العنوان أعلاه ليس ثمناً للحصول على علبة تبغ من النوع الفاره، أو سعرُ تذكرةٍ لعبور جسر بين مدينتين يفصل بينهما حاجزٌ عسكري وسياجٌ وبنادق، ولا هو أجرُ راعٍ يقود خرافه من عشبٍ يابسٍ إلى عشبٍ يابس.
يحدثني صاحبي "الذي لا يخون صاحبه" أنه رأى على شاشات التلفزة الوطنية فنانةً (كبيرة) أهدرت زفافها فنانةٌ أخرى هي أيضاً (كبيرة)، بأن قامت الأخيرةُ بجعل يوم زفاف الأولى عيد ميلادٍ صاخبٍ لها ولصديقاتها، ما أثارَ حفيظة المسؤولين والسياسيين واليمينيين واليساريين ورجال الدولة والمشايخ من كافة الطوائف التي تنحدر من سلالاتٍ لا مثيل لها، في بلادنا، بلاد السلالات التي لا مثيل لها.
ثم أنه تدخّل الكبار والصغار لحل ذلك الخلاف سيما بعد أن انتشرت أخباره العظيمة كالنار في الهشيم الذي هو بلادنا المهشمة، على جميع مواقع التواصل الاجتماعي. صاحبي ذاك موظف صغير في دائرةٍ حكومية كبيرة، ومواطن صغير في حكومة كبيرة، تعرف المستقبل وتسلّم عليه يومياً، بالأحضان والقبل.
يصمت صاحبي، وأصمت أنا، ويصمت الكون، ثم ينهدم الصمت بتنهيدةٍ جارحةٍ وكأنها من فعل السكاكينِ في زفيرِ مَن ليس له أحد: "لكن ولدي الصغير يسألني أن أشتري له دجاجةً مشوية، دجاجة سيأكل سعرها ثلثي راتبي. ثم ماذا أفعلُ بالثلث المتبقي من ليراتِ الذلِ والعمر المهدور؟".
اليوم هو أول الشهر الجديد، أو آخر الشهر القديم، وسأستلم راتبي كاملاً، 100 ألف ليرة سورية، أو 12 دولاراً بلغة الأرقام الصعبة، وسأشتري لولدي حلمه اللذيذ، ولجسدي سنتمتراً، سنتمتراً واحداً فقط من هذا التراب
ويضيف صاحبي بعد أن يجفّف بكمّ قميصه دمعتين، إحداهما مازالت عالقةً في الحلق: "هل سيكون لقضيتي صخب قضية الفنانة الكبيرة إن جعلتُ من جوع ابني حقاً قضية؟". هل سيكون لمبتغى الطفل شريط قصير في "مانشيت" الأخبار العاجلة بعد النشيد الوطني؟
ويبكي صاحبي، ويذهب السياسيون إلى نسائهم والقناصون إلى بنادقهم، والتجار إلى بضائعهم، والمستثمرون إلى لحمنا الطازج.
لدى صاحبي أربعة أولاد، منهم ابنة في التاسعة عشر من عمرها، تحلمُ منذ خمس سنواتٍ بفستانٍ طويل يغطي كاحليها، كي لا يرى "الآخرونَ" خدوش جلدها الطري التي تركها الركوع الطويل أمام طابور الخبزِ والضوءِ والهواء.
الفتاة التي تحكي لنا دائماً حكاية "مارتا البانية" التي قصّها يوماً جبران خليل جبران على آذانِ عالمٍ أصم، تلك المارتا التي أغواها فارسٌ جميل يمتطي فرساً أبيض، بقبلة، قبلة واحدة فقط، ثم خطفها من شفةِ النبع إلى حلق المدينة، لتتحول هناك إلى عاهرة تعجنُ بين فخذيها قمحَ الآخرين.
وتسكت الفتاة، كأنما نهرٌ من الأسئلة جفّ بين شفتيها الطريتين.
هل مارتا تلك تشبه بلادي، أم هو الفارس – الوطن الذي أخذها من ريفها الشاسع لغرفته الضيقة؟ أم أنها الحكاية ذاتها ببطلها المكان؟ أسئلةٌ بلا إجابات، في حناجرَ يذوّبها الملح. صاحبي الذي حدثتكم عنه وعن قضيته، إن شئتم أن تروها كذلك، وأولاده الأربعة، أصبح يجوب الشوارع في الظهيرة، ويصرخ في وجوه العابرين الباردة:
"ولدي يحلم بدجاجة مشوية، ولتحترق الأرض"
الأرض التي تذرف دموعها حتى اليوم على موت المرسلين والسلف الصالح، والكهنة ورجالات الدول "العظام" والجنرالات وإمبراطورة خالدة قضت بعد أن احتلت ثماني عشر دولة بشعوبها وقمحها ومائها.
"لكن ولدي يحلم بدجاجة مشوية، ولتحترق الثورات"
صور جيفارا التي تملأ الخمارات والملاهي ومعسكرات التدريب ، خطابات القائد التي تفوح رائحتها من فم الأسطوانات والراديوهات وشاشات التلفزة، المنطلقات النظرية والصور ناصلة اللون ودبابات ستالين التي مازالت تدهسُ الصدور الساخنة في بلادي؛ بلاد الطوائف والقبائل والسلالات النبيلة.
خطابات القائد التي تفوح رائحتها من فم الأسطوانات والراديوهات وشاشات التلفزة، المنطلقات النظرية والصور ناصلة اللون ودبابات ستالين التي مازالت تدهسُ الصدور الساخنة في بلادي؛ بلاد الطوائف والقبائل والسلالات النبيلة
" لكن ولدي يحلم بدجاجة مشوية، ولتحترق القضية"
يهذي صاحبي مثل كل الذين بقوا في هذه المقبرة الجماعية، يهذي من خفّة الموت وثقل الحياة والخوف، الخوف الذي يتربّص بالجميع كحيوانٍ جائع، خوف الغد وخوف بعد الغد وخوف الدقيقة التالية أيها العالم.
ونحن أيضاً جائعون، يقول صاحبي، بعد أن يشعل لفافةً من تبغٍ عربي رخيص، وتسعل رئتاه وينذبح صوته بالكلام الذي يجرح كصبار.
ونحن أيضاً جائعون، ليس للخبز فقط، بل لكل ما ينقص البشري: هل هي الكرامة؟ ثم ماذا تعني الكرامة إن كنت استطعتُ أن أتصالح معها ولو قليلاً، ماذا تعني أمام رغيف الخبز الذي لا يصالحُ سوى البطون الملآى؟
لكنني سأخرجُ أيضاً في الظهيرة، عندما الشمسُ تفضحُ الوجوه والخرابَ والتهذيبَ المملّ، لأقرع الطبولَ كما يفعل المهرجون في السيرك أو المحاربون في الجبال، وأصرخ بأعلى صوتي. سأصرخ حتى ينطفئَ الضوء في العيون الضريرة:
"ولدي يحلم بدجاجةٍ مشوية، ولتحترق الخطابات"
من جديدٍ يصمت صاحبي طويلاً كفستان ابنته الذي لم يأتِ ولن ترتديه لتخفي يأسها وجروح صباها، كالقبلة التي طبعها الفارس الوسيم على شفتي "مارتا البانية".
اليوم هو أول الشهر الجديد، أو آخر الشهر القديم، وسأستلم راتبي كاملاً، 100 ألف ليرة سورية، أو 12 دولاراً بلغة الأرقام الصعبة، وسأشتري لولدي حلمه اللذيذ؛ ولجسدي سنتمتراً، سنتمتراً واحداً فقط من هذا التراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...