شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ستة كيلوغرامات اكتسبتها بسبب مشاهدة الموكبانغ

ستة كيلوغرامات اكتسبتها بسبب مشاهدة الموكبانغ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء نحن والتنوّع

الجمعة 23 يونيو 202311:02 ص

قالها لي زوجي بصوت حازم: "هدول رح يخربو بيتك". أتذكّر كلامه هذا بعد شهرين وأنا أقف على الميزان وأطالع الرقم "75"، وأشهق: ستة كيلو غرامات مكتسبة خلال شهرين، ياللكارثة!

صدفة قادت إلى أخرى

لا أدري كيف بدأ الأمر بالضبط، إلا أن أحداً من أصدقائي على فيسبوك بالتأكيد كان قد شاهد مقطعاً من مقاطع تناول الطعام بشراهة، والذي يدعى "موكبانغ"، فظهر هذا المقطع تلقائياً بين مقترحات الفيديو الخاصة بي: صبية صغيرة الحجم بملامح آسيوية وعينين مبطنتين وفم لطيف، تفرش أمامها مائدة واسعة من المعكرونة والبيض واللحوم والصلصات الشهية التي لا أعرف اسم أي منها. ضغطتُ زر التشغيل فتحول الفم "الفستقة" إلى ثقب أسود يبتلع كل ما أمامه بشراهة كبيرة وسرعة مهولة.

صُدم عقلي، ولكن كيف؟ كيف يمكن لجسد ضئيل من عائلة مقاس "XS" أن يتناول كل هذه الكمية؟ شيء ما من الفضول والاستغراب دفعني لمتابعة المشاهدة، وشيء ما آخر تمنى كثيراً لو تقف هذه الفتاة، إذ كان دماغي مصرّاً أنها تملك جسداً بشكل الإجاصة الذي تتموضع الدهون الزائدة فيه في منطقة الورك والأرداف، أو أنها ستبدو ببطنها المنتفخة كقنبلة موقوتة مثل الضفدع، وسوف تنفجر في أي لحظة لا محالة، كما حدث الأمر في قصة الضفدع والبقرة التي ثقبت جداتنا آذاننا بها في سنوات الطفولة.

الموكبانغ: صبية صغيرة الحجم بملامح آسيوية تفرش أمامها مائدة واسعة من المعكرونة والبيض واللحوم والصلصات الشهية. ثم يتحول الفم "الفستقة" إلى ثقب أسود يبتلع كل ما أمامه بشراهة كبيرة وسرعة مهولة

أتممت مشاهدة الفيديو فتلاه واحد آخر يحمل الموضوع ذاته، ولكن بثيمة مختلفة هذه المرة، فوهة الجحيم ذاتها، الفم الصغير ذو الفعل الكبير فقط سيد الشاشة، وإلى جانبه يد تلقمه ما لذ وطاب، فتصطبغ الشفتان وما حولهما باللون البرتقالي والمحمرّ، لتمسك اليد منديلاً ورقياً لا يكاد ينهي عمله حتى تتسخ المنطقة مجدداً أكثر من ذي قبل.

القاسم المشترك بين المقطعين وما تلاهما هو قلة الكلام أو انعدامه، وأما الصوت السائد فيهما فهو صوت القضم والمضغ والبلع، والذي اكتشفت فيما بعد أن وضوحه ليس عفوياً ولا بريئاً البتة، إنما صادر عن مكبّرات صوت مخصصة مركبة على مقربة من الفم ليخرج الصوت بهذا الوضوح والجلاء الذي نسمعه.

لا أدري كم مقطعاً شاهدت خلال الساعتين اللتين أمضيتهما في هذا العالم الذي دخلته أول مرة، والذي توجهت فور خروجي منه إلى الثلاجة التي تصفر إلّا من بعض الزيت والزعتر ودبس الفليفلة!

أحب أن أشاهد وأكره أن أسمع

بدأت فكرة الموكبانغ من كوريا الجنوبية، وهي بمعناها الحرفي تعني تناول الطعام في بث مباشر، ولقد لجأ الكوريون أولاً ومن خلفهم العالم تالياً إلى تناول الطعام أثناء التوجه للجمهور الرقمي كنوع من طلب الأنس، فهم بطبيعتهم مجتمعات تسودها العزلة، فكانت مشاعر الوحدة هي الدافع لأن يخرج "الموكبانغرز" الأوائل إلى الملأ ليتناولوا وجباتهم، وعندما استشعر هؤلاء الكمّ الرهيب لاهتمام الجمهور بهذا المحتوى وخاصة المبالغ منه، وتحسسوا الدولارات الكثيرة في حساباتهم البنكية حولوا هذا التصرف العفوي إلى صنعة تحشد لأجلها أحدث معدات الصوت والإضاءة والتصوير.

ولكن انتشار الأمر وكثرة الحديث عنه وربطه بين السمنة التي تغزو المجتمع الكوري الجنوبي، دعا الحكومة لممارسة نوع من التوجيه والرقابة عليه، الأمر الذي قاد إلى احتجاجات والتماسات من قبل الموكبانغرز ومتابعيهم بذريعة أن الأمر يعتبر مسّاً بالحريات الشخصية.

المفارقة الأشد غرابة من لجوء الموكبانغرز إلى الأكل بسبب العزلة هي لجوء محبي الموكبانغ إلى العزلة لأجل مشاهدتهم، هذا ما حدث معي على الأقل، إذ صرت أجعل من مشاهدة الموكبانغ إلى جانب كأس ساخن من المتة، مكافأة لنفسي في الوقت الذي أخصصه لها، وفي أي وقت أكون فيه بمفردي، إذ ليس ثمة ما هو أكثر إزعاجاً من أن يقاطعك أحد ويضطرك لفعل أي شيء، بينما تقف اللقمة عالقة في فم السيدة الأسيوية الصغيرة ومتكوّرة تحت خديها.

وكثيراً ما تساءلت عن سبب انجذابي لهذه المقاطع بالذات، والتي لا ينالني منها إلا جوع في كل وقت، ينتهي باستسلام وعشاء متأخّر وملاحظات عن ازدياد وزني أتلقاها من المحيط، وعلّلت الأسباب بأنني أقوم بأعمال مجهدة ذهنياً وفكرياً طيلة الوقت، فوجدت في الموكبانغ محتوى لا يضطرني إلى إعمال عقلي، إذ إنني أصل إلى نهاية اليوم أضعف حيلة من أن أركّز وأشغل دماغي في تحليل أحداث الروايات ومشاهد المسلسلات.

استندت في استنتاجي إلى تقرير منشور في صحيفة ريبورتر الأمريكية، والذي تمّ فيه تسليط الضوء على ظاهرة الموكبانغ التي لم تنل حتى الآن نصيباً وفيراً من تحليل علماء النفس، وورد في التقرير أن مشاهدة الموكبانغ تُشبع ما يدعى "الجوع البصري" عبر النظر إلى الأطعمة الشهية وصورها الجميلة، وهذا ما يدفع المفرج إلى مشاهدة المزيد، وذكر التقرير تأثيرات إيجابية عديدة لمشاهدة الأطعمة الشهية، من بينها خلق الإحساس بالسعادة وتخفيف مستويات التوتر.

المفارقة الأشد غرابة من لجوء الموكبانغرز إلى الأكل بسبب العزلة هي لجوء محبي الموكبانغ إلى العزلة لأجل مشاهدتهم، هذا ما حدث معي، إذ صرت أجعل من مشاهدة الموكبانغ إلى جانب كأس ساخن من المتة، مكافأة لنفسي 

وكيلا أشعر بالغرابة والوحدة، بت أقرأ التعليقات على مقاطع الموكبانغ، فوجدت مشاهدين مثلي يحبون المشاهدة ولكن أصوات المضغ تضايقهم، فيضطرون لكتم الصوت، أما البعض الآخر فكان يستمتع كل المتعة بالأصوات الصادرة ويمتطيها للوصول إلى النوم أو النشوة الدماغية المعروفة باسم ASMR.

قسم من المتابعين يثار لمشاهدة السيدات الضئيلات يتناولن كميات الطعام الضخمة، وقسم آخر يستعين بهن لفتح قابليته المسدودة دائماً عن تناول الطعام، وقسم ينتابه الفضول والرغبة برؤية تحول الصحون من ممتلئة إلى فارغة، وثمة فئة لا بأس بها كانت تبدي تقزّزها من هذه المقاطع، ولا أدري حقيقة ماذا يكسبون من كتابة آرائهم وشتائمهم في الحيز الافتراضي الخاص بالموكبانغرز تحديداً.

كان من الصعب الانتهاء من مشاهدة الموكبانغ دون الدخول إلى المطبخ وافتراس أي شيء حرفياً، أي شيء يطفئ التوق إلى تناول الطعام الذي تؤجّجه المشاهدة، انتبهت لاحقاً إلى سرعتي في تناول الوجبات وحجم اللقمات المبالغ به، كما انتبهت ملابسي وانتبه أصدقائي وزوجي إلى ازدياد وزني، بتّ أكثر إهمالاً لنفسي وأقل ثقة، ليخبرني زوجي أثناء مصادفته لي للمرة الألف أشاهد الموكبانغ، بأن هؤلاء "سيخربون بيتي".

معظم الموكبانغرز مصابون بالبوليميا أو يوفقون بوعي بين عملهم كموكبانغرز والحمية المرفقة بممارسة الرياضة، فيحتفظون برشاقتهم، والبعض الآخر تظهر كل لقمة ابتلعوها على أجسادهم التي تحولت إلى أكياس دهن مليئة بأنواع الاضطرابات والاعتلالات والأمراض، وإنه لمن المجحف حقاً أن تُثار معدتك من منظر شخص يتناول خروفاً كاملاً، فتفتح ثلاجتك وتملأها برغيف حكومي من الخبز الأبيض المحمّص والطماطم، فتزداد وزناً رغم ذلك بينما يحتفظ هو برشاقته.

بدأت للمرة المئة حمية غذائية، ولكن في هذه المرة عاهدت نفسي أن أتجاوز كل مقاطع الموكبانغ وأتجنّب فتحها، وهذا ما جعلني ملتزمة حتى الآن، ساعة من المشي السريع وإجازة من العمل الفكري المضني، والنتيجة خسارة كيلوغرامين اثنين في الأسبوع الأول.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard