شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لكي نعرف لماذا علينا زيارة

لكي نعرف لماذا علينا زيارة "سُرسُق"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 5 يوليو 202312:44 م

بعد التّفجير النيتراتي للمرفأ في الرابع من آب/أغسطس 2020، والذي دمّر نحو ثلث العاصمة، يداوي اليوم متحف سرسق جراح عمارته العريقة وآلام كنوزه المكنونة، المؤرشِفة لحيوات المدينة التي لا تموت. فبدعمٍ فرنسي من مؤسسة "سان غوبان" للبناء، و"سان جوست" للديكور، وإشراف الفنانة مايا الحسيني، يجبّر المتحف انكسارات نوافذه العالية، رمزاً للانفتاح الدائم على الآخر والتسامح معه. هكذا، أضيئت في 26 أيّار/مايو 2023 واجهته بزجاجها "الأرتيزانال"، المُشرق بالألوان على غرار أطياف ناس بيروت، استعداداً لافتتاح جديد وبرؤية نحو غدٍ متفائل.

لكن قبل أي شيء، لنعد إلى ذلك التاريخ المشؤوم حين كان محترفون وصحافيون وكتّاب وهواة للنّوع، على موعد مع معرضَين هناك، هما "Ten Stories from the Sursock Museum Collection" و"Pastels, or the sparkle of life" لجورج قرم. وكان الأوّل قدّ ضمّ 100 عمل لـ21 فنّاناً/ةً، منها ما هو من المجموعة الدائمة للمتحف، أو ما استُعير من مجموعات خاصّة وحصرياً للمناسبة. أما عن أعمال الفنان قرم، فكان عددها 26 عملاً، أُخرجت جميعها من المستودعات، بعد إيداع طويل.

بعد التّفجير النيتراتي للمرفأ في الرابع من آب/أغسطس 2020، والذي دمّر نحو ثلث العاصمة، يداوي اليوم متحف سرسق جراح عمارته العريقة وآلام كنوزه المكنونة، المؤرشِفة لحيوات المدينة التي لا تموت

ولأن الطابقَين، مكان الفعالية، كانا الأكثر تأثراً بالعصف العنيف، تمزقت 66 تحفةً من أصل 132، وتشظّت وتلطخت وفقدت طلاءها. وحدث نتيجةً لتطاير الأبواب، سقوط الأسقف ووقوع عدد من المقتنيات أرضاً، وهي كلّها نُقلت بدايةً إلى المستودعات التي غطّاها بغزارة الغبار المستجدّ، قبل أن يُنفَض عنها وقد بلغ عددها مع غيرها 1،500 عمل. الأمر تحقق فعليّاً بجهود المسؤولة عن الترميم هناك، كريستين خليفة، وعبر حملة مكّنتها BeMA من خلال فريقها المختصّ.

لقد كانت عمليةً دقيقةً ومضنيةً، انتهت بعد أكثر من سنة، حيث وضعت كريستين اللمسات الأخيرة على اللوحات في أيّار/مايو 2021، راتئةً النتوءات خيطاً بخيط، معالجةً الفجوات بدقةٍ متناهية. كما أعادت إيزابيل سكاف ونتالي حنّا جمع فُتات المنحوتات المنثورة، فأخرجتاها على أقرب صورة إلى ما كانت عليه قبل الفاجعة. نتحدّث بشكل خاص عن عملَين من الفخّار لسيمون فتّال، بعنوان "حرب"، كادا أن يُحسبا بين الخسائر المحسومة.

أمّا عن المكتبة، فجوّدت موادها مسؤولة الأرشيف في المتحف، روينا بو حرب، وقد تطوّع معها خرّيجو الماجستير في دراسات المتاحف وإدارة التراث الثقافي في جامعة البلمند وبتيسير من مديرة البرنامج، الدكتورة نادين پنايوت. ولقد توفرت المعدات اللازمة عبر Blue Shield وBiladi، والمواد عبر INP (المعهد الوطني للتراث). كما ساهمت منحة سخيّة من معهد ڠوته باستقدام الوسائل غير الموجودة في لبنان من الخارج، حتى انتهى الشغل على أنواع المطبوعات كافة قُبيل انتهاء العام 2020 أيضاً. وتخللته مشاركة فعّالة لكارولين جولو، عبر ورشة إنقاذ الوثائق الورقية من التلف، بمساندة قيّمة منALIPH (التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع).

امتدت إذاً عمليات الترميم على خط زمني غير قصير اقترن في مراحله المختلفة الصبر بالخبرات العالية. وبالتوازي مع تنفيذ هذه التصليحات داخل البلد، أُرسِلت 3 أعمال إلى معهد پومپدو في باريس نظراً إلى تعقيد العمل عليها، وهي: پورتريه نيكولا سرسق لكيس ڨان دونڠن (1939)، و"أوديل مظلوم" لسيسي سرسق (1967)، وثالثة من دون عنوان لپول ڠيراڠوسيان (1970). هناك، تولّتها ڨيرونيك سارونا-ستيدمان، كي تُردّ مؤخراً، في 19 نيسان/أبريل 2023.

لكن، لنعد الآن إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى الولادة في الـ1912 حين شُيّد القصر الناصع البياض من أجل سكن صاحبه، رجل الأعمال ذي الذوق الرفيع: نقولا إبراهيم سرسق. وفي التفاصيل أنّه هُندس على الطراز القوطيّ (المنسوب إلى البندقيّة)، مع نفحة عثمانية راجت جدّاً في تلك الحقبة. وإذ أوصى السيد النبيل بأنّ يتحوّل منزله بعد موته إلى متحفٍ مجانيّ لكل اللبنانيين، رُمِّم ووُسّع في الـ1970، ليلائم وظيفته كفضاء عام يستقبل الاحتفاءات الكبرى. في الـ1999، صنّفته مديرية الآثار تحت الفئة "أ" للمباني التاريخية. وخضع في الـ2008 لمشروع ترميم وتوسيع استمر 5 أعوام، ليُعاد افتتاحه رسميّاً في الـ2015.

الجزء الأوّل من المعارض: فراغات كرونولوجيّة من الماضي

يسلّط الضّوء على 6 انقطاعات تخللت عمره الشقيّ، والبالغ 62 عاماً، أي من الإقفال بين الـ1952 والـ1961 الذي أوصل الدارة إلى معركة قانونية، فتحوّلت في إثرها إلى متحف، إلى التسكير القسري الأخير بسبب الانفجار والذي دام ثلاث سنوات.

بعنوانه "موجات الزّمن"، يُعدّ من بين أبرز المعارض المُنتظَرة. وتشرح عنه مديرة المتحف كارينا الحلو، فتقول إنّه "يستطلع ثلاثة جداول زمنيّة في سرد تاريخيّ لمتحف سرسق، ولمعارضه، والأحداث الاجتماعية-السياسية المحلية البارزة الموازية للإنتاج الفني في البلاد".

وتُضيف القيّمة أنّه "بمثابة شهادات حيّة وثناءات للمقاومة الثقافيّة التي قادها فنانون وعاملون في المجال الثقافي، ورعاة الفنّ ومناصروه لمواجهة كل التحديات التي مرّ بها لبنان على مرّ السنين". إنّه دعوة مفتوحة لاكتشاف محفوظات المتحف وطرائق تأهيله المنصرمة، بواسطة أعمال للفنّانين اللبنانيين: بول ڠيراڠوسيان، سمير خدّاج، سامية عسيران، شفيق عبّود، سعيد عقل، أكرم زعتري، جيلبير الحاج ونسرين خضر.

كذلك عارف الريّس الذي خلّد الانتفاضات في لوحته "يوم الجامعة اللبنانيّة" (1968)، وجان خليفة الذي وثّق في مجموعة "الخوف" احتلال الميليشيات لبيته واحتجازه فترة الحرب الأهليّة، ولور غريّب التي جسّدت بالأبيض والأسود الهول الذي عاشته مع المدنيين في لوحتها "آخ يا بيروت"، بُعيد التفجير وقُبيل وفاتها.

تختم الحلو بأن المختارات دالّة "على أحداث مهمّة في حياة كلّ فنان، وتُمثّل كبسولات زمنيةً تعرض للممارسات الفنية المتولدة من العنف الذي شكّل سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، بالإضافة إلى الجدل حول: هل يتمّ تمثيل وجوهه القاسية أم لا؟".

المحطة الدائمة: صالون الخريف، تأسيس لمتن فني-وطني

بحسب الحلو، يُعدّ المتحف "من أوائل متاحف الفنّ المعاصر في المنطقة العربية والوحيد والأول في لبنان".

منه انطلق "صالون الخريف" (1961)، مسلّطاً الضوء على الفن الحديث، غارساً بذور التظاهرات التشكيلية في جغرافيته ومكوّناً للذائقة الفنية المحلية. لقد خلَق مساحةً للتلاقي والتحاور حول ماهيّة الفن التشكيلي وتجسيد الحروب وويلات العنف فيه، فأثار نقاشاً رصيناً حول هويّة لبنان في هذا المجال ومدى تأثّرها بالموجات الأوروبية والفرنسية بالتحديد.

ومنه انطلق معرض نتاشا غاسباريان وزياد قبلاوي "أنا جاهل"، الذي بحث في أهمية الصالون المستوحى من الموديل الفرنسي للمعارض في القرن التاسع عشر، وكيف كان له دور مرجعي في صياغة المتن في البلاد، علماً أنّه ارتبط بمقالة جدليّة لجلال خوري حملت العنوان ذاته، في "ماغازين" الفرانكوفونيّة (1964)، تضمّنت احتجاجاً شديد اللهجة على تحيّز المتحف النخبوي إلى التجريد، وتوقع فيها الأزمات اللاحقة.

تختم الحلو بأن المختارات دالّة "على أحداث مهمّة في حياة كلّ فنان، وتُمثّل كبسولات زمنيةً تعرض للممارسات الفنية المتولدة من العنف الذي شكّل سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته"

ومن أبرز الفنانين اللبنانيين الذين عرضوا في الصالون، في ستينيات القرن الماضي: شفيق عبّود، إيفيت أشقر، إيتيل عدنان، ميشال بصبوص، سلوى روضة شقير، بول غيراغوسيان، إيلي كنعان، عادل صغير، وأيضاً عارف الريّس، وغيرهم ممن ستُسنح للزائرين فرصة إمتاع حواسهم بروائعهم.

الجزء الثاني من المعارض: تصويب السهم نحو المنتهى

كلّ من "إيجيكتا" أو تدفق (تجهيز سمعي بصري للفنان زاد ملتقى)، و"رؤى بيروت" (فيديو ثلاثيّ الأبعاد وصور من مجموعة فؤاد دبّاس من تنفيذ شركة Iconem لرقمنة المواقع التراثيّة المهددة)، تسطران فكرة أنّ في إبداعات البشر طاقةً إيجابيةً تمنحهم عمق التفكير في قضايا مستقبل الفن، مثل: كيف تصبح الردهات والواجهات والصالات والمعروضات أكثر جاذبيةً لروّاد المتاحف؟ كيف تبني هذه علاقةً ديناميةً مع محيطها؟ وكيف تخلق ذكريات حميمةً لدى الأفراد؟ إنها أيضاً تحيلنا إلى سعة الخيال حول إشكاليات فنّ المستقبل: أي أزمنة العوالم الافتراضية، الذكاء الاصطناعي وتصوّراتنا لأماكننا التي نسجنا فيها الذكريات، وكيف نحفظ الآثار المهدَدة بالزوال جرّاء الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية.

معرض "طريق الأرض" (تقييم ماري نور حشيمة)، بدوره، يبحث في استملاك الأراضي في لبنان والتحقق من الأنماط السائدة في الملكية الخاصة. يبدو أنّ هذا الجزء الذي يشارك فيه الفنانون: أحمد غصين، مروة أرسانيوس وسابين سابا، يستشفّ سبلاً انعتاقيةً تؤول إلى إدراك متجدّد لبيئتنا العتيقة.

مع اقتراب موسم التروما في الصيف القريب، والذي نتمناه واعداً بالسياحة، لا سيّما الثقافية منها، على من يصمّون آذانهم عن أصوات أهالي المقتولين غدراً والمصابين والمهجرين عمداً من بيوتهم ومصادر أرزاقهم، أخذ نفسٍ عميق. هذا لأنّ شركاءهم في الوطن والمواطنة ما زال لديهم همّ رواية سردياتهم أيضاً، وحفظها وإعادة إنتاجها ونشرها. ومن اعتقد أنّه بجريمته -مقدّماً الموت في الدنيا- وما سبقها من اغتيالات لقادة فكر وعلم، قانون وسياسة وتنمية عمرانية وبشرية، سوف يغيّر ولو شيئاً بسيطاً من دور بيروت بالتنوير على ضفاف هذا الشرق، أو من هوايتها الغنية والمتكاملة بتعدداتها، قد ارتكب خطأً فظيعاً بحقّ نفسه أوّلاً. محروسة الدرّة الغالية!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard