له إنه يتخوف من أن تنحاز المحكمة لصالح أخيه عبد الرحمن، فتحكم له على حسابه. لم يخفِ القاضي اندهاشه من هذه الطرح، ورد عليه بكل ذكاء ولباقة: "يا فخامة الرئيس، إن المحكمة التي لا تتأثر لمصلحة رئيس الجمهورية بالذات، فإنها من باب أولى لن تتأثر لمصلحة أخيه، وإنه لمن دواعي الفخر أن تكون في سوريا محكمة لا تتأثر حتى لمصلحة فخامة رئيس الجمهورية".
تقبّل العابد جواب القاضي على مضض، ولم يتوقع أن يكون ردّه بهذا الشكل، وأنهى اللقاء بلباقة وودّعه إلى باب القصر. ثم طلب من وزير العدل سليم الجوخدار، نقل حنا مالك من المحاكم المختلطة إلى المحاكم العادية. وعندما بلغ هذا القرار القاضي مالك، تقدّم بطلب نقله من المحاكم المختلطة درءاً لإحراج وزير العدل من أن يوقّع على مثل هكذا تدخّل في عمل القضاء.
وقعت حادثة فريدة ومنسية تخالف وصف الرئيس ترامب، جرت قبل تسعة عقود في سوريا، لتثبت أن القضاء السوري لم يكن أقل نزاهةً من القضاء في دول متطورة للغاية، مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وذلك يوم مثول رئيس الجمهورية محمد علي العابد، أمام المحكمة خلال فترة حكمه
الجوخدار كان أحد أعلام القانون في بلاد الشام، وهو المفتي السابق لدمشق وقاضي الحرمين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ومن العار عليه أن يوقّع قرار نقل من هذا النوع، ليست له فيه لا ناقة ولا جمل. وقد فُصّلت الدعوى يومها لصالح خصوم الرئيس العابد، ولم يكن في وسعه إلا الاستئناف والاعتراض قضائياً.
مثالان آخران
وفي سنة 1935، نشرت جريدة الشعب إعلاناً قضائياً من ورثة مصطفى باشا العابد، عمّ رئيس الجمهورية، تطالب الرئاسة السورية برفع إيجار القصر الجمهوري (وهو ملك لمصطفى باشا)، من دون الدخول في المبلغ المتفق عليه سابقاً، والاكتفاء بتذكير العابد بأن عقده معهم ينتهي في 13 تموز/يوليو 1935.
بعدها بسنوات، اعتُقل أحد الوجهاء بتهمة مخالفة سعر التموين في بيع السمن والسكر، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وتم نقله إلى سجن القلعة. عُيّن القاضي المرموق محمد آقبيق، للنظر في القضية وجاءه اتصال من وزير الخارجية ورئيس الحكومة بالوكالة جميل مردم بك، لصالح المتهم. رد آقبيق عليه بحزم: "نطلب من دولة الرئيس عدم التدخل في سلطة القضاء فهي حكماً ليست من اختصاصه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم