شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بالموسيقا صنعتُ وقتاً لي وحدي... كمنجة ضائعة في حرب أهلية

بالموسيقا صنعتُ وقتاً لي وحدي... كمنجة ضائعة في حرب أهلية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والتنوّع

الأحد 18 يونيو 202301:47 م

لا أريد سوى أن أقبض على لحظة واحدة تكون لي وحدي. أشاهد حياتي تتسرّب من بين يدي ولا أقوى على فعل شيء. أحمل آلتي الموسيقية وأخرج إلى الدرس ثلاثة أيام في الأسبوع.

لم أختر الموسيقا، بل هي التي اختارتني

 أردت أن أهرب من واقعي إلى أي شيء، وكان المهرب الوحيد المتاح هو الموسيقا. أم لثلاثة أطفال تحمل أكياس الخضار صباحاً وكمنجتها مساء، همّ المعيشة في الصباح وفرحها الطفولي في المساء.

في البداية، كنت أصطحب طفلي معي إلى الدروس، ليبدو كما لو أنني أحمل عنه الآلة الثقيلة على كتفيه النحيلتين. في الواقع كنت أغطّي به خجلاً داخلياً من المجتمع، وكأنما أرتكب إثماً بتعلّمي الموسيقا، وإن لم أعترف بهذا الخجل جهاراً.

ففي المكان الذي أعيش فيه، أن تكوني أمّاً يعني أن تنحصر مهمتك في تربية الأطفال، والعناية بمنزلك، وتقديم واجبات الطاعة الزوجية، وإن كنتِ أماً عاملة فلا بأس، من الواجب أيضاً مساعدة الزوج في مصاريف العائلة.

استطعت إجهاض هذا الخجل بعد الشهر الأول، اليوم أذهب وحدي. تهمس الجارة في أذن جارتها: خطيّ جارتنا"، وتصمت. أبتسم لهما من تحت الشرفة ولا أرفع يدي بالتحية.

هذا الوقت لي، أسقي النباتات على شرفتي وأعتني بهرّنا القزم، لكنهم ليسوا لي وحدي، يشاركني جميع من في المنزل حب النباتات وحب القط والعناية بهما، حتى شرودي يشاركونني إيّاه أحياناً، إلّا الموسيقا هي لي وحدي، آلتي ملكي أنا وحدي، لا تغفو إلّا على كتفي، ولا يداعب أوتارها غيري، أعطيها كل الحب الذي في داخلي فتعطيني سحراً وسفراً من هذا المكان المقيت.

تهزّ أمي التي أكلت الحرب أبناءها وعمرها وابتسامتها رأسها، وتقول لي: "بعد الكَبرة جبّة حمرة؟"، فأنظر إليها في شرود وأصمت. كيف لي أن أقنعها وهي التي تخلّت عن كل شيء في الحياة، أنني مثلها تماماً، عدا أنني أريد امتلاك لحظاتٍ قليلةٍ لي وحدي.

تفرّ مني الألحان مهما حاولت الاحتفاظ بها، أنا التي درّبت ذاكرتي طيلة الأعوام السابقة على النسيان، ودرّبت نفسي على عدم التعلّق لا بالأشياء ولا بالأشخاص، فما منحتنا إياه سنوات الحرب من فقد تلوَ فقد وجرحٍ تلوَ جرح علّمنا ألّا نحب حدّ التعلّق

كنت صغيرة جداً عندما سحرتني الآلات الموسيقية

كنت في الثانية عشرة من عمري عندما شاهدت عازفاً على التلفاز يحنو بطريقةٍ لافتة على الكمان، وكان عمّي يجلس قربي يدندن على آلة العود بتناغم مع عازف الكمان، فقلت وقد أخذ مني السحر ما أخذ: "أريد أن أعزف مثله".

توقف عمي عن العزف وقال: "مثلي أنا؟"، فأجبته بحماس: "لا، لا، مثله هو"، وأنا أشير بأصابعي النحيلة جهة التلفاز.

فربّت عمي على كتفي وقال: "هذا عبده داغر، احفظي اسمه".

في اليوم التالي أهداني عمي كماناً واصطحبني إلى أستاذ موسيقا لأتعلم العزف الذي لم أتلق فيه إلا دروساً قليلة بسبب وفاة أستاذي، ما شكّل لدي حزناً منعني من البحث عن أستاذ آخر في ذلك الحين.

كبرت ودخلت كلية التربية، ثم تخرّجت منها لأصبح معلمة صف للمرحلة الإبتدائية، وفي أول حصة موسيقا كتبت لتلاميذي على السبورة وكأنني أخرج كل الحب الكامن داخلي: "الكمان آلة وترية تضم أربعة أوتار، صوته من أعذب وأحن الأصوات وأجملها، اتخذ شكله الحالي في القرن السادس عشر وبقي عليه إلى الآن، وتتم صناعته من تسع وسبعين قطعة منفصلة عن بعض".

أكملتُ كمن تقدّم سيرة ذاتيةً لمحبوبها: "كان لمدينة البندقية دور كبير في ولادة الكمان حيث كانت تحتوي على سبعة صناع للآلات، لينتشر بعدها الكمان بشكل كبير بين جميع طبقات المجتمع، من النبلاء إلى عازفي الطرقات".

ثم قلت لهم: "في الدرس القادم سأحضر لكم آلة الكمان صديقة طفولتي لتتعرّفوا إليها عن قرب".

علمتنا الحرب أن نمسح ذاكرتنا

أطرق أبواب الأربعين بعد قليل، وألاقي صعوبة في حفظ النوتات الموسيقية. يقول أستاذي إن أدائي ممتاز، لكنني لست راضية عن نفسي، فأنا لا أستطيع الاحتفاظ بلحن الأغنية أكثر من يوم واحد، على الرغم من أنني أحاول دائماً أن أجمع بين نوتاتي وأعمالي المنزلية. أدندن اللحن وأنا أغسل الأطباق، وأدندنه في محال البقالة، كما أنني أكتبه أحياناً على دفاتر ابني وأنا أساعده في واجباته المدرسية، لكن بلا جدوى... تفرّ مني الألحان مهما حاولت الاحتفاظ بها، ولا لوم إلا عليّ، أنا التي درّبت ذاكرتي طيلة الأعوام السابقة على النسيان، ودرّبت نفسي على عدم التعلّق لا بالأشياء ولا بالأشخاص، فما منحتنا إياه سنوات الحرب من فقد تلوَ فقد وجرحٍ تلوَ جرح علّمنا ألّا نحب حدّ التعلّق، وأن نمسح ذاكرتنا كلما امتلأت كي نستطيع العيش بأقل الأضرار النفسية الممكنة.

أسأله: "كيف لي أن أعيد لذاكرتي عملها الذي أجبرتُها على تركه قسراً؟"، يقول أستاذي: "احفظي شعراً". كنت قبل الحرب أحفظ من الشعر أكثر مما أحفظ من أسماء أقاربي، أما اليوم فأنا أنسى نصف الحاجيات التي أنزل لشرائها من أجل وجبة الغداء.

ننام من تعبنا على ألمنا، نهدهده فوق وسائد محشوة بالدموع والحسرات لكي ينام، فلا ينام ولا ننام

ما منحتنا إياه سنوات الحرب الطويلة من مشاهد قتل وتهجير، من أيام خوف وبكاء مريرة، توتر، قلق، قلة نوم، واكتئاب عنيد، كل تلك الأشياء ساهمت في تدمير قوانا العقلية وتركيزنا، وبعد انتهاء الحرب حاولنا جميعاً البحث عما تبقى خيوط فرح لنمسح بها ذاكرتنا المشوهة.

ننام من تعبنا على ألمنا، نهدهده فوق وسائد محشوة بالدموع والحسرات لكي ينام، فلا ينام ولا ننام.

قطعت علاقتي بجميع الأشياء من حولي

حياتي في سوريا كحياة أي فرد من الطبقة التي طحنتها الحرب مادياً ومعنوياً، لا علاقات اجتماعية ولا نوادٍ ولا مقاهٍ ولا رحلات، وإنما عمل وعمل وعمل وركض وراء رغيف خبز فقط.

همنا الوحيد ألا يجوع أبناؤنا، ولا همّ لنا إن لم نشتر ثياباً جديدة طالما أن ما نرتديه مازال صالحاً، نغض بصرنا بحرفيةٍ عن واجهات المحلات، وباحترافٍ نسينا معظم الرفاهيات التي كانت متاحة قبل الحرب، وباحترافٍ أيضا صرنا ننام دون أحلام، حلمنا الوحيد ألّا ينام أطفالنا على بطون خاوية.

رجالنا يعملون بكدّ عملين أو ثلاثة خلال النهار ليحفظوا لعائلاتهم حياةً من المضحك أن نقول عنها كريمة، ولا يجرؤون على القول إنهم يريدون لحظة واحدة تكون لهم وحدهم.

ونساؤنا يعملن ما استطعن لرفد دخل العائلة، فهذي تعطي دروساً لأطفال المرحلة الابتدائية في منزلها، وهذي تعمل في التسويق الإلكتروني من هاتفها المحمول، وتلك تبيع حزنها لمواقع عربية على هيئة مقالات، وأخرى تفعل الثلاثة معاً علّها تجني ما يسد الرمق.

ثم في المساء، يخرج البعض منهن لممارسة رياضة المشي المجانية على الأوتوستراد الواسع في المدينة. أراقبهن، أنا المتكئة على شرفة منزلي وأتساءل: هل تحاول النساء في مدينتي الحفاظ على رشاقتهن أم يحاولن القبض على لحظات خاصة بهن كما أفعل أنا مع الموسيقا؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard