شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
المنشد الكفيف الذي أنار بصيرتي… الشيخ أحمد برين

المنشد الكفيف الذي أنار بصيرتي… الشيخ أحمد برين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والخطاب الديني

الثلاثاء 20 يونيو 202301:06 م

يعقد يده اليسرى بجانب أذنه، ثم يبدأ بتغريد الآهات. كانت تلك أول فتوحات الغرام بيني وبين الشيخ. يذوب تماماً ويندمج كلياً في نسيم كلماته. يُرجع كتفه إلى الوراء قليلاً ثم يتقدّم مرةً أخرى. يعزف على الدف وتتدلى منه الصاجات، فيُخرج لنا أصواتاً بديعةً يكتمل حسنها بعذوبة النغم.

لا أذكر منذ متى تحديداً بدأت علاقتي بالشيخ أحمد برين، ولكن ما أعرفه الآن أنها لن تنتهي أبداً. أقول لنفسي: إذا ما كنت يوماً مديناً للإنترنت بشيء، فمن هناك تكونت معرفتي بأحمد برين. تلك الشهرة التي نالها برين بيننا نحن الشباب الأصغر سنّاً منه في شمال مصر، يُلحظ صداها بتنوع محتوى الشيخ من دون ترتيب أو تأريخ للمسيرة، فهناك مثلاً وجه شريط واحد يعمل في الكاسيت، ويا سعدنا لو وجدنا الشريط كاملاً! وتكتمل صفوة الإبداع بالفيديوهات المصورة التي تُبرز تفرّده.

عندما ندخل عالم برين للمرة الأولى، نجد أنفسنا في جوّ آخر لا يشبه ما عرفناه من قبل؛ فكل شيء عند برين مختلف ومتجدد. يتخطى برين كونه منشداً دينياً أو مدّاحاً فقط، وإنما تشمل أغانيه التراث الصعيدي، المواويل، والحكايات الشعبية، كما أنه امتلك ملكة كتابة الشعر والارتجال.

يتخطى برين كونه منشداً دينياً أو مدّاحاً فقط، وإنما تشمل أغانيه التراث الصعيدي، المواويل، والحكايات الشعبية، كما أنه امتلك ملكة كتابة الشعر والارتجال

فاجأني برين كثيراً حينما وجدته يحوّل قصص القرآن إلى أبيات مقفاة تشرح الحكايات بسلاسة، فلا تحمل التسطيح اللغوي باللغة العامية ولا تكتسب صعوبة العربية الفصحى، وإنما كانت بين بين، مفعمة برؤى جديدة تنمّ عن ذائقة فنية رفيعة عنده وسردٍ سلس.

بصيرة برين

أول ما شدّني إليه كانت رؤيته لقصة النبي يوسف من منظور زُليخا، زوجة عزيز مصر، تلك المرأة التي أرقها الحب، فيقول على لسانها:

حب ابن يعقوب عامل بس لُمْتوني

أعمل عزومة وساعة عصر ياجوني

دبحت ميتين بدنة (ناقة) ومن الغزال ستين

في حجرة الطبخ كانوا من البلد اتنين

شافوا ابن يعقوب وقطعت يدهم الاتنين

قالت: يا مَساكين أهو اللي فيهِ لُمْتوني

حتى نهاية الموال الذي يختمه على لسان يوسف بأن "السجن أحسن من عذاب مالك".

رأيت حكاية الشيخ مرتكزةً على الحب أكثر من الجانب المعتاد عن عفّة يوسف، وأيقنت أنني أمام مبدع فذّ لديه ملكات خاصة.

"موسى كليم الله يحكم ظاهراً والخضر يحكم بالقضا في الحال"؛ هكذا افتتح برين قصة موسى والخضر وهو مطلع يستوفي بلاغة القول في شرح العلاقة بين الخضر الذي يُنفّذ قضاء الله وموسى الذي لا يرى جوهر الأشياء، فلم يفهم سبب خرق السفينة، ومن بعدها قتل الغلام، وأخيراً بناء السور للقرية التي رفضت إكرام موسى والخضر. يقول برين على لسان الخضر عن كل موقف:

الأولى كنت تعرفني ونسيت اسمي

والثانية كنت محبوبي بقيت خصمي

والثالثة أنت والأيام هريت جسمي

آدي جزاة اللي عكر وغيره صاد

تستمر رحلة موسى والخضر إلى آخرها بالتفصيل، وفي بداية الجزء الثاني من الحكاية يتخيل برين كيف كان اللقاء بين موسى والخضر، فيقول:

لاقيه بعلمه اللدني

قاله: من أخبرك عني؟

قاله: ربي اللي خلقني

أمانة يا شيخي أيا عمي

هل أتبعك لتعلمني؟

قاله: إن كنت عايز تتبعني

وفعلت شي لا تسألني

وكون صابر والصبر أهو داه

يستمر السجال بينهما ويبرع برين في طرح وجهة نظر كل منهما بسلاسة، فيقرب إلينا الحدث كأننا نراه، بل يصبح كلّ منا أحد أفراده، حتى أننا لا نريد من الشيخ الانتهاء.

برين والحب

لم يقف تنوع برين عند هذا الحد، بل تغنّى كثيراً بالحب بمرارته وحلاوته، وبرغم كثرة من تغنّوا باسم ليلى، إلا أن برين تفنن في أكثر من تسجيل وطريقة. يقول:

أنا بحبك يا ليلى وعلى الله حبي يتم

نزلت دموع سايلة وبتنزل على الكُم

حبك عذب وعذاب والله حلو وسم

جميلة يا ليلى

كما يقول بعد وصلة من الآهات والغمغمة التي تبعث في النفس المحبة والهيام، حتى نجد أحد المحبين يقول: "سلامتك من قولة آه". فيغني "سلبت ليلى مني العقل" بطريقته الخاصة، فنشعر أننا نسمعها للمرة الأولى. لا يختلف مفهوم الحب الإلهي وحب آل البيت عن المحبوبة في كلمات برين، فالغاية واحدة، ألا وهي الوصل، فنجده يقول:

العذاب في الحب هين

بس لو يرضى الحبيب

أما هجره شىء يجنن

شيء يزيد النار لهيب

لم ينشغل برين كثيراً بغناء الموشحات وقصائد ابن الفارض أو الحلاج مثلاً، ولم تلعب القصائد ذلك الدور الكبير في مشواره عموماً، ولكنه حينما يقرر أن يجتاز تلك الحدود، تصبح ساحته الخاصة فيغنيها بشكل فريد من نوعه، فنسمعه في موشح "يا غصن نقا مكللاً بالذهب"، ويتعرينا الوجد، خصوصاً عندما ينهي الموشح بقوله: "إن كنتَ حلفتَ ألا تكلّمني/كلّم غيري لعلّي أسمعكَ أنا".

ولأن أصل الأشياء عند برين، هو المحبة، فجده يغني طوال الوقت عن تلك الرحلة، مهما اختلف مضمونها:

رقوا انظروا حالي

جسمي صبح بالي

على فراق الحبايب

ولا يقف نوح الحمام هنا فحسب. يجوب برين الجنوب باحثاً عن العصفور الذي يمثل عنده رمز اللقاء والأمان، فيبدأ بالمديح كعادته، قائلاً: "فكيف أنساك يا من لست تنساني". ثم يتغنى: "حبيبي لما رحل توه مني الأمان". وهكذا يظل طوال التسجيل هائماً حتى يفتح لنا باباً جديداً عندما يصل إلى مبتغاه:

باب القبول اتفتح قدم طلب يابني

إحنا علينا الأساس وأنت عليك تبني

أنا غفلت لحظة وجه المحبوب يعاتبني

بتحب وتنام، يبقى في شرع مين يابني؟

ولأن رحلات العارفين والمحبين لا تخلو من عذابات الانتظار والزلات، كذلك لم ينسَ برين أن يترك لنا دليلاً للصبر في مواله "علبة الصبر"، فيبدأ بقوله: "ويا علبة الصبر مين شالك ضنى قبلي/ كتوب على ماركتك: دا الطيب المبلي"، إلى آخر الموال الذي يوجهنا فيه برين إلى الصبر ولا ينسى أن يترك لنا دعوته في شريط "يا رب توبة" حتى تكتمل حلقته الصوفية من دون نقص.

"فرش وغطا"

نأتي إلى الجزء الأروع في مسيرة برين، وهو إتقانه فن الواو، وهو فن يُتداول شفهياً بدأه بن عروس في المربعات، واشتمل أيضاً على الموال السبعاوي أو المسبعات، ويُعدّ "فرش وغطا" أحد فنون الواو حيث يبدأ أحدهم بالفرش، ويكون الرد عليه الغطا.

تتكون المسبعات من سبعة أشطر، أول ثلاثة منها تتشابه في القافية، تليها قافية أخرى في الأشطر الثلاثة الثانية، بينما الشطر السابع والأخير الذي يغلق باب المسبع يشبه في قافيته الأشطر الثلاثة الأولى.

وهو ما يتحقق في شريط "فرش وغطا" حيث الفن الذي يعتمد على الارتجال الخالص أو الاستعانة بالموروث الشعبي، قدّمه برين مع تلميذه الشيخ محمد العجوز، واستعان به المطرب وائل الفشني في تتر "واحة الغروب" بعدما استمع إلى الشريط بالصدفة وانتقى منه مطلع برين:

سافر حبيبي وجه خلّي يودعني

بكى وبل المحارم، قلت: ليه يعني؟

أنا قلت ده فراق يا أخي ولا دلع يعني

قال لي: أنت داري بالفرقة وما فيها،

والله فراق الحبايب مرّ يوجعني

ومع استكمال الشريط نلاحظ مدى تناغم الشيخين وتقاربهما، كما نلحظ خفة دم برين الذي يتفاعل مع العجوز والمحبين بالمودة نفسها تقريباً، حتى يعلق على إحدى جمل العجوز فيقول له: "منغمشة"، ويبدو ثقل برين واضحاً، خبرةً وأداءً، فهو يمسك بتلابيب الموروث ويحكي الأبيات كما يريد.

طمح العجوز في ما بعد إلى الشهرة تحت أضواء القاهرة، وهو الأمر الذي لم يكن يشغل برين أبداً، وغنّى العجوز أغنية "أشكرك" الشعبية الشهيرة، ووقعت يداي على تسجيل اسمه "التحدي بين الشيخين"، يتضح فيه مدى محبة برين للعجوز، ومدى فرادة تركيباته وتأليفه، فيقول له معاتباً بلطف شيخ يحنو على تلميذه:

لبست ملبوس وخايل فيه عايزينك

ومشيت في الفن برضه الفن عايزينك

مين اللي قال بيعناك؟

م أنت ليك الجسد والروح

برضك حبيبنا وأنا قلبي صبح مشروح

لما نشوفك يوم

بنشمه على ريحة الروح

تروح وين ما تروح

يا عجوز عايزينك

لا يقف برين عند هذا الحد، وإنما يمدح مع العجوز في شريط السفينة مدحاً غريباً في شكله، فنجده يتنقل بين المديح وبين حكم الدنيا ببلاغة المُبصر الحكيم العارف فلا نلبث أن نقول: الله، حتى نصمت مندهشين.

نلمس هذا الاختلاف أيضاً في حفلته في إيطاليا، حيث يمدح قائلاً:

نبينا أعلى الموصفِ

أقل من الندر يوفي

خدوا من راجل صوفي

وأسمع مدح الجميل

يتنوع جمهور برين تنوعاً مبهراً فيضم "الشادر" المنصوب في الشارع الأطياف كافة، ونرى المكان ممتلئاً عن آخره، ولكن المحبة تسع أن نجلس على أول المسرح أو نتواجد في أي بقعة تسمح لنا بالوقوف. كان الشيخ برين يشدو: "والمرار اللي شربته لو حد غيري مايشربوش"، وتلتقط الكاميرا طفلاً يردد كلمات الشيخ عن حفظ وهيام، ويتمايل يميناً ويساراً، وهو يشد أطراف "الجاكيت" إلى الأمام من مرارة لم يذقها بعد، وإنما هو سحر برين!

لم تقتصر موهبة برين على هذا أيضاً، فكلما غصنا في عالمه أكثر، اكتشفنا أنه يُبصر ما لا تراه عيوننا، ويعرف ببصيرته حلاوة الإيمان.

لا عجب في تسمية برين بشيخ المدّاحين. كان يحلّق بجناحيه عالياً بالذكر، إما من آيات القرآن التي حفظها صغيراً، أو من الموروث، أو من إبداعه الخاص

سافر برين وأحيا حفلات عدة في فرنسا وإيطاليا والمغرب وغيرها الكثير، وفي كل مرة يستوقفني عزف برين على الدف؛ كم تثير العجب الأصوات التي تخرج منه، وفي أحيان أخرى يقرّب كلتا يديه من فمه ويصفق أمامه فيُخرج صوتاً موسيقياً جذاباً. ذلك التفرد جعل من وجوده حضرةً كاملةً كلُّ شيء فيها مختلف. صوته في "ليالي" صوت شجي وعميق ودافئ يفي بلعب دور البطولة.

لا عجب في تسمية برين بشيخ المدّاحين. كان يحلّق بجناحيه عالياً بالذكر، إما من آيات القرآن التي حفظها صغيراً، أو من الموروث، أو من إبداعه الخاص. يتمايل نسيم الحب في صوت برين، وتتمايل أغصان الود والمدد في القلوب. يسكر الحالمون في خمر الجنة، وتصبح خطواتهم أخف، ويتغنون قائلين:

يا بساط اللوز يا وردي

لك نجوم الليل تهدي

كل من يعشق جمالك

وأنا المسكين يا وعدي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard