"إذا مرّت نملة بجانبه غطّت مؤخرتها لتتحاشاه". لم يصدّقني أحد عندما قلت إنه تحرّش بي، ولهذا السبب سكتّ المرة التالية والتالية... والتالية.
عندما تعلّمت الكلام، قالوا لي: "ما بدنا نسمع صوتك" أكثر من أي شيء آخر، وعندما صرت بالمدرسة جاوبت مرةً جواباً طويلاً على سؤالٍ قصيرٍ، وكانت آخر مرةٍ يسمح لي بالتكلّم في الفصل، بعدها قلت لأبي إنّي أريد أن أصير صحفية حتى لا يسكتني أحد، فاصفرّ لونه وألقى نكتةً ترعبني إلى اللحظة: "بدّك تبهدلينا بالمخافر آخر العمر".
كنت طفلة وقالوا "يقصّ لسانك" ومراهقة فقصّوا شِعري ونصّي، لأنه يقول ما لا يجب أن يقال، وصحفيةً فقطعوا يديّ ولساني ونتفوا أجنحتي، وصرت الآن بنتاً تختنق بلسانها قبل أن تنطق، لكنّي فهمت: الصمت سمة البلاد ومثلما نصمت عن انقطاع الكهرباء نصمت عن مشاكل النساء.
"إذا مرّت نملة بجانبه غطّت مؤخرتها لتتحاشاه". لم يصدّقني أحد عندما قلت إنه تحرّش بي، ولهذا السبب سكتّ المرة التالية والتالية... والتالية
سارة التي دمعها حجر
أعرف بنتاً اسمها سارة، تجلس أمامي وتخبرني كيف تم اغتصابها، بهدوءٍ ودون مقاومة، حصل ما حصل قبل أن تدرك ماهيته. كانت متوترة وتكزّ على أسنانها لوقتٍ لم تشعر به، لم ترمش ولم تشعر إلا بالبرودة تكتسح جسدها: شيء بارد على نهديها، لعاب أبرد على رقبتها، مياه مالحة على وجنتيها، وشيء لا تعرف من أين يجيء كأنه يقصّ عظامها من البرد، وفجأةً شعرت بدفقٍ دافئٍ غمرها كلها، واستطاعت أخيراً أن تشهق. رمى لها علبة مناديلٍ بيضاء وأشعل سيجارة، لكنّه قبل أن يغادر المنزل عبّر بوضوحٍ عما يريد تالياً: "بدي أرجع ما لاقيك، ماشي؟".
عادت لبيتها، نظرت إلى المرآة وبقيت وقتاً طويلاً تعاين دماءها وبشرتها الملوّنة، البنفسجي لونها المفضّل غير أنها لم ترد رؤيته على جلدها، راقبت كيف تحفر الدمعة في روحها وهي تنزل، وقطع والدها المشهد.
صار وجهه كمّونيّاً، وربّما بدأ الشيب يغزو رأسه منذ تلك اللحظة، سألها بهدوء:
- شو صار؟
- ابن أخوك
خبّأتْ معظم نساء بلادي قصصهنّ في توابيتٍ كبيرةٍ أو صغيرة؛ أكفان من التجاهل، أو الصمت، أو "قصّ الألسن" دون شواهدٍ أو صلوات، لكن لحسن الحظ فالبلاد قبر واسع
تنفّس الصعداء، إذ طمأنته فكرة أنه من العائلة؛ هكذا لن تسبب له حادثة سخيفة، مثل اغتصاب ابنته، بفضيحة كبيرة مفادها أن ابنته بلا شرف، وتصرّف باكتراثٍ أقل مما توقَّعت، لامها لأنها فتحت له باب البيت، رغم أنه قريبها من الدرجة الأولى، لكنّه توّصل إلى حلٍ مرضٍ، سيزوّجها إياه لو كانت حبلى، وسيقصّ لسانها لو أخبرت أحداً بما حدث إذا لم تكن كذلك. وبغضب خرج لينفّس عن غضبه في قهوةٍ ما.
بعد ساعاتٍ عاد إلى المنزل ووجد سارة مكانها، صرخوا في وجه بعضهما، ضربها وهربت.
ليست هذه القصة ما قصم ظهري، بل عيون سارة التي تحكي عن جسدها الممزّق بالبساطة التي أحكي فيها عن كنزةٍ أحبها حوّلتها أمي إلى ممسحة، وأنا التي قلت لنفسي "منيح ما حكيت" من جهة، وأحسدها لأنها استطاعت رغم كل شيء أن تصرخ بدل أن تبلع قلبها مثلما فعلت.
سارة تعرّف نفسها اليوم على أنها ناجية، تتحدّث عن التحرّش والاغتصاب وحقوق النساء مثلما تتحدث عن ارتفاع الأسعار وقلّة مصادر التعلّم في بلادها: كلّها أولوّية قصوى ويجب الحديث عنها الآن وفوراً، وكلّها قضية أبعد من أن تكون شخصية.
أنهت سارة حديثاً مطوّلاً عن حقوق النساء بنبرةٍ حيادية تدلّ على تعافيها الكامل، وهو شيء بقيت أحسدها عليه إلى أن اضطررت لمساعدتها على تجاوز نوبة هلع، بينما كنا نتحدّث عن الفرق بين تربية القطط وتربية الكلاب ونضحك.
ليس عن النسوية
لا نعرف خلق هويّاتٍ بصرية مميزة، ولا تتنافس علاماتنا التجارية في السوق الكبرى، لكننا حتماً نجيد ابتكار الصور النمطية وننافس عالمياً في تعزيزها، لذا من المهم أن أخبركم بأن هذا النص ليس نصاً نسوياً؛ بل عني، لأني بعد سنين طويلة من الهرب عدت لمعركتي ولم أجد ساحةً لأقاتل فيها، خصمي أعلن انتصاره وليس عندي جمهور يصفّق لي أو يربّت على كتفي، لهذا أقول لمن مثلي، إنّي سأحرص على إيجاد من يصدقها إذا تحدّثت فآمل ألّا تصمت أبداً، أما أنا فأعرف أنّي تأخرت لكني تعبت من الصمت.
خبّأتْ معظم نساء بلادي قصصهنّ في توابيتٍ كبيرةٍ أو صغيرة؛ أكفان من التجاهل، أو الصمت، أو "قصّ الألسن" دون شواهدٍ أو صلوات، لكن لحسن الحظ فالبلاد قبر واسع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...