في مصر تُدهِشكم كثير من التفاصيل، فتارة تنجذبون لتفاصيل حضارة مضى عليها 7 آلاف عام، وتارة تتوهون بين زحام المفردات الحديثة، وبين حين وحين تُدهَشون بمفردة جديدة أو بجملة تتعجبون من معناها. فهنا قاموس خاص اخترعه المصريون للمصريين وحدهم، وراحوا يرددونه على مدار سنوات وعقود دون أن يعرفوا -في كثير من الأحيان- معنى ما يرددونه.
كل حاجة وعكسها
في الحياة اليومية للمصريين يُفتح القاموس على مصرعيه ليخرج منه فيض من أغرب الجمل التي يصعب على غير المصريين أن يفهموها؛ كما الحال مثلاً مع الجمل التي تحمل المعنى وعكسه، مثل "قمت قاعد" والتي تجمع بين فكرة الوقوف والجلوس في آن ما، و"قاعدين نمشى"، والتي تجمع كذلك بين الجلوس والمشي في نفس اللحظة. يذكر أن هذه الصيغة توجد في بعض اللهجات العربية الأخرى أيضاً، كالعراقية.
"هناك الكثير من الكلمات التي نرددها في مصر، ولا يعرف الكثيرون معناها، لأنها مشتقة من مرادفات غير عربية، لكنها بمرور الوقت امتزجت مع المفردات المصرية، وصارت جزءاً لا يتجزء منها. لذلك سنجد الكثيرين يرددونها دون أن يعرفوا معناها"
كذلك "جاي على ملا وشي"، وهى جملة تعني أن صاحبها قد جاء مسرعاً، و"آخد بعضي وامشي"، والمقصود باختصار منها أن صاحبها قرر أن يغادر المكان، و"هخطف رجلي بسرعة أجيب حاجة وأجي"، وهى جملة تعني أن صاحبها سيحرص على أن يكون سريعاً في إنجاز المهمة التي أوكلت إليه، ولا يعرف أحد لماذا يلجأ صاحب تلك الجملة إلى فكرة الخطف! هل إن قلنا لأقدامنا "تعالي نروح مشوار" بالتراضي، ستقول لا؟
"لسانك ما يجيش على لساني"
هناك أيضاً الجمل التي تُستخدم فيها أعضاء الجسد لاختصار معنى طويل، مثل "خَد عين"، بالطبع حين يسمعها غير المصريين يسألون: "خد عين إزاي يعنى؟ وخدها من مين؟ وهيعمل بيها إيه؟". لكن إذا كنتم مصريين فستعرفون أنها تعني أن أحدهم تعرض للحسد، وكذلك جملة "لسانك ما يجيش على لساني"، والتي تتردد غالباً بعد أي خلاف، حيث تعني أنني لا أرغب في أن تتحدث إلي مطلقاً.
دباديب وفئران وحيوانات أخرى
للحيوانات أيضاً نصيب من تراكيب المصريين الغريبة، حيث يعبر كثيرون عن قلقهم البالغ بجملة "الفار بيلعب في عبي"، بينما يعبر الشباب عن وقوعهم في الحب بجملة "ميت في دباديبها"، وقد لا نفهم طبعاً أنه سيلقى حتفه في مجموعة الدباديب التي تقتنيها محبوبته، فهو يعبر فقط عن عشقه وولعه بها، ولا نعرف لماذا اختار "الدبدوب" (الدبّ) تحديداً دون الأرانب والقطط مثلاً؟
ومن الحيوانات التى يلجأ المصريون لـ"حشرها" في أي جملة، نجد أيضاً الديك، حيث يلجأ الكثيرون، خصوصاً في القرى والنجوع لاستخدامه في جمل مثل "ديك الساعة" أو "ديك النهار" وهي تعني باختصار "ذات مرة" أو "في أحد الأيام".
"بت أما تبتك" و"لا لما تلؤك"
إلى جانب الجمل الماضية، يُتحفنا المصريون بمجموعة من التراكيب التي لا نعرف على وجه الدقة متى ابتُكرت، ولا من ابتكرها، ولا حتى معناها؛ فإذا ناديتم على فتاة مثلاً وقلتم لها: "يا بت"، ستجدونها ترد: "بت أما تبتك"، ولا نعرف ماذا تعني "تبتك"، تماماً كما نقول لأحد "لا"، فيرد علينا "لا لما تلؤك"، أما معنى "تلؤك"، فهو في الأرجح يشير إلى عدم الاستقرار والاهتزاز. كما أن الفعل يُستخدم أيضاً للسخرية من شخص يعتبر نفسه أكبر من حجمه أو يظن في نفسه ما يفوق حقيقة قدراته.
ولا نعرف أيضاً في مصر معنى "يخرب بيت مطنك؟"، والتي تقال عن الشاب "الفلهوي"، تعبيراً عن الإعجاب بشقاوته وفهلوته. كما أننا لا نعرف لماذا يقال عن الشاب الذي تخلى عن شعره بالكامل "قرعة زلبطة"، ولماذا تقول الأم لأولادها "انزلوا غيروا جو شوية بدل ما أنتم قاعدين فى أرابيزي". أنا شخصياً سأكون سعيداً إذا اكتشف أحد معنى "الأرابيز".
بالأرقام
فى مصر أيضاً ستجدون من يتحدث عن "فلان الفلاني" واصفاً إياه بإنه "ابن 60 في 70 "، تعبيراً عن مساوئه وشروره، ومهما حاولتم أن تعرفوا سرّ استخدام الرقمين "60" و"70" تحديداً، ليه مش 40 في 50 أو 80 في 90 فلن تعرفوا.
"بقت بزرميط"
في الظروف العادية، حين نريد أن نعبر عن الاستياء من وضع ما، سنقول إني مستاء/ة، ولكن في مصر ستجدهم يقولون "بقت بزرميط"، وإن أردنا أن نعبر عن ضيق مساحة المكان سنقول "إنه مكان ضيق"، لكن في مصر سنقول "زوخنيق".
في الأيام العادية أيضاً سنقول "سأخلد للراحة قليلاً"، لكن في مصر يقولون "مستكنيص"، وإن أردتم أن تصفوا جُبن أحدهم باستخدام قاموس المصريين فيمكنكم قول "سبع البرمبة". أما إذا أردتم وصف شخص بأنه متكبر ومدّع، فسوف فقولوا -وفق قاموس المصريين-: "متعنطظ"، بينما يقولون عن الشخص الذي ينام لفترات طويلة إنه "خم نوم"، وحين يجدون أن كل الأمور تمضي من حولهم بشكل لا يرضيهم، يقولون إن الوضع "بقى سبهللة".
المعنى في بطن المصريين
حملنا تلك الكلمات إلى الباحث في التراث الشعبي محمود الخضري، فقال لرصيف22: "إن هناك كثير من الكلمات التي نرددها في مصر، ولا يعرف الكثيرون معناها، لأنها مشتقة من مرادفات غير عربية، لكنها بمرور الوقت امتزجت مع المفردات المصرية وصارت جزءاً لا يتجزء منها. لذلك سنجد الكثيرين يرددونها دون أن يعرفوا معناها".
لا نعرف أيضاً في مصر معنى "يخرب بيت مطنك؟" والتي تقال عن الشاب "الفلهوي" تعبيراً عن الإعجاب بشقاوته وفهلوته.
واستشهد الخضري بعدد من الجمل والكلمات ومنها: "يا الدلعدي" التي تقال في الحارات والأماكن الشعبية، وتُستخدم في الغالب خلال الخلافات والمشاجرات، حيث أوضح الخضري أن أصلها "يا ألد العدى"، والمعنى الأصلي: "يا ألد الأعداء".
كذلك تحدث عن معنى وأصل كلمة "هجرسك"، والتي تستخدم أيضاً في المشاجرات، مضيفاً أن فعل "التجريس" قديم، حيث كان القاضي يأمر حين يحكم على أحد الأشخاص في مخالفة ما أن يتم تجريسه، وكان يتم وضعه على حمار يطوف به الشارع ليعرف العامة ما ارتكبه من جرم.
يكمل الخضري ويؤكد أنه في المشاجرات الشعبية أيضاً تُستخدم كلمة "شوبش"، ويؤكد أنها تعود إلى عصر الفراعنة، مضيفاً أنه كان وقتها يتم وضع تماثيل صغيرة تسمى "الشوباشي"، مع المتوفى في القبر، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تردد الدعاء له، لكنها بمرور الوقت وفي العصر الحديث اتخذت منحى آخر، بينما كلمة "مرمطة" التي تعني الشقاء والتعب، فأصلها فرعوني واشتقت من كلمة "مارماتا"، وكانت تستخدم وقتها للتعبير عن الألم.
أما الباحث في التراث الشعبي رضا نجيب، فقال لنا إن المصريين تعودوا استخدام كثير من الجمل والأمثال الشعبية دون أن يعرفوا أصلها، رغم أن وراءها كثيراً من القصص والحكايات، مثل كلمة "كوسة" التي تستخدم للتعبير عن المحاباة، وأن أحداً قد حصل على فرصة لا يستحقها. والقصة الأصلية تعود إلى عصر المماليك، حيث كانت أبواب المدن تغلق ليلاً ولا يُسمح بدخول أي شخص حتى الصباح، حتى أن التجار كانوا يبيتون أمام الأبواب حتى تفتح في الصباح، باستثناء تجار الكوسة التي كانت تتلف سريعاً، فكان يتم السماح لهم بالدخول ليلاً، حتى حدث شجار يوماً بين التجار، وهتف أحدهم "ما هي كوسة"، وبدأت من بعدها تستخدم كدليل على المحاباة ومنح الفرصة لمن لا يستحق.
وواصل: "كذلك المثل القائل 'اللي اختشوا ماتوا'، ويستخدم بين المصريين للتعبير عن أن أصحاب الحياء قد ماتوا، والأصل يرجع إلى حادث وقع في أحد الحمامات الشعبية القديمة، حيث شب حريق كبير ورفضت النساء الموجودات في الحمام الخروج دون ملابسهن، وكان مصيرهن الموت، بينما نجت النساء الأخريات اللاتي هربن إلى الشارع".
"تعوّد المصريون استخدام كثير من الجمل والأمثال الشعبية دون أن يعرفوا أصلها، برغم أن وراءها كثيراً من القصص والحكايات، مثل كلمة "كوسة" التي تستخدم للتعبير عن المحاباة"… صرح الباحث رضا نجيب
وأكمل نجيب لنا: "حين يتحدث أحد بجهل في موضوع ما نجد من ينتقده بقول 'اللي ما يعرفش يقول عدس'. والقصة تعود إلى تاجر عدس كان يثق في زوجته، وفي أحد الأيام تركها في المحل وذهب لشراء بضاعته، وحين عاد وجدها مع شاب، وحين حاول التاجر الإمساك به، تعثر الشاب في 'شوال' من العدس، فتبعثر بكل ما فيه، واعتقد الناس أن الشاب يسرق ليأكل، فراحوا يهاجمون التاجر ويتهمونه بأن قلبه لا يعرف الرحمة، وقالوا له: 'كل هذا من أجل شوال عدس؟ أما في قلبك رحمة؟ ألا تسامحه يا أخي ؟'، فإذا به يرد 'اللي ما يعرفش يقول عدس!'.
ووفق ما قال نجيب إن البعض يطلقون أيضاً على الشخص الذي تاب عن فعل شيء، ثم عاد له مرة أخرى "رجعت ريمة لعادتها القديمة"، وأصل الجملة -كما هو سائد- يعود إلى زوجة حاتم الطائي (حليمة) التي كانت مشهورة بالبخل، برغم أن زوجها ضُرب به المثل في الكرم، وقيل إنها كانت شحيحة في استخدام السمن خلال الطبخ، وذات يوم شاهدها حاتم، فقال لها إن الأقدمين كانوا يقولون إن المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يوماً. وهنا راحت تزيد في السمن يوماً بعد الآخر، حتى مات ابنها وحزنت عليه، وتمنت أن تلحق به، فباتت تقلل من السمن، وهنا عاد المحيطون بها ليقولوا "عادت حليمة لعادتها القديمة"، لكن بمرور الوقت تحرف الاسم من "حليمة" إلى "ريمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت