إذا كنت تتجوّل في شوارع سوريا هذه الأيام، ستلاحظ رشاقة القطط التي تصادفها في الحارات والشّوارع الرئيسيّة.
لا تخضع قطط البلاد لـ "الكيتو دايت"، ولا تمارس نشاطاً رياضيّاً خارجاً عن المألوف، ولا تراقب الحصص اليوميّة من السّعرات الحراريّة التي تدخل إلى جسدها الآخذ بالتضاؤل، لكنها، لسوء حظّها، قططٌ وُلدت هنا، فهل تتخيّل مدى سوء حظك إذا وُلدت قطّاً في سوريا؟
قد تقول إن هذا أهون من أن تولد إنساناً بكامل وعيه ومداركه، ففي هذه البلاد، كونك إنساناً، مهمة شاقّة جداً. لهذا السبب بالضبط، قد تستنكر فكرة كتابة مقالٍ تضامنيّ مع قطّ فيما يعاني الإنسان في هذه البقعة ما يعانيه، وقد تستهجن مناقشة هزال القطط، فيما ينبش الكثير من الجائعين في حاويات القُمامة، في مشهدٍ بات اعتياديّاً، فربما نكون البلد الوحيد في العالم الذي صار فيه النّبش في القمامة مهنة، يترتّب على محترفيها دفع الضّرائب، ولا يكاد ينقصها سوى نقابة تناقش حقوق النبّاشين.
وحتى لا يصير الإنسان موضوعنا، كما العادة، سأعود للقطط.
للقطّ مظلوميّة خاصة. هو يدفع ثمن ذنوبنا نحن البشر. يُظلم دون أن يستطيع ردّ الظلم عن نفسه. إنه كائن مسلوب الإرادة تماماً، ولا قدرة لديه على تغيير قدره. غير ملحوظ بشريّاً، ولا يهتم لمأساته أحد. كائن "غلبان"، يكتفي بفُتات الموائد. فكلما نقُص فُتات الموائد البشريّة، زاد هزالاً ونحولاً.
لذا، فإنني في هذا المقال، سأعلن انحيازي لقطط الشوارع وتضامني الكامل معها، بوصفها كائناتٍ عاجزة، والعجز هنا ليس قراراً. فإذا لم يكن بوسعك تفهّم أسباب تضامني معها، فتعال أخبرك ماذا يعني أن تكون قطّاً سوريّاً اليوم.
لا تخضع قطط البلاد لـ "الكيتو دايت"، ولا تمارس نشاطاً رياضيّاً خارجاً عن المألوف، ولا تراقب الحصص اليوميّة من السّعرات الحراريّة، لكنها، لسوء حظّها، قططٌ وُلدت هنا، فهل تتخيّل مدى سوء حظك إذا وُلدت قطّاً في سوريا؟
لعنة الجغرافيا
كقطٍّ سوريّ، ينبغي أن تكون ملمّاً بعلم "الجيوبوليتيك"، لأنّك يا صديقي ستسمع الكثير من الحديث عن العلاقة المتبادلة بين نحافتك كقطّ وولادتك في بقعة جغرافيّة على هذه الدرجة من الأهمية الجيوبوليتيكيّة. قد تسمع هذا الرأي فاغراً فاكَ، كقطٍّ أحمق، فليس بوسعك تخيّل حكمة وجودك هنا بما هو أبعد من مجرد ليلة شُباطيّة حمراء قضتها والدتك القطّة مع القطّ الأب، تحت سيارة مركونة على جانب الطريق.
فعليك بالعمل الحثيث على تحسين ثقافتك الجيوبوليتيكيّة، لتصير واعياً بمسؤولياتك التّاريخيّة، كقطّ مهم، يقف على طريق التّجارة البينيّة، أو يعترض مشروع خطّ الغاز العربيّ العابر إلى أوروبا، فهكذا فقط سيكون بوسعك التّصالح مع السّعرات الحراريّة القليلة التي ستدخل إلى جسدك كقطّ حظي بفرصة استثنائية لاختبار الحياة هنا، وعليه أن يدفع ثمن هذا الشّرف العظيم.
من الجيّد إذن أن نكون قططاً مثلكم بدل أن تكونوا بشراً مثلنا
لعنة الانقسامات
كقطٍّ في بلاد تعاني هذا الانقسام الحاد، لا أهمية لمكانك في أي صراعٍ دائرٍ بالبلاد اليوم، فأنت يا عزيزي ستدفع الثمن على أيّة حال. ستداس تحت أقدام الفيلة البشريّة. فحتى إذا اخترت أن تكون قطّاً سوريّاً وحسب، وتنازلت عن كل ما عدا ذلك، سيقع على عاتقك مسؤوليّة التّعامل مع أخطاء الأطراف المتصارعة على أرضك. وها أنت ذا تدفع الثّمن دون أن يكون لك أي تأثير في ما يجري، ودون أن تكون طرفاً في انقساماتنا البشريّة التافهة.
الطبقيّة
كقطّ شارع، ستعيش مأساة أن تكون هزيلاً، وتكتفي بالقليل القليل، في بلادٍ الغالبية الساحقة من أناسها جوعى. ستجد في الشّارع، بين الفينة والأخرى، قططاً مدلّلة، ممتلئة، تتجوّل بلحم متكدّس وكروش بارزة. قد تشعر ببعض الحسد والحقد الطبقيّ عليها، ولك كلّ الحق في ذلك، لو لا أنّه عليك ألا تنسى يا صديقي، أنّه حتى تلك القطط المدلّلة تلتقي معك بكونها مسلوبة الإرادة، فلا هي أخذت طعاماً من دربك، ولا نهبت رزقاً كان لك. فلا مسؤولية عليها في اختلال ميزان العدالة الاجتماعيّة، فالحظ وحده جعلها متخمة، وجعلك جائعاً. فإذا أردت أن تصبّ جام غضبك عليها، ففكّر مرتين قبل أن تخوض غمار معركة خاسرة مع قطة مدلّلة.
كقطّ شارع، ستعيش مأساة أن تكون هزيلاً، وتكتفي بالقليل القليل، في بلادٍ الغالبية الساحقة من أناسها جوعى. ستجد في الشّارع، بين الفينة والأخرى، قططاً مدلّلة، ممتلئة، تتجوّل بلحم متكدّس وكروش بارزة
هواجس قطّ في زمن الجوع
في كتابه "الكامل في التاريخ"، وصف "ابن الأثير" أسوأ مجاعة حدثت في تاريخ مصر. عُرفت تلك المجاعة، التي حدثت في نهاية عهد الخليفة الفاطميّ المستنصر بالله، باسم "الشّدّة المستنصريّة". سبعُ سنواتٍ عجاف عاشتها مصر، انخفض فيها مستوى نهر النيل إلى الحدود الدنيا، فتدهورت الزراعة، انتشر الاحتكار، زاد الغلاء، وعمّ الجوع. في تلك الأعوام، جاع الناس إلى الحدّ الذي أوصلهم إلى التهام القطط والكلاب.
قد يلتهم البشر بعضهم في زمن الجوع، مجازياً، في بلدان يتغذّى فيها القوي على الضعيف. لكنك، كقطّ مسكين، ستكون هدفاً سهلاً للغالبية العظمى من الجائعين، فمن السهل أن يوجّه البشر جوعهم باتجاه قطّ.
هكذا، ستكون أكبر الخاسرين في زمن الجوع، وسيتعيّن عليك أن تختبر خطراً "وجوديّاً"، بالمعنى الحقيقيّ والدقيق للكلمة، بعيداً عن الاستثمار الخبيث لها عندنا نحن البشر.
مزيّة أن تكون قطّاً
في الحديث عن تاريخ المجاعات والحروب، لم أقرأ عن كاتبٍ وثّق عدد الضحايا من فصيلتكم. حتى هيئات الأمم المتحدة التي تولي اهتماماً كبيراً بالأرقام والنسب، لا تقيم وزناً لمن يعيش منكم تحت خط الفقر.
فهل يعود ذلك لاعتقاد البشر بأنكم كائنات ستجد وسيلة للحياة كيفما افترس الجوع والفقر منّا، أم أن الأمر هو كونكم لا ترتقون في عيونهم لمستوى الأضرار الجانبيّة البشريّة التي تخلّفها الحروب والأزمات؟
لا أعلم إذا كانت حقيقة كونكم لستم أرقاماً أو أضراراً جانبية مزيّة لكم كقطط، لكنني أعلم أن تلك الأرقام والنسب التي نصطف فيها ككائنات تستحق الشفقة، لا تجعل حياتنا أفضل، ولا تحدث فرقاً في إنقاذ الضعفاء والجوعى من تغوّل الأقوياء، فمن الجيّد إذن أن نكون قططاً مثلكم بدل أن تكونوا بشراً مثلنا. على الأقل، سنكون أكثر سكينةً وراحة، فجهلكم مريح ومعرفتنا مُتعبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...