شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ثنائية الصوماليين والعفر: لماذا لا يزال الصراع العرقي حاضراً في جيبوتي؟

ثنائية الصوماليين والعفر: لماذا لا يزال الصراع العرقي حاضراً في جيبوتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتنوّع

الجمعة 7 يوليو 202311:54 ص

بينما احتفل مواطنون بذكرى عيد الاستقلال الـ46 في جمهورية جيبوتي، في 27 حزيران/ يونيو الماضي، نظر آخرون إلى الذكرى بحسرة؛ فهي بالنسبة لهم تدشين للإقصاء والتهميش في حقهم. إنهم العفر.

في جيبوتي، ثلاث عرقيات كبرى شكّلت طابع البلاد وثقافتها؛ الصوماليون والعفر والعرب، وبجانبهم أقليات من المجموعات الأخرى. لكن ماذا عن تعداد العفر والصوماليين؟ هناك إجابتان؛ الأولى أنّ الصوماليين يشكلون نسبة 60%، والعفر نحو 35%، والـ5% المتبقية من الفرنسيين والعرب والأوروبيين الأفارقة وآخرين غير محددين، حسب موقع الـCIA.

الإجابة الثانية تتردد على ألسنة العديد من الناشطين العفريين في جيبوتي، الذين يرون أنّ تعداد العفر هو 70% من إجمالي عدد سكان جيبوتي، وعلى أقل تقدير تلك النسبة كانت عشية الاستقلال. يمثّل ذلك الاختلاف أحد أوجه أزمة الدولة القومية في جيبوتي، وتعود جذوره إلى عهد الاستعمار الفرنسي، الذي واجه تلك القضية بعد عقود من إدارة المنطقة التي تُعرف اليوم بجيبوتي، وذلك حين بدأ بتسجيل السكان وتقسيمهم، لأغراض الضرائب والتصويت في الاستفتاءات التي شهدتها البلاد، وأيضاً ضمن الدراسات السكانية والاجتماعية، لتكوين معرفة أوسع، ولتحديد سكان البلاد من غيرهم من الوافدين من دول الجوار.

تلك التقسيمات كانت ولا تزال هي العامل الأساسي في تشكيل وعي الأفراد، وعلى سبيل المثال كانت بداية المؤسسات الأهلية الحديثة، مثل الأندية الرياضية والأحزاب والجمعيات السياسية، تقوم على أسس المجموعات السكانية، خصوصاً عشيرة العيسى وقومية العفر. وحين نالت البلاد استقلالها عام 1977، كان الوفد الذي فاوض الفرنسيين يتكون من العيسى والعفر بشكلٍ أساسي.

لكن بعد 46 عاماً من خطاب الاستقلال الذي ألقاه أول رئيس للبلاد، حسن جوليد، ما زال حلم "الأمة الجيبوتية، والجيبوتيين" غير محقق، وما تزال ثنائية العفر والعيسى فاعلةً، وتجد صداها في ما يحدث من صراع ممتد بين العيسى في الإقليم الصومالي، والعفر في الإقليم العفري، وكلاهما إقليمان ضمن حدود الدولة الفيدرالية الإثيوبية.

تتكون جيبوتي من خمس محافظات هي: جيبوتي، عرتا، علي صبيح، دخل، وتاجورة. وتتواجد جميع القوميات في العاصمة جيبوتي، التي تُعدّ المدينة الأكبر من حيث عدد السكان. يعيش في العاصمة نحو 623 ألف مواطن من مجموع 1.13 مليوناً هم إجمالي عدد السكان، وفق تقديرات الأمم المتحدة لعام 2023. ويسكن العفر في مناطق الشمال والوسط، وفي الجنوب يتمركز الصوماليون.

ماذا يقول العفر؟

لكن الشكوى من التمييز لا تقتصر على القومية العفرية، بل تمتد إلى العشائر كافة التي تكوّن القومية الصومالية في جيبوتي والتي تشتكي هي الأخرى، وترى أنّ قبيلة "ماماسان" العيساوية هي من انفردت بالسلطة دونهم، إذ منها رئيسا البلاد الأول والثاني.

يذكر الناشط السياسي العفري، المقيم في أوروبا، علي إبراهيم، أنّه منذ العام 1977، تحكم عائلة واحدة جيبوتي، وهي قبيلة ماماسان التي احتكرت رئاسة البلاد منذ الاستقلال. وقال لرصيف22، إنّ تلك العائلة التي تنتمي إلى قبيلة العيسى من القومية الصومالية، عملت على تهميش العفر منذ تولت السلطة بعد الاستقلال، عبر إقصاء الشخصيات العفرية التي كانت شريكةً في السلطة، واستبدالها بأخرى عفرية موالية لها. يلخّص إبراهيم الموقف العفري في جيبوتي بأنّ شعب العفر ورموزه في الداخل والخارج غير راضين بسياسة الدولة التي تهدد وجود المجتمع العفري. ويتهم الحكومة في جيبوتي باتّباع نهج التغيير الديمغرافي في عدد من المحافظات.

بدوره يعود الباحث في التاريخ العفري، خالد الشريف، بالمسألة العفرية إلى التاريخ، ويقول لرصيف22، إنّ الصراع بين العيسى والعفر ليس جديداً، ويعود إلى قرون خلت، وهناك عداوة مستحكمة قديمة لها أبعاد دينية.

ويرى الباحث الجيبوتي المقيم في أوروبا، أنّه عندما اقترب خروج فرنسا من جيبوتي كان العفر يشكلون نسبة 80% من السكان، واليوم بعد عقود من هيمنة العيسى على السلطة، باتت نسبة العفر دون الـ35%، وهو الأمر الذي حصل بطريقتين؛ تجنيس الصوماليين العيسى من إثيوبيا والصومال (وُلد رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلي عام 1947 في الإقليم الصومالي في إثيوبيا)، خصوصاً بعد انهيار الدولة المركزية في الصومال عام 1991، والتلاعب في الوثائق الرسمية لتمكين الصوماليين العيسى في البلاد.

يربط الشريف بين الصراع العفري العيساوي في جيبوتي ونظيره في إثيوبيا؛ حيث القتال على الأرض بين العيسى في الإقليم الصومالي والعفر في الإقليم العفري، وكلاهما إقليمان ضمن الدولة الفيدرالية الإثيوبية التي تتكون من 11 إقليماً.

كما يتناول الباحث الشريف، الخلاف العفري-العفري قبيل الاستقلال، والذي أضرّ بالعفر، وكان بين علي عارف برهان أبو بكر باشا رئيس مجلس الحكومة المحلية عام 1967، والسياسي العفري أحمد ديني أحمد، الذي شغل منصب الأمين العام للائتلاف الوطني (العصبة الشعبية الإفريقية للاستقلال). يُذكَر أن رئيس الائتلاف السياسي في العصبة حسن جوليد، أصبح أول رئيس للجمهورية.

تبنّى علي عارف برهان وجهة نظر ترى بضرورة بقاء الاستعمار، خشية وقوع جيبوتي تحت نفوذ الدولة الصومالية حديثة الاستقلال وإثيوبيا، بينما طالب أحمد ديني بالاستقلال، وشغل منصب رئيس الحكومة بعد أيام من الاستقلال، ولمدة لم تتجاوز 7 أشهر. وفي دلالة على عدم رضا العفر عن مسار الدولة بعد الاستقلال، كان أحمد ديني هو قائد ثورة العفر المسلحة عام 1991، برغم أنّه كان الزعيم العفري الذي دعم مطلب الاستقلال، وتكوين جمهورية ترث الإقليم الفرنسي للعفر والعيسى (حل الاسم محل الصومال الفرنسي). وفي الرواية العفرية الأكثر شيوعاً، اتفق الزعيمان أحمد ديني وحسن جوليد على تولّي العفر منصب رئاسة الحكومة، بينما يتولى العيسى رئاسة الدولة، على أنّ تكون كل الصلاحيات التنفيذية بيد مجلس الوزراء.

وأحد أوجه التمييز التي يتحدث عنها العفر، التمييز الاقتصادي. وفي ذلك ذكر الباحث والناشط خالد الشريف، أنّ النظام الحاكم في جيبوتي يمنع التنمية في المناطق العفرية الخالصة كما في الشمال والوسط، حتى تلك التي تموّلها منظمات وجِهات دولية.

الرواية الصومالية

على الجانب الآخر، يرى باحثون ومفكرون من الصوماليين في جيبوتي (يُعرّفون أنفسهم بأنهم مواطنون فقط)، أنّه لا يوجد تمييز على أساس العرق في البلاد، ويستشهدون على ذلك بوجود العفر في مناصب كبرى منها رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان (الجمعية الوطنية)، ومناصب وزارية وغير ذلك.

يقول الصحافي والناشط السياسي، ياسين أحمد موسى: "لا يستهدف نظام جيلي مجتمعاً معيناً. إنها ليست إستراتيجيته". وذكر المعارِض المقيم في أوروبا لرصيف22، أنّ نظام الرئيس جيلي يتّبع سياسة فرّق تسُد، لأنّه لو استهدف قومية العفر فلن يحظى بأي دعم منها لنظامه، وهكذا حال الديكتاتورية: توظّف الجميع.

من جانبه، ذكر صحافي من القومية الصومالية في جيبوتي لرصيف22، أنّ الصوماليين يشكلون أغلبية سكان جيبوتي، لكن من حيث الأرض العفر يعيشون تاريخياً على مساحة أكبر. يستشهد الصحافي الذي فضّل عدم ذكر اسمه، بواقع العرب في جيبوتي، للبرهنة على عدم وجود تمييز عرقي في البلاد، موضحاً أنّ العرب الذين يشكلون نسبة 10% من سكان جيبوتي هم من الوافدين على مدار قرون، خصوصاً في العهد الاستعماري، من اليمن وعدن تحديداً، وعند الاستقلال باتوا مواطنين مثل الصوماليين والعفر، ولهم الحقوق نفسها ويشاركون في السلطة.

العرب الذين يشكلون نسبة 10% من سكان جيبوتي هم من الوافدين على مدار قرون، خصوصاً في العهد الاستعماري، من اليمن وعدن تحديداً، وعند الاستقلال باتوا مواطنين مثل الصوماليين والعفر، ولهم الحقوق نفسها ويشاركون في السلطة.

أما عن القضية العفرية، فيرى أنّ هناك من العفر من يتمسك بالوطنية والمواطنة للجميع، ويناضل وفق ذلك، وهناك من يريد جيبوتي أرضاً عفريةً لكل مواطن عفري، سواء أكان من إريتريا أو إثيوبيا. ونوّه بأنّ هناك من العيسى من يرى في جيبوتي أرضاً للعيسى من كل مكان، هو الآخر.

أما الاتهامات للنظام الحاكم بالتمييز بناءً على العرق، فيرى أنّها تطال النظام الحاكم من الجميع، نافياً وجود تمييز على أساس العرق في الجيش والأمن، وموضحاً أنّ قبائل العيسى تردد الاتهامات نفسها بحق القبيلة الحاكمة، إذ يشغل أفراد من قبيلة الرئيس (ماماسان) الكثير من المناصب الكبرى، ومنها رئاسة الأركان ورئاسة البحرية ورئاسة وكالة الأمن الوطني والمخابرات.

ومن واقع مشاهداته، ينفي وجود تمييز على أساس العرق في التعليم والتوظيف الحكومي والسياسة، دون إنكار وجود كبير "للواسطة والمحسوبية" في نيل الوظائف العامة.

الأعراق أمام القانون

يحظر الدستور في جيبوتي تأسيس الأحزاب السياسية على أساس الدين أو العرق. عشية الاستقلال تبنّت جيبوتي نظام الحزب الواحد حتى العام 1994، حين سمحت بوجود أربعة أحزاب سياسية في البلاد، ثم في العام 2002 تم إلغاء التحديد، وفُتح باب التسجيل للأحزاب دون قيود عددية. في عهد الحزب الواحد (حزب التجمع الشعبي من أجل التقدم)، كانت من كبار قادة الحزب شخصيات من الصوماليين والعفر والعرب.

أما مفهوم "المواطنة" فهو الأساس الذي بُني عليه الدستور، الذي لا يذكر شيئاً عن تقاسم منصبي الرئاسة ورئاسة الحكومة على أساس عرقي. لكن تلك المواطنة تُعدّ حديثةً نسبياً، وحتى قبيل الاستقلال كانت السلطات الاستعمارية الفرنسية تسجّل السكان وفق مجموعات على أسس منها العرق والقبيلة. كان التقسيم على أساس العرق حاضراً في مفاوضات عشية الاستقلال. رفض العيسى مقترحاً لتوزيع مقاعد الجمعية الوطنية وفق الشكل التالي؛ 31 مقعداً لكل من العيسى والعفر، و3 مقاعد للعرب، بدعوى أنّ عددهم أكبر. وخلال الفترة التي سبقت الاستقلال كانت هناك مطالبات من العيسى بعدم تسجيل العرب كمواطنين، وبترحيلهم، وتبعاً لهذه المخاوف هاجر بعض العرب إلى اليمن ومصر. تناولت دراسة بعنوان "Citizenship and the logic of sovereignty in Djibouti" قضية المواطنة في البلاد قبل الاستعمار وبعده، وذكرت أنّ نحو 10% من سكان البلاد لا يحملون جنسيتها، وليست لديهم جنسية أخرى، وهم من المواطنين/ ات الذين/ اللواتي حُرم آباؤهم من التسجيل كمواطنين قبل الاستقلال. قبيل إجراء الاستفتاءات في جيبوتي، وزعت السلطات الاستعمارية بطاقات هوية عددها 186،522 بطاقةً، مُنحت للعيسى منها 98،604 بطاقات، وللعفر 74،490، وللعرب 10،014، و3،414 بطاقةً لفئات أخرى.

خلال الفترة التي سبقت الاستقلال في جيبوتي، كانت هناك مطالبات من العيسى بعدم تسجيل العرب كمواطنين، وبترحيلهم، وتبعاً لهذه المخاوف هاجر بعض العرب إلى اليمن ومصر

تذكر الدراسة السابقة أن الأسس العرقية التي استخدمها الاستعمار الفرنسي كأساس للتعامل في جيبوتي، ظلت متّبعةً حتى ما بعد الاستقلال، وإن لم تظهر بشكل رسمي. وعلى ذلك سار العرف في تقاسم السلطة، من دون وجود أدلّة تدعم ادّعاء العفر بأنّ منصب رئيس الوزراء كان متفقاً أنّ تكون له كل الصلاحيات، كما الحال في بريطانيا. في السياق نفسه، لا تدعم الثقافة السياسية الفرنسية طرح العفر؛ حيث رئيس الوزراء يُعيَّن من قِبل رئيس الجمهورية، ولا يملك سلطات تنفيذيةً على غرار نظيره في الجمهوريات التي يُعدّ الرئيس فيها شرفياً، كحال العراق وإسرائيل وإثيوبيا.

ويمكن القول إن نظام الحكم في جيبوتي يقع في منطقة وسط بين السردية العفرية عن إقصاء ممنهج بحق العفريين وبين الرؤية الصومالية عن المواطنة؛ إذ تُجرى الانتخابات لتحديد مقاعد العفر والعيسى والعرب وفق تواجدهم الجغرافي المميز على مستوى المحافظات الخمس والعاصمة جيبوتي.

ومع أنّ دراسات غربيةً تناولت مسألة المواطنة في جيبوتي، وذكرت أنّ "بطاقات الهوية" تم توظيفها قبل الاستعمار وبعده لخدمة المصالح السياسية، كما في دراسة بعنوان "Afars, Issas - and Djiboutians: Toward a History of Denominations"، إلا أنّ القضية العفرية كما هي مطروحة على لسان الناشطين، بما فيها القول بأنّ نسبة 80% من سكان جيبوتي عشية الاستقلال كانوا من العفر، لا أدلة محايدةً تدعمها.

المواطنة الهشة

انتقالاً من رواية الصراع العرقي، الموجودة في إقليم القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عموماً، حيث تتداخل القوميات والعرقيات، فإن مشكلة التمييز في جيبوتي، تفسيرها الأكثر قبولاً أنها تكمن في أزمة الاستبداد السياسي، لا في الصراع العرقي.

فضلاً عن ذلك، فإن المشاريع والمؤسسات الحديثة التي دشّنها الاستعمار الفرنسي في جيبوتي، كانت أحد أسباب تعزيز الانقسام الموجود بين القوميتين العفرية والصومالية-العيساوية، إذ وظّف المستعمر السكان من العيسى، خاصةً بعد نقل مركز وجوده من أبوك العفرية إلى حيث أنشأ مدينة جيبوتي، القريبة من مناطق التواجد الصومالي. وتقدّم قضية "الوظيفة العامة" مدخلاً لفهم الواقع في جيبوتي.

بحسب الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، تعاني جيبوتي من عجز غذائي مزمن وتعتمد على الواردات لتلبية احتياجاتها الغذائية، إذ لديها أقل من 1،000 كم2 من الأراضي الصالحة للزراعة من إجمالي مساحتها البالغة 23.2 ألف كم2. يذكر تقرير الصندوق أنّ جيبوتي "شديدة الحساسية للصدمات الخارجية، بما في ذلك ارتفاع أسعار الغذاء والوقود". أما معدل الفقر الوطني، وفق تقرير الصندوق، فيبلغ 79%، ويصل خارج العاصمة إلى 94.2%، ويبلغ معدل الفقر المدقع في المناطق الريفية 72.5%. ويعيش 30% تقريباً من السكان في المناطق الريفية، ومع ذلك فإن الزراعة غير متطورة، إذ تساهم بنسبة 4% فقط من الدخل القومي.

تعاني جيبوتي من عجز غذائي مزمن وتعتمد على الواردات لتلبية احتياجاتها الغذائية، ومعدل الفقر الوطني يبلغ 79%، ويصل خارج العاصمة إلى 94.2%، ويبلغ معدل الفقر المدقع في المناطق الريفية 72.5%. ويعيش 30% تقريباً من السكان في المناطق الريفية.

أمام ذلك الوضع الاقتصادي الصعب للغاية، تصبح الوظيفة الحكومية محطّ تنافس بين الجميع، ومع محدودية التوظيف الحكومي سيشعر الجميع بالتمييز. وفي السياق ذاته، فإنّ السلطة التي حكمت البلاد منذ الاستقلال تتحمل مسؤولية ذلك التردي الاقتصادي وتبعاته الاجتماعية.

جانب آخر يزيد من هشاشة مفهوم "المواطنة"، هو اعتماد سرديات القوميات في جيبوتي ومناطق إفريقية أخرى، على الماضي للبرهنة على الملكية. في حالة جيبوتي، يتحدث العفر عن أنّ مدينة "زيلع" التاريخية التي تقع في إقليم صوماليلاند خضعت لحكم سلطنات عفرية، ويرون في ذلك دلالةً على أنّ القومية الصومالية توسعت على حساب العفر.

لكن الواضح هو أنّ نظام الحكم الذي تأسس في جيبوتي بعد الاستقلال، منذ عام 1977، هو المسؤول عن استمرار سردية القوميات العرقية بدلاً من مفهوم المواطنة. ودلالةً على ذلك، استند تمرّد العفر على السلطة على الأسس العرقية كحاضنة للعمل السياسي، برغم أنّ ذلك الحراك لم يتبنَّ شعارات غير وطنية؛ ففي حالة تمرّد جبهة "FRUD" عام 1990، كانت المطالب وطنيةً، وكذلك كانت المطالب خلال تمرّد جبهة "FDLD" العفرية قبل ذلك، عام 1979.

يقدّم الباحث سامسون بيزابيه "SAMSON A. BEZABEH"، في دراسته المعنونة "Citizenship and the logic of sovereignty in Djibouti"، شهادةً حيةً على واقع الموضوع العرقي في جيبوتي من خلال مشاهداته في أثناء إقامته فيها، ويرى أنّ المواطنة في جيبوتي ما تزال هشةً، حيث كل شيء محكوم بالطبقة. وفق ما يقول، فإن النفوذ في جيبوتي يقوم على أساس العرق؛ في الأعلى القبيلة التي منها رئيس البلاد "ماماسان"، ثم عشيرة العيسى الصومالية، ثم العفر ثم العرب ثم البقية، وكل ذلك مقترن بالموقع من السلطة.

بناءً على ما سبق، فإن التصريح بمفاهيم حديثة مثل المواطنة في الدستور والقوانين، والتأكيد على المساواة، سيكونان فارغَين من مضامينهما إن لم يُطبَّقا على أرض الواقع، كما هو حال تصريح الدستور في جيبوتي باعتبار الميثاق العالمي لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ منه، برغم السجل المتدني للغاية للبلاد في الالتزام بتلك الحقوق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard