شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن كوارث طبخ العزّاب في الغربة... ملوخية صفراء وحمام محروق

عن كوارث طبخ العزّاب في الغربة... ملوخية صفراء وحمام محروق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

الثلاثاء 4 يوليو 202301:38 م

كانت المرة الأولى التي أترك فيها بيت عائلتي في الصعيد، وأسافر بمفردي إلى القاهرة التي لا ترحم الغرباء، ألقيت حقيبة السفر الأثقل من همومي وقادني الجوع الكافر الذي لا يرحم ناحية المطبخ القابع في الركن الأيسر في شقة ابن عمي الذي سافر قبل وصولي بيوم واحد. فتحت الثلاجة العامرة وأخرجت كيس اللحمة المجمدة وبامية، ثم تذكرت في اللحظة الأخيرة أمراً مهماً، وهو أني لا أعرف الطبخ، سقطت دمعة خفيفة من عيني وأنا أعيد بيدي اللحمة وأغلق عليها باب الثلاجة.
كانت أمي تقول إن من العيب في الصعيد أن يدخل الرجال المطبخ، ولو كانت تركتني أشاهدها وهي تطهو الطعام لكنت تعلمت منها، ولم أقع فريسة لأكل الشارع وعمال "الدليفري" الملقبين بالطيارين.
في أحد الأيام اشتقت للملوخية، فتجرأت وطبختها اعتقاداً مني أنها الأسهل، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها ملوخية لونها أصفر، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أدخل فيها المطبخ وأنا أدعو في سري "أعوذ بك من شر ما صنعت".

طبخ الشباب 

انتشر على الـ"فيسبوك" منذ فترة فيديو لشاب مغترب لا يعرف شيئاً عن تجهيز الأكل وينتظر صديقه في السكن أن يقوم بعملية الطهو التي استغرقت وقتاً طويلاً وهو يكاد يفقد الوعي بعد عودته من عمله، ثم يقول في نهاية الفيديو بطريقة تغلب عليها الكوميديا السوداء: "لو حد عايز يتغرب يا يختار صاحب بيعرف يطبخ كويس ويخلص في مواعيده، يا يجيب أمه معاه". 
كانت أمي تقول أن من العيب في الصعيد أن يدخل الرجال المطبخ، ولو كانت تركتني لأشاهدها فقط لكنت تعلمت منها، ولم أقع فريسة لأكل الجاهز

يقول صاحب الفيديو الشهير محمد عاطف حجازي (24 عاماً) لرصيف22: "أنا من محافظة المنوفية ونشأت في بيئة لا تسمح للشاب بأن يقوم بأي عمل في البيت، كانت أمي تتولى الطبخ والغسيل وأعمال المنزل، وهو ما حولني إلى شخص اتكالي".
ويضيف: "بدأت محاولاتي بإعداد الأكلات البسيطة حين وجدت نفسي وحيداً وأعيش في محافظة الجيزة، وبالرغم من أنني أعيش في المنوفية التي لا تبتعد سوى عدة كليومترات عن الجيزة فهو اغتراب حقيقي لشاب مثلي كان يعتمد في كل شيء على والدته".
ويكمل "أخبرني صديقي بعد انتشار الفيديو أنني يجب أن أتعلم الطبخ بنفسي حتى لا أنتظره وأعتمد عليه، وأن علينا أن نقسم الأيام بيننا ويتولى كل واحد منا تجهيز الأكل في اليوم الذي يختاره مسبقاً، وحينها شعرت باضطهاد (أنا أمي ما قلتليش كده) ثم صورت فيديو وأنا بحاول أجهز أكل وكانت في الخلفية أغنية تتر مسلسل الوسية". 

تسبب بتسمم غذائي لكل السكن الجامعي

يستذكر فؤاد الأسعد (47 عاماً) آخر مرة طبخ فيها بكثير من الضحك والخجل، في العام 1998 كان يسكن في أحد العمارات في العاصمة عمان، والتي كانت مخصصة للطلاب من أبناء المغتربين من الفلسطينيين والأردنيين في الخليج، حين قرّر لحصوله على مبلغ مالي غير متوقع أن يدعو كل السكن إلى طبخة "مقلوبة".

يقول: "أنا والله العظيم أخذت الوصفة بحذافيرها من أمي على الهاتف، وكنت ألقن صاحبي الجالس إلى جانبي ليكتبها، ومن ثم ذهبنا واشترينا الأرز والكثير من الدجاج والخضار وكل ما ستحتاجه الطبخة، وضعنا الأغراض في مطبخ السكن وذهبنا إلى الجامعة أنهينا محاضراتنا وعدنا لنطبخ".  

تسبب فؤاد نتيجة محاولته المشؤومة لطبخ المقلوبة والتي دعا كل السكن إليها إلى إصابة 20 طالباً بالتسمم الغذائي 

ويضيف: "العلّة أننا دعونا كل السكن، وقلنا للعالم أن يعلم الغائب، واستعرنا الطناجر من صاحب السكن، وبدأنا بتطبيق الوصفة على عشر دجاجات، وأوصينا الجميع ألا يأكلوا طوال اليوم لأن العشاء مقلوبة، ثم فرشنا وأكلنا في ساحة السكن. كانت جيدة، أعني لا بأس بها، لكنهم أكلوها حتى آخر حبة أرز". 

في تلك الليلة المشؤومة كما يصفها فؤاد، بدأت أصوات الأبواب تتخابط في الليل والطلاب يهرعون إلى الحمامات بين من يتقيّا وبين المصاب بالإسهال، وبين من يصرخ من المغص، وجميعهم يشتمه هو ومقلوبته. 

ويختم: "كانت تلك آخر مرة أدخل فيها إلى مطبخ، أظن أنني أخطأت في أمر ما فيما يخص الدجاج، لكن حتى اليوم كلما قابلت صديقاً قديماً من أيام الجامعة يقول لي: مش إنت اللي سممت الدفعة كلها؟". 

رائحة الطبخ تذكرني بالمنزل

تعيش آلاء حسانين (27 عاماً) في العاصمة الفرنسية باريس، وهي من منزل مصري، وقد تعلمت الطبخ حين عاشت بمفردها في مصر خلال دراستها، حيث تقول إنها تعدت الموازنة والوزن المقبولين بسبب الأكل الجاهز، قبل أن تقرر تعلم الطبخ.
الفرق أنها كانت خلال سنوات دراستها تحاول إعداد طعام صحي لا تتعدى فترة تجهيزه العشر دقائق وهي أقصى مدة يمكن أن تتواجد فيها داخل المطبخ، تقول: "هنا في فرنسا أتجنب طبخ أي أكل مصري، لأنه يذكرني بالمنزل القديم على عكس معظم الناس الذين يزداد تعلقهم بالأكل العربي عندما يهاجرون، فيحاولون صنعه  في الغربة".

وصفة البانيه المحروق

يعيش أحمد علاء (27 عاماً) في كندا حيث يدرس في أكاديمية بحرية، يحكي تجربته في الطبخ لرصيف22: "المرة الأولى التي فكرت فيها بالطبخ لنفسي كنت في تورننتو، والمال الذي معي على وشك أن ينفد، ولم أكن أعمل في حينها، كانت الصعوبات تكمن في أنني لا أعرف مكونات المطبخ، فاستعنت بـ"غوغل"، وصرت أحدد مشترياتي بناء على الأكلة التي أريدها، وفي البداية كانت فكرة تجهيز الأكل مكلفة، فتوقفت محاولاتي واكتفيت بالأكل الجاهز". 
طبيخ العزّاب بحسب شهاداتهم يتميز بأنه إما محروق، أو مشعوط، أو غير ناضج... ألوانه غريبة ورائحته كذلك، وغير قابل للأكل الآدمي 
ويكمل: "لكن عندما بدأت أطبخ في البيت لاحظت أن الأكل يزيد ويكفي لمدة أطول، فكانت أول أكلة هي (بانيه) محروقة وغير لذيذة لكنني أكلتها لأنني استهلكت موازنة الطعام في ذلك اليوم في مكوناتها، هذا هو نوع الطعام الذي نأكله ونحن نبكي".
بعد أن غادر أحمد تورتنو وذهب لمدينة أخرى للدراسة، بدأ يطبخ بشكل مستمر، يقول: "بالتدريج بدأت أبتعد عن فكرة المثالية في الطبخ، وأترك نفسي للمطبخ، في كان تحضير الطعام يستغرق وقتاً طويلاً جداً، لأنني أتابع الوصفة من الموبايل خطوة بخطوة، أما حالياً فبإمكاني إعداد أكثر من طبخة في نفس الوقت".
يشتاق أحمد أحياناً لأكلة معينة فيجد ضالته لدى أصدقائه العرب في كندا، ويضيف "أن أطبخ كل يوم وأنا أعمل وأدرس هي فكرة صعبة للغاية، لذا في الغالب أجهز الأكل ليومين متتاليين، أما في فترات الامتحانات فأشتري الأكل من المطاعم".

تعلم الطبخ مكسب

على النقيض يوجد شباب آخرون يتقنون الطبخ، بما يغنيهم عن طلب العون أو المساعدة أو الاعتماد على الأكل الجاهز في الغربة، صابر (42 عاماً) يحكي لرصيف22 أنه تعلم الطبخ من والدته عندما كان يساعدها في أمور المطبخ ويحاول التخفيف عنها بعد أن تزوجت آخر شقيقاته وغادرت المنزل.
يقول: "كان عمري 17 عاماً حين عرضت على أمي المساعدة في جلي الأواني ومساعدتها في المطبخ، كنت أتابع بدقة كل ما تفعله، وأتعلم منها كيف تطهو الطعام وكمية المقادير". 
تعلم صابر الطبخ بهدف مساعدة أمه وهو في عمر 17 عاماً، هذا الأمر الذي سهّل عليه غربته ومنعه من الاتكالية 
في إحدى المرات استغل صابر عدم وجود والدته، ودخل المطبخ وصنع "طاجن لحمة بالبامية"، وبعد عودتها فوجئت بالطعام داخل الفرن وأمامه دقائق ليكون جاهزاً للأكل.
يقول: "لا أنسى ذلك اليوم، كان الأكل شهياً بشهادة أمي، يومها قررت تعليمي بقية الوصفات، الأمر الذي فادني في غربتي، حيث كنت أطبخ لنفسي أكلاً نظيفاً وصحياً، وبالطبع كل الفضل لأمي".
الطبخ هو من المهارات التي ستنفعنا دائماً في الحياة، ولا أحد يخسر من تعلم أية مهارة جديدة، بعض الأمهات يعرفن هذا الأمر ويحرصن على تعليمه للأبناء والبنات، من باب الاعتماد على النفس وعدم الاتكال أو انتظار الأم تحديداً العاملة للتولى بمفردها الطبخ.
من هؤلاء الأمهات رضا علي (64 عاماً)، تقول لرصيف22: "حاولت أن أعلم أطفالي الطبخ من عمر صغير، كي يعتمدوا على أنفسهم حين يكبرون تماماً كما علمتني أمي، الحقيقة أن البنات كانوا أسرع في التعلم، لأن الأولاد لا يصبرون ويريدون أن يأكلوا بسرعة وبدون تعب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image