هل آخر العنقود هو الأكثر حظاً في العائلة؟ لا سيما في العائلات العربية التي لا يتوقف عدد الأبناء والبنات فيها على الرقم اثنين؟ إذا كنتم ممن حملوا هذا اللقب فستعرفون أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن الـ"سكر المعقود".
تعودنا في ثقافتنا أن يكون الأصغر في العائلة هو صاحب الحصة الأكبر من الحب والغنج والدلال، وأن يتساهل الأهل في شروط التربية القاسية التي كانت تفرض على الأكبر سناً من إخوته، إلى الحد الذي صار هذا الانحياز غير العادل مشروعاً وبمنأى عن النقاش.
كل هذا التفخيم، والكثير من الـ"معلش" التي منحتها التربية العربية لصالح آخر العنقود، جعلت من كل أصغر فرد في الأسرة الفرد المحسود والـ"يا نياله".
لم أختر عملي ودراستي
لم تكن ريهام ضيف الله الشابة الثلاثينية سعيدة وهي تحاول أن تثبت بكل ما أوتيت من قوة بأن كونها الأصغر في أسرتها جعلها تلعن حظها في الترتيب العائلي، حتى صارت تتحسس جداً من مناداتها بآخر العنقود، لما ترتب على هذا الوصف من تبعات أثرت على حياتها العملية، والعاطفية، ومؤخراً النفسية، بحسب حديثها لرصيف22.تقول: "لطالما كنت أتباهى خلال فترة طفولتي بأنني دلوعة الأسرة، وكل ما أتمناه حتى لو في مخيلتي كنت أحصل عليه، لأن ما يحق لي لا يحق لأحد غيري من إخوتي وأخواتي، لكن كما يقال عن السيجارة أن أولها دلع وآخرها ولع، ينطبق نفس الشيء على الأسرة في آلية تعاملهم مع آخر عنقودهم".
يتحول الدلع مع مرور الوقت إلى ولع في السيطرة والتسلط والتحكم بهذا الصغير الذي لا يكبر، الكفيل بأن يؤثر سلباً على كافة القرارات الحياتية التي يتخذها الفرد الأصغر في الأسرة بعد نضجه، هذا إن تجرأ أن يتخذ قراراً وحده، كما تقول ريهام.
أن تمنح امتيازاً في التعامل مع آخر العنقود أو حتى "دلعاً"، كما تضيف ريهام لا يعطي أحداً الحق بأن يتحكم بقرارات حياتك حتى لو كانوا أهلك، تضيف: "بدأت ألمس أنني محرومة من حقي في الاخيتار، منذ أن كنت في الصف العاشر، وهي المرحلة الدراسية التي نقرر فيها التخصص الذي نريد أن ندرسه في الثانوية العامة، فلم أتمكن من تحقيق رغبتي بالالتحاق بالفرع الأدبي لأني أسرتي أجبرتني على اختيار الفرع العلمي بالحجة المعهودة: إحنا بنعرف مصلحتك أكثر منك". تقول ريهام إن كونها آخر العنقود حوّل حياتها الناضجة إلى سلسلة من الخيارات المصادرة بما فيها خيارات الدراسة والعمل بحجة أنها "لا تعرف مصطلحتها" وتزيد: "لو أنني انتفضت للدفاع عن حقي أمام أهلي في اختيار التخصص الذي أريده وأنا في الثانوية، ربما كان المشوار سيكون أسهل علي مما أنا عليه الآن وأنا في منتصف الثلاثينيات". لم أتزوج من التي أحببتها"ما حدا رح يفهم علينا غير اللي زينا" يقول مروان غنيم (31 عاماً)، بنبرة كلها استسلام، وهو يحاول أن يشرح ماذا تعني عبارة "لعنة آخر العنقود"، كونه من ضحاياها، لأنه يرجح أن من سيقرؤون هذا التقرير سوف يفترضون أن جماعة آخر العنقود يرفضون النعمة في استمرارية للدلع الذي تربوا عليه. لم يتزوج مروان من الفتاة التي أحبها لأن أهله عارضوا هذا الزواج كون الفتاة من اختياره هو وليست من اختيارهم ولدى سؤال مروان عن سبب منع أهله له بأن يتزوج الفتاة التي أحبها، أجاب: "نفس السبب في كل قرار كنت أرغب باتخاذه، (نحن نخاف عليك)، إذ اعتقدت أسرتي أن الفتاة التي أحبتني لا تصلح بأن تكون زوجة لي، لأنني أنا الذي اخترتها وليس هم، فبحسب معتقداتهم أنا لا أحسن الاختيار في أي شيء". "اسأليني ما هي أكثر جملة أكرهها؟" سألني مروان في ختام حديثنا معه، وأجاب عن سؤاله بنفسه: "خايفين عليك" وعزا كرهه لها إلى أن هذه العبارة كانت وما تزال الغطاء الذي تحتمي به أسرته وهي تبرر سيطرتها على جميع قراراته، وختم: "أعدك أنني سوف سيأتي يوم وقريب جداً وأن أزيل هذا الغطاء الذي دمر حياتي". يتدخلون في زواجياعتقدت تغريد (28 عاماً) وهو اسم مستعار أنها ستتخلص من لعنة آخر العنقود بزواجها، لكنها لم تزل "تتلقى الضربات" على حد تعبيرها حتى بعد مرور عامين على خروجها من منزل الأسرة. تقول لرصيف22: "ما ضاعف صعوبة أن أعيش حقي كفتاة في اختياراتي ليس أنني آخر العنقود فقط بل أيضاً لأنني من عائلة محافظة، وهو ما قيدني طوال فترة وجودي عند أهلي، وعندما تعرفت على زوجي قلت: جاء الفرج". تزوجت تغريد لتتخلص من سلطوية أهلها كونها آخر العنقود، لكنهم صاروا يمررون نفس الأفكار لزوجها من خلال عبارات "إنت ما بتعرفها قدنا" و"لا ترد عليها" و"لا تعطيها عين" فصار يسمع جملاً من نوع "إنت ما بتعرفها قدنا"، "لا تعطيها عين"، "لا ترد عليها" وغيرها من سموم التدخل في قراراتها كما وصفتها، مستشهدة بمثال أنهم عندما علموا أن زوجها سوف يحقق أمنيتها بدراسة الماجستير، حاولوا ممارسة سلطتهم عليهم بمنعها من ذلك بحجة: "خليها تخلف ولد أول"، و"إحنا أدرى بمصلحتها". يستمر طوال العمرفي حديثه مع رصيف22 يقول الخبير الأسري والتربوي د. عايش النوايسة: "لا شك أن عموم الأسر العربية تتعامل بطريقة واحدة مع آخر العنقود على أنه الطفل المدلل، وهذا التفضيل في الفكر الاجتماعي مرتبط بموروث لدى البنية الاجتماعية التي تعطي تفضيلاً نوعياً للأكبر وللأصغر في أغلب الأحوال مع التركيز على آخر العنقود الذي ينظر إليه دوماً على أنه صغير غير قادر لا على خدمة نفسه ولا على اتخاذ القرارات الحياتية المتعلقة بمصلحته". خبير أسري: "هناك تفضيلات إيجابية كالتي تقع على عاتق الطفل الأكبر، يقابلها تفضيلات سلبية كالتي تقع على كاهل الفرد الأصغر في الأسرة" لذا تميل الأسر كما يضيف النوايسة إلى القيام بأغلب الأعمال الخاصة بآخر العنقود بدلاً من تحميله المسؤولية، وهذا التفضيل السلبي يمتد أثره مدى الحياة وينعكس على طريقة حياته مع أسرته وأبنائه حتى في عمر متقدم، فمردود التربية السلبية التي تعرض لها في حياته وأهمها ضعف الثقة في النفس وعدم الاندماج في المحيط الاجتماعي تنعكس على سلوكه في المحيط الاجتماعي ومحيط والعمل وغيرها من مناحي الحياة. ويختم النوايسة بقوله إن الأصل في التربية أن تكون متوازنة بين الجميع دون تفضيلات ودون اللجوء إلى التربية الاعتمادية وبشكل خاص مع آخر العنقود، وأن تعطي للجميع فرصاً متساوية وتزرع بهم الثقة بشكل متوازن". |
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...