شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
فدائي وليس مجاهداً

فدائي وليس مجاهداً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لم يعد دارجاً بين الناس، ولا ينطقه مذيعو الأخبار، ولا يدخل في صياغة أيّ خبرٍ عاجل يظهر على الشاشات، حتى إنه اختفى تماماً من خطابات القادة والمسؤولين، وبات يذكر فقط في النشيد الوطني الفلسطيني كمصطلح عابر، ولكنه لم يكن يوماً عابراً، فلطالما حضر بشكل لافت وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل المقاوم في الأراضي المحتلة، وكان من البديهي أن يُحكى "من هنا عبر الفدائيون" أو "نفّذ الفدائي عملية"، ولكن، مع التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على الحالة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، وظهور تنظيمات جديدة ذات توجّه إسلامي، لم يعد يُنطق مصطلح "فدائي" في أيّ مناسبة وطنية، وحلّ مكانه مصطلح "مجاهد" حلولاً كاملاً.

لم يعد دارجاً بين الناس، ولا ينطقه مذيعو الأخبار، ولا يدخل في صياغة أيّ خبرٍ عاجل يظهر على الشاشات، حتى إنه اختفى تماماً من خطابات القادة والمسؤولين.

وعند تأمّل هذا التغيير غير العادي بدلالاته التي قد تكون خطيرة جداً، تفتح أبواب أسئلة كثيرة ربما تساهم الإجابة عليها في فهم تأخّر المقاومة الفلسطينية، وانتقالها من الكفاح المسلّح الذي يهدف إلى تحرير كلّ فلسطين -من الميّ إلى الميّ- إلى ما يمكن أن نطلق عليه اليوم "الكفاح المائي" أو "الكفاح المالي" الذي تحصد من خلاله التنظيمات مكاسب سياسية هزيلة، تنحرف من خلالها عن أساس العمل المسلّح وهو "الاستمرارية" دون توقّف وحتى تحرير كامل فلسطين.

الفصل بين مرحلتين

لطالما أطلق لقب "فدائي" على المقاومين الفلسطينيين، وغير الفلسطينيين، الذين دافعوا عن الأراضي المحتلة، وقد حمل هذا اللقب في طياته وصفاً أسطورياً للمحارب الخارق الذي يضحّي بنفسه فداءً لفكرة فلسطين وحلم تحريرها، وقد ارتبط الفدائي في خيال النّاس، لعقودٍ طويلة، بالشّخص الخالي من العيوب والأخطاء، الذي يقدّم كل ما يملكه دون تردّد. كما ساهم النهج القومي العربي في تعزيز هذا المصطلح وانتشاره على مدى واسع، لاسيما في جمهورية مصر العربية التي تمتلك باعاً طويلاً في محاربة الاحتلال الصهيوني.

مع التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على الحالة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، وظهور تنظيمات جديدة ذات توجّه إسلامي، لم يعد يُنطق مصطلح "فدائي" في أيّ مناسبة وطنية، وحلّ مكانه مصطلح "مجاهد" حلولاً كاملاً

ولكن، مع بروز التنظيمات الإسلامية في فلسطين في أواخر القرن الماضي، لجأ القائمون عليها إلى حيلة لغوية تمثّلت بوصف مقاوميها بـ "المجاهدين"، وعلى الرغم من عدم وجود مشكلة ظاهرية في هذا التصنيف، الذي قد يعتبره البعض طبيعياً وعادياً وليس له أي دلالات، ولكن في الواقع الأمر مختلف، فقد حاولت هذه التنظيمات من خلال هذا التوصيف، أن تفصل بين مرحلتين زمنيتين، مرحلة تصدّر فيها "الفدائي" المشهد في ساحة المقاومة، ومرحلة بات فيها الفعل المقاوم مرتبطاً فقط بـ "الجهاد". وقد نالت ما أرادت من هذا الفصل الذي ترافق مع تقزيم للأعمال البطولية التي سبقت انطلاق الفعل المقاوم لهذه التنظيمات، وتضخيم كل الأعمال البطولية التي ظهرت بعد ذلك عن طريقها، حتى إنها تعمّدت طمس العديد من الرموز الفلسطينية الفدائية، التي لم تعد تذكر، لا على منبرٍ إعلامي، ولا في ساحة اعتصام، ولا على منصّة مهرجانٍ جماهيري حاشد، لتنجح بذلك في طمس مصطلح "فدائي" ربما إلى الأبد.

تداعيات دينية

إن الانتقال من مصطلح "فدائي" إلى مصطلح "مجاهد" لم يكن مجرّد تبديل مصطلحات، وعلى الرغم من التداعيات التي أظهرت رغبة التنظيمات الإسلامية في اقتصار العمل المقاوم عليها من خلال هذا الانتقال، إلا أن هناك تداعيات أخرى مهمة تجلّت كممارسات على أرض الواقع من أجل تثبيت هذه القاعدة الجديدة، ويمكن تلخيص هذه الممارسات في أمرين مهمّين ويستحقان الوقوف عندهما طويلاً، وهما:

الأول، يتمثّل في عدم احترام هذه التنظيمات للنشيد الوطني الفلسطيني المعروف باسم "فدائي"، ويُستَدلّ على ذلك من خلال عدم وقوف أبناء هذه التنظيمات عندما يردّد النشيد، سواء في المناسبات الوطنية أو في الطوابير الصباحية في المدارس، حتى وصل الأمر في الكثير من الأحيان إلى استبدال هذا النشيد بأناشيد أخرى إسلامية، تدعو إلى الجهاد بعيداً عن فكرة "الفداء" التي حملها الفلسطيني لعقود طويلة على ظهره، وعرف كمؤمن بها منذ خليقة البلاد.

الثاني، عدم احترام العلم الفلسطيني، وهنا يجب التعريج على نقطة مهمة، وهي أن هذا الأمر لم يقتصر فقط على التنظيمات الإسلامية، بل شمل أيضاً أغلب التنظيمات الوطنية والقومية الأخرى، فقد باتت أعلام التنظيمات التي تحمل أغلبها شعارات ودلالات دينية، ظاهرةً في المناسبات الوطنية والمهرجانات والتأبينات، أكثر من ظهور علم فلسطين.

ومع النظرة الدينية السائدة في الوقت الحالي، باتت ألوان أعلام التنظيمات والفصائل التي تحمل دلالات دينية، تلقى رواجاً أكثر من الألوان الأربعة لعلم فلسطين، وهذا يُرجعنا إلى النقطة الأولى، وهي نقطة استبدال الفداء بالجهاد، والتي أدرك الكثيرون خطورتها، لاسيما مع إقرار الكنيست الإسرائيلي لقانون يحظر رفع العلم الفلسطيني.

تداعيات دولية

إن تصدّر الخطاب الإسلامي للمشهد عند الحديث عن "المقاومة في فلسطين"، ساهم، بشكل أو بآخر، في جمع تأييد واسع من قبل الدول الإسلامية والمسلمين من مختلف أنحاء العالم، فقد تحوّلت القضية الفلسطينية في نظر الأغلبية من قضية أرض مسلوبة إلى قضية دينية بحتة، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار التأثير السلبي لهذا الخطاب محلياً ودولياً، أما محلياً فقد شكّل غطاءً للتنظيمات الإسلامية حتى تفعل ما تريد دون عقابٍ أو حساب، أما عالمياً فقد حوّلت الفلسطينيين إلى "إرهابين".

فالفدائي الذي كان يحمل بندقيته مدافعاً عن فكرة "الفداء" التي يؤمن بها وتلقى تأييداً من قبل الكثير من أحرار العالم، بات مجاهداً يظهر على شاشة التلفاز متوعّداً العدو باسم الدين والوعد الحق

فالفدائي الذي كان يحمل بندقيته مدافعاً عن فكرة "الفداء" التي يؤمن بها وتلقى تأييداً من قبل الكثير من أحرار العالم، بات مجاهداً يظهر على شاشة التلفاز متوعّداً العدو باسم الدين والوعد الحق، ما شكّل تصوراً جديداً حول القضية الفلسطينية، وجعلها متشابهة مع الكثير من القضايا الأخرى التي برزت في العالم العربي خلال السنوات الماضية، فما تفعله التنظيمات ذات المنهجية الدينية هناك، تفعله هنا، ما يختلف هو المكان فقط.

وجهة نظر أخرى

إن المتأمّل في السياسية التي اتبعتها التنظيمات الإسلامية في فلسطين، يجدها مختلفة اختلافاً واضحاً في الرؤية والأدوات عن السياسة التي اتبعتها التنظيمات الوطنية الأخرى سابقاً، وقد أدى هذا بالضرورة إلى التأثير على نظرة المجتمع الدولي للقضية الفلسطينية وتعامله معها، لاسيما في ظل ظهور العديد من التيارات الإسلامية المتطرّفة في المنطقة العربية خلال ثورات الربيع العربي وبعدها، ما جعل المجتمع الدولي يربط التنظيمات ذات الخلفية الإسلامية بالإرهاب.

أما على المستوى المحلي، فقد أدّى الخطاب الإسلامي الذي اتبعته التنظيمات الإسلامية، إلى اختفاء العديد من الظواهر التي رافقت انطلاق الثورة الفلسطينية واستمرت حتى أواخر القرن الماضي، ولعل أبرزها: مشاركة النساء في الكفاح المسلّح بشكل فعّال، وبروز العديد منهم، مثل دلال المغربي وليلى خالد، وهذا ما لم يعد موجود اليوم إلا في حالاتٍ نادرة.

سياسات خاطئة

بالنظر إلى سياسات منظمة التحرير الفلسطينية على المستوى الاجتماعي والسياسي، نجد أنها غير معفية من مسؤوليتها تجاه انتشار فكرة "المجاهد" على حساب فكرة "الفدائي"، فقد خلقت سياساتها بيئة خصبة لتكريس هذه الفكرة وانتشارها على مستوى واسع داخل المجتمع الفلسطيني، نرى ذلك جلياً في عدم نشرها للفكر الوطني بشكل كافٍ، سواء عبر المناهج التعليمية التي شهدت مؤخراً حذف مادة التربية الوطنية، أو عبر الممارسات اليومية المتمثلة في الخطابات واللقاءات التنظيمية، فقد اقتصر دورها على أمور إدارية دون وجود دور مجتمعي حقيقي على أرض الواقع.

الانتقال من مصطلح "فدائي" إلى مصطلح "مجاهد" حمل في طياته سلوكيات متعدّدة، كانت عنصراً حاسماً في تغيير التركيبة الاجتماعية والفكرية داخل المجتمع الفلسطيني، ولعل أبرز هذه التغييرات تمثل في اقتصار الكفاح المسلّح على "المسلم" دون غيره

يضاف إلى ذلك، اختزال السلطة الفلسطينية لمنظمة التحرير إلى حزب واحد، واستبعادها للعديد من التنظيمات الفلسطينية الفاعلة على الساحة وذات القاعدة الجماهيرية الكبيرة، ما أدى إلى فصل شريحة واسعة من المجتمع عن الحالة الوطنية، ليس ذلك فقط، بل وأعطى دافعاً كبيراً للانتقال من الفكر الفدائي للفكر الجهادي، يتماشى ذلك مع عدم اعتراف الكثيرين بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الوقت الحالي.

أكبر من مجرد مصطلح

لم يكن الانتقال من مصطلح "فدائي" إلى مصطلح "مجاهد" مجرّد انتقال عابر من مسمى إلى آخر، بل حمل في طياته سلوكيات تنظيمية واجتماعية متعدّدة، كانت عنصراً رئيسياً وحاسماً في تغيير التركيبة الاجتماعية والفكرية داخل المجتمع الفلسطيني، ولعل أبرز هذه التغييرات تمثل في اقتصار الكفاح المسلّح على "المسلم" دون غيره من أصحاب الديانات الأخرى، وتشكيل غطاء اجتماعي وديني لبعض التنظيمات والمنتمين إليها، ما تسبب في حمايتها من الانتقادات تارةً، ومنحها القدرة على فعل ما تريد دون رقيب تارةً أخرى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard