شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"موكب العار" في إسطنبول... ماذا جرى لآل سعود بعد سقوط الدرعية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الجمعة 16 يونيو 202302:44 م

في كانون الأول/ديسمبر من عام 1802 حضر إلى القاهرة جماعة من علماء مكة وأشرافها هاربين من تسلّط السعوديين عليهم في بلاد الحجاز. بعد أن اشتكى أهل مكة إلى خُسرو باشا والي مصر، استكملوا نفس المسير إلى إسطنبول لتقديم نفس الشكوى في حضرة الخليفة العثماني. بعدها بشهرٍ واحد، كرّرت جماعة أخرى من العلماء والأشراف نفس الرحلة لنفس الغرض.

لم يُستجَب لرجاء كبار الجزيرة من قِبَل حكام القاهرة أو إسطنبول، ولم يُحرّكوا ساكناً ضد السعوديين الذين أخذوا في الانتشار ببلاد الحجاز حتى استفحل أمرهم وأظهروا قوتهم، وفي عام 1806 اعترضوا قافلتي الحج الواردتين من مصر والشام، واشترطوا على راكبيها عدم اصطحاب الزمر والطبل معهم، وعدم أداء طقوس الحج الاحتفالية التي عُرفت بـ"المحمل".

في العام التالي، تجاهَل أمير الحج المصري أوامر السعوديين فهاجموه وأحرقوا المحمل. بعدها سمحوا للمصريين بأداء مناسك الحج. وبعد هذه السنة انقطعت قوافل الحج المصرية والشامية عن القدوم إلى الحجاز، وهو ما اعتُبر تحدياً هائلاً لسُلطة الدولة العثمانية على بقاع المسلمين المقدّسة.

حينما توقّفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة إلى مكة كساها السعوديون برداء من الغز الأحمر، ثم كسوها بالديباج والقبلان الأسود. هنا أصبح التدخل العسكري في البلد الحرام محتوماً لوأد الدولة السعودية المتمردة على الطاعة التركية

ازدادت الأمور سوءاً عام 1810 حين حاول عبد الله بن سعود التمدد شمالاً نحو الشام، فاقتحم برجاله حورانَ، فخرج إليه يوسف باشا والي دمشق، وبصحبته سليمان باشا والي عكا. حينما رأى ابن سعود حجم الجيوش الشامية التي تستعدُّ لحربه أيقن أن لا طاقة له بها، فانسحب عائداً إلى أدراجه، حسبما ذكر ياسين سويد في كتابه "المقاطعات اللبنانية في إطار بلاد الشام: التاريخ السياسي والعسكري".

تزامَن مع هذه الخطوات إقدامُ السعوديين على طرد القاضيَين العثمانيين من مكة والمدينة عام 1813، وتعيين قاضيَين حجازيين بدلاً منهما، كما أمر ابن سعود بإبطال الدعاء للخليفة العثماني في خطبة الجمعة.

حينما توقّفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة إلى مكة كساها السعوديون برداء من الغز الأحمر، ثم كسوها بالديباج والقبلان الأسود. هنا أصبح التدخل العسكري في البلد الحرام محتوماً لوأد الدولة السعودية المتمردة على الطاعة التركية.

الاستعانة بالمارد الجديد في مصر

في 1807 نجح الشعب المصري في فرض كلمته على الخليفة العثماني، وأجبره على تعيين محمد علي حاكماً على مصر، بدلاً من خورشيد باشا. في نفس العام أرسل السُلطان العثماني إلى محمد علي يستحثّه على إنفاذ حملة على بلاد الحجاز لبسط السيطرة العثمانية عليها.

تأجلت هذه الحملة عدة مرات بسبب عدم حماس محمد علي باشا لها. اعتذارٌ حفظته لنا دار الوثائق القومية في مصر عن طريق البرقيات المتبادلة بين محمد علي والسلطان العثماني.

هذه البرقيات ترجمها حسين حسني إبراهيم، وعُرضت في كتاب "رحلة عبر الجزيرة العربية" من تأليف فورستر سادلير. أولى هذه البرقيات حملت تاريخ شباط/فبراير 1808م، واعتذر فيها محمد علي للسُلطان عن "تصفية الحرمين"، متحججاً بمشاكله الداخلية المتمثلة في ضعف الفيضان وقلة محصول الصعيد، ليطلب تأجيل التحرك إلى العام التالي.

وفي برقية أخرى أرسلها بعد شهرين كرّر الحديث عن انشغاله بحرب المماليك في الصعيد، وعدم قدرته على شنِّ حملة على "هذا العدو القوي الذي استولى على إقليم الحجاز من 20 سنة، وزاد تمكناً واستقراراً سنة فسنة"، وفي برقية لاحقة طالب بـ"أربعين ألف كيسة نقدية" يُنفق بها على إعداد الجيش اللازم للحرب.

المصريون في الحجاز

بعد سنواتٍ من المراوغة أرسل المصريون حملتهم على الحجاز، وفي أيلول/سبتمبر 1816، تولّى إبراهيم باشا بن محمد علي قيادة القوات المصرية عقب وفاة أخيه طوسون.

بعد 18 شهراً مريرة وصل إبراهيم باشا بجنوده إلى الدرعية، حيث فرض عليها حصاراً لمدة 3 أشهر، استسلمت بعدها عاصمة السعوديين في 6 أيلول/سبتمبر 1818.

فور سقوط الدرعية أرسل داوود باشا إلى السلطان العثماني رسالةً لا تزال محفوظة في الأرشيف التركي حتى اليوم، جاء فيها: "هلك أخيراً المخاذيل المذكورين في مسلخ القهر والدمار وبئس المصير، ثم أسر المخذول المذكور عبد الله بن سعود مع أبنائه الأربعة وأولاد عبد الوهاب، وبُعثوا إلى مصر القاهرة، وتم بذلك فتح الدرعية والاستيلاء عليها، وانهدمت قصور الخيبة الموفورة التي كانوا يتحصنون فيها".

عقب سقوط المدينة، ومن داخل قصره استمرّ الأمير عبد الله بن سعود في المقاومة 3 أيامٍ إضافية، حتى اضطر إلى التسليم النهائي في 9 أيلول/سبتمبر 1818.

ما أن علم محمد علي بالخبر حتى أمر المَدافع بإطلاق نارها تعبيراً عن الفرحة، وبحسب الجبرتي "انتشر المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقشيش".

يحكي الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار": "نُوديَ بزينة المدينة سبعة أيام، ونُصبت السرادقات خارج باب النصر، ومن بينها سرادقات محمد علي باشا وباقي الأمراء لمشاهدة الحفلات، وهي مناورة حربية تتخللها حركات فروسية قام بها الخيالة والمشاه".

ويضيف: "كان قوام الحفل مناورات بَحرية تقوم بها السفن والمراكب تمثّل فيها المعارك البحرية؛ فالدرعية هي عاصمة الوهابيين، وبفتحها تُوّجت حرب شاقة دامت سبع سنين وكُللت بالنصر".

إبراهيم في الدرعية

عقب انتصاره الساحق على أعدائه السعوديين، بقي إبراهيم باشا 9 أشهر في الدرعية يضبط أمورها وفقاً للأوضاع الجديدة. أمر إبراهيم باشا بتدمير قلعة الدرعية -مقر إقامة آل سعود- واقتلاع نخيلها، ثم غادر في نهاية تموز/يوليو إلى القصيم، ومنها تحرك إلى المدينة في نهاية آب/أغسطس من العام نفسه.

يقول المستشرق ألويس موسيل (Alois Musil) في كتابه "آل سعود: دراسة في تاريخ الدولة السعودية" إن الحامية العثمانية ساندت محمد بن مشاري، وهو من أسرة آل معمر، التي سبق لآل سعود الإطاحة بحُكمها. أقدم ابن مشاري على التحالف مع القوة العثمانية برغم علاقة القرابة التي جمعت بينه وبين عبدالعزيز بن سعود (ادّعى موسيل أن ابن مشاري تزوّج من ابنة عبدالعزيز آل سعود خلافاً لما أكدته مصادر أخرى بأن عبدالعزيز هو خاله).

أراد إبراهيم باشا التخلُّص نهائياً من أعدائه، فقرّر إرسال عبد الله بن سعود إلى مصر أسيراً، بصحبة عددٍ من أقاربه وأتباعه.

لاحقاً خلّد المؤرخ السعودي محمد بن عمر الفاخري هذه الأحداث شِعراً، فقال: "عامٌ به الناس جالوا حسبما جالوا/ونال منّا الأعادي فيه ما نالوا/ قال الأخلاءُ أرّخه فقلت لهم/أرّختُ، قالوا بماذا؟ قلت غربالُ".

ويُلاحَظ هنا أن الفاخري اختار كلمة غربال لمقصدين؛ الأول معناها اللغوي المشتق من غربلة الدقيقة إشارة إلى اكتساح المصريين/الأتراك/لعثمانيين الدرعية، والمقصد الثاني هو أن مجموع حروف هذه الكلمة وفق حساب الجمّل (الأبجدي) يساوي 1233، وهو العام الهجري الذي شهد وقوع الأحداث.

آل سعود في مصر

استقبل محمد علي الأسرى في قصره بشبرا، وبحسب ما ذكره يوسف الهاجري في كتابه "البقيع"، فإن محمد علي تسلّم من الأمير السعودي بعض نفائس الحجرة النبوية التي سبق واستولى عليها والده خلال غزوة للوهابيين على المدينة المنورة.

أبدى محمد علي عطفاً على أسرى آل سعود حتى أنه سأل السُلطان العثماني العفوَ عنهم، فرفض، فاضطر محمد علي إلى إرسال الثلاثة الكبار منهم إلى إسطنبول، وهم عبد الله بن سعود، واثنان من أخلص أتباعه: الإمام عبد الله خازن الدار، وعبد العزيز بن سلمان، الكاتب الأول.

اكتفى محمد علي بإرسال الثلاثي السعودي إلى تركيا، فيما أبقى في قبضته باقي وفد الأسرى الوافدين من الحجاز، من ضمنهم الإمام عبد الرحمن، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي نُقل من الدرعية إلى القاهرة، وبقي فيها أسيراً طيلة 8 سنوات.

اكتفى محمد علي بإرسال الثلاثي السعودي إلى تركيا، فيما أبقى في قبضته باقي وفد الأسرى الوافد من الحجاز، من ضمنهم الإمام عبد الرحمن، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي نُقل من الدرعية إلى القاهرة، وبقي فيها أسيراً طيلة 8 سنوات، سُمح له فيها بدراسة الفقه على أيدي مشايخها حتى عاد مُجدداً إلى بلاد الحجاز بعدما نجح تركي بن عبد الله بن سعود في استرداد نفوذ أجداده، فعيّن الإمام عبدالرحمن كبيراً لشيوخ نجد.

وبحسب بحث "إبراهيم باشا في بلاد العرب" للدكتور عبد الحميد البطريق، فإن من ضمن الأسرى كان أربعة أشقاء لعبد الله بن سعود، هم: فهد، سعد، حسن، خالد. يحكي البطريق: "كانوا أسعد حظاً من أخيهم الأكبر، إذ لم يُطالب بهم السّلطان، بل كان من نصيبهم أن يُرسلهم إبراهيم باشا إلى القاهرة".

استقبل محمد علي الإخوةَ الأربعة بالترحاب، وخصّص لهم مرتبات، واعتنى بتعليمهم وتثقفيهم. ويضيف البطريق: "خالد كان أصغرهم سناً وأسعدهم حظاً، فأصبحت ثقافته مصرية صميمة، حتى قيل عنه إنه لم يكن يفترق في شيءٍ عن المصريين ذوي الثقافة الأوروبية"، ومن فرط عناية محمد علي بالأمير السعودي عيّنه كاتباً في ديوانه.

في عام 1838 قرّر محمد علي تنصيب حليفه خالد بن سعود أميراً على بلاد الحجاز، بدلاً من فيصل بن تركي الذي ناصَب القاهرة العداءَ، وحاول استكمال جهود أبيه لإنهاء الوجود المصري في الحجاز، وقد فشل فيصل في مساعيه فأُسر، ونُقل إلى مصر أسيراً.

بقي فيصل بن تركي معتقلاً في مصر هو وبعض أقاربه (أخوه جلوي، وابنه عبد الله، وابن عمه عبد الله بن إبراهيم)، حتى نجح في الفرار من سجنه، وعاد إلى بلاد الحجاز، مواصلاً مساعيه لإعادة بناء الدولة السعودية المستقلة، حتى توفي عام 1865.

موكب العار السعودي

عقب وصوله إلى إسطنبول، خضع وفد الأسرى السعودي إلى تحقيق صارم، كشفت صحف تركية بعض محتوياته مؤخراً، ارتكز بالأساس حول واقعة اقتحام الوهابيين الغرفةَ النبوية، والاستيلاء على الكنوز الموضوعة بها.

يقول الروائي الفرنسي جيلبرت سينويه (Gilbert Sinoué) في كتابه "الفرعون الأخير" إن السُلطان العثماني كان "غير مرن"، ثم يفصّل الحالة في إسطنبول لحظة دخول الأسرى عليهم قائلاً: "هاج الشعب المتأثر بخطب أئمة المساجد يُطالب بإنزال العقوبة عليه، فعُرض ابن سعود في شوارع إسطنبول لثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع فُصل رأسه عن جسده".

وفي كتابه "ذات يوم: يوميات ألف عام وأكثر" استعرض سعيد الشحات التقريرَ الخاص الذي كتبته السفارة الروسية بشأن الواقعة، والذي جاء فيه: "أمر السّلطان في هذا اليوم بعقد المجلس في القصر، وأحضروا الأسرى الثلاثة مقيدين بالسلاسل الثقيلة، ومحاطين بجمهورٍ من المتفرجين".

إبراهيم باشا أبدى استياءه من التنكيل المفزع بالسعوديين الثلاثة في إسطنبول، لذا طلب من أبيه عدم تسلم أيّ أمير يقع بحوزتهم إلى السّلطان مجدداً. ووافق محمد علي لرغبته في ألا يتكرّر حدوث "موكب العار" السعودي في شوارع إسطنبول مرة أخرى

ويتبع التقرير: "قُطعت رقبة الزعيم عبد الله أمام البوابة الرئيسة للقديسة صوفيا، وقُطعت رقبة الوزير أمام المدخل، وقُطعت رقبة الثالث في أحد الأسواق الرئيسة في العاصمة، وعُرضت جثتهم ورؤوسها تحت الإبط، وبعد ثلاثة أيام ألقوا بها في البحر".

فيما يقول الجبرتي: "لما وصل عبد الله بن سعود إلى إسطنبول، طافوا به البلدة، وقتلوه عند باب هُمايون (مقرّ الحكومة العثمانية)، وقتلوا أتباعه في نواحٍ متفرقة".

إبراهيم في القاهرة

لم يتيسّر لإبراهيم باشا البقاءُ أكثر من ذلك في الحجاز، إذ كان والده يعدُّ العدّة لحملة عسكرية أخرى على السودان، وفي الـ10 من كانون الأول/ديسمبر 1819 دخل إبراهيم باشا القاهرة في موكبٍ منيف من باب النصر، اخترق العاصمة المصرية والجماهير مصطفة على الجانبين لتحيّته حتى وصل إلى قصره في جزيرة الروضة.

يقول الجبرتي: "استمرت الزينة والوقود والسهر بالليل، وعمل الحراقات وضرب المدافع في كل وقتٍ من القلعة، والمغاني والملاعيب في مجامع الناس، سبعة أيام بلياليها".

وبحسب أحمد بن صالح الدهش في رسالته "موقف الأهالي في نجد والحجاز من الحملات العثمانية على الدولة السعودية"، فإن إبراهيم باشا أبدى استياءه من التنكيل المفزع بالسعوديين الثلاثة في إسطنبول، لذا طلب من أبيه عدم تسلم أيّ أمير يقع بحوزتهم إلى السّلطان مجدداً، ووافق محمد علي لرغبته في ألا يتكرّر حدوث "موكب العار" السعودي في شوارع إسطنبول مرة أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image