شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كان قرار الانفصال شجاعاً، وكنت جبانة لأني تأخرت فيه

كان قرار الانفصال شجاعاً، وكنت جبانة لأني تأخرت فيه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 20 يونيو 202311:22 ص

كان قرار الانفصال شجاعاً، وكنت جبانة لأني تأخرت فيه

استمع-ـي إلى المقال هنا

بعد أكثر من عام ونصف على انفصالي، يبدو الزحف لمرور كل هذا الوقت قاسياً بما يكفي لأقول بأني سلحفاة فقدت إحساسها بالوقت تمشي إلى نفسها على لوحٍ من الإبر الواقفة. لم ينته صمود الإبر ولا وجع السلحفاة. كان الوقت وحده يمضي إلى وجهته، وانتهى اليوم هنا، في هذا النص.

كان قراراً شجاعاً وكنت جبانة بما يكفي لأتأخر عنه كل هذا الوقت. القرارات الكبيرة دوماً ندفع لأجلها أثماناً كبيرة أيضاً، وقد نخسر الكثير لننقذ أنفسنا من قاع كنا نغرق فيه إلى ظلام لا يشبه حتى عتمتنا.

نحن النساء من نتخذ هذا القرار؛ نمارس الصمود والتشبث طول الوقت، نتعلّق بأملٍ خفيف الظل، ثقيلٍ على القلب لأنه مغموس بالألم. يشبه الأمر التعلّق بغيمة تمرّ من فوقك لتمطر في جهة أخرى بعيدة عنك، ويحدث أن نلعن أنوثتنا الهشّة، أمومتنا العاجزة، الأنا اليائسة، الذات الخائفة والدموع التي تكابر طول الوقت كيلا تخذلنا على حين غرّة.

نحن النساء من نتخذ قرار الانفصال؛ نمارس الصمود والتشبّث طول الوقت، ويحدث أن نلعن أنوثتنا الهشّة، أمومتنا العاجزة، الأنا اليائسة، الذات الخائفة والدموع التي تكابر طول الوقت كيلا تخذلنا على حين غرّة

فهمت الآن لماذا تستكين النساء، لماذا يمتهن الصمت، لماذا يفضّلن التكيّف على التكلّف، فالتكلفة التي ندفعها لهذا القرار الكبير لا تقوى على حملها كثيرات.

قرار الانفصال ليس سهلاً ولا يجب أن يكون. إذا شعرت أي امرأة بأنها في علاقة سامة أو غير منصفة بحقها فيجب أن تفكّر بالتصويب والاصلاح أكثر من الانفصال والتخلي. على كل علاقة أن تأخذ وقتها وتستمرّ إلى رمقها الأخير، قد يستغرق الأمر شهوراً وسنوات ربما، لكن حين نصل إلى النهاية حيث مرحلة التخلي التام يصبح قرار الانفصال سهلاً، ولا يتبعه ندم أو أسف على تسرع، ويصبح النضال والصمود من أجل النجاة أمرٌ لا هوان فيه. استغرق الأمر لدي ما يقارب تسع سنوات؛ كان هذا حال صبري وطاقتي على العطاء إلى أن انتهيت. تسع سنوات دفعتها كي أنقذ ما تبقى من العمر وأسعف ما لديّ من الأنا.

عقب هذا القرار؛ تعيش كل منّا مرحلة معقدة نفسياً ذهنياً، تدخل في استجواب دائم لكينونتها، أمومتها، أنوثتها، ذاتها، مشاعرها، وعيها. تحاكم نفسها كثيراً بالشفقة على نفسها أحياناً وبالجلد أحياناً أخرى.

والتعافي من تبعات هذا القرار هي رحلة طويلة، تكتشف فيها أن الذكريات ندوب لا تختفي ولا تكف عن العمل، تواصل نخزك باستمرار، وإن لم تأكل ألمك تباعاً سيأكلك هو. لذا عليك أن تصبح ميكافيلياً باستغلال ألمك لفعل ما تحب، فاستغلال الألم قد يسعف الكثير من روحك.

أوروبا بأنظمتها التي تدّعى مناصرة المرأة لا تختلف كثيراً عن أنظمتنا السائدة في بلادنا والتي تحكمها السلطة الأبوية والذكورية اللعينة. الفرق الوحيد يتجلّى في ثقافة المجتمع الذي لا يعنيه بالمطلق من تكون وما هي حالتك الاجتماعية، على نقيض مجتمعاتنا التي تشكل فيها حوادث الناس الشخصية مادة حديث دسمة للجميع، بل وتنطلق بعدها الأحكام عليك من هذه المنطلقات.

في هذه المواقف غالباً ما ينفضّ الجميع من حولك، تدرك من معك ومن عليك، من يحبك ومن يحابيك، من يساندك ومن يشفق عليك، من يعزّيك ومن يلومك، من يحترمك ومن ينتهز الفرصة، لتكتشف أن عالمك الذي تعرف لا يشبه هذا العالم الوحشي خلف شباك سكينتك.

بعيداً عن التفاصيل الخاصة وبالرغم من قسوة التجربة وهذا القرار الكبير القوي، تظل تجربة الزواج تجربة حياة كاملة مليئة بالدروس. الزواج مدرسة حياة حقيقية نختبر فيها وعينا، مهاراتنا الاجتماعية، صبرنا، عواطفنا، نسقنا الاجتماعي، نغوص فيها بعمق أكبر لإشكاليات المجتمع التي قد تبدو بعيدة، لكنها في واقع الأمر هي صلب هذه المؤسسة المسماة بالزواج.

فالهجرة، الاجراءات البيروقراطية، قوانين لم الشمل، الاغتراب، القوانين الأوروبية، الذكورية الشرقية، أساليب التربية الحديثة، مسألة الدين، المعتقدات والتقاليد، العادات الرجعية، الانفتاح والتحرّر وغيرها، كلها إشكاليات تنخر في جدران كل منزل وكل مؤسسة زواج، بل وكل علاقة. ومع هذا الايقاع السريع للحياة، يزداد تراكم التبعات وتكاثفها على كاهل أشخاص بات الصبر بالنسبة لهم في صراع طويل مع الوقت الذي يأكل طاقتهم على التحمّل، العفو، التفهم والمجاراة.

كوني قوية بما يكفي لتختاري قدراً ينصف وجودك في هذه الحياة؛ كي تختار الحياة أقداراً منصفة لأطفالك، الحياة تخاف القوي

حين تنجح المرأة في تجاوز تجربة زواج كاملة لم تنصفها، تصبح أكثر نضجاً وانتقائية، تصبح أكثر تفهّماً لما يعنيه أن تكون شريكاً داعماً وشخصاً حرّاً بذاتك، لما يعنيه هذا العش وكيف يكبر، كيف نستر عيوبه معاً وكيف نرمّم ما تآكل منه سوياً، كيف يكبر الاثنان وتُخلق العائلة، كيف تبدو الأبوة والأمومة والذات بينهما.

كل فتاة تخوض تجربة الزواج؛ سواء نجحت في الاستمرار بها أو النجاة منها، تؤثر في تجربتها تجربة والديها والتي تظهر بأشكال مختلفة؛ تارة كمحفّز وداعم وتارة كمهدّد ومصدر خوف وعُقَد هدّامة، لذا على الآباء أن يعزّزوا المعنى الأسمى للزواج والحياة التشاركية ودورهما في تمتين الذات، ويصبحوا قدوة حقيقية في هذا الأمر. من المؤسف أن الكثير من النساء يخضن صراع النجاة هذا ليس مع الشريك وحسب، بل مع الأهل إذا ما اختاروا الوقوف في جبهة مضادة غير عادلة.

الأطفال هم الجانب الأكثر حساسية في هذه التجارب. على النساء أن يدركن أن امرأة لا تكفي ذاتها لن تكفي أطفالها. امرأة لا تقوى على حماية كيانها وحدود شخصها وحقوقها لن تقوى على حفظ حق أولادها أو تعزيز ذواتهم، والتنازل والخضوع أمران ندفع ضريبتهما لاحقاً، ويدفعها الأبناء تباعاً دون وعي منّا.

الأمهات قدوة أبنائهن، وما يقال شعبياً حول أقدار البنات التي تشبه أقدار أمهاتهن، تبدو حقيقة مبطنة. كوني قوية بما يكفي لتختاري قدراً ينصف وجودك في هذه الحياة؛ كي تختار الحياة أقداراً منصفة لأطفالك، الحياة تخاف القوي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image