شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ست رصاصات كادت تودي بحياة ضابط استخبارات بريطاني شهير بدمشق سنة 1949

ست رصاصات كادت تودي بحياة ضابط استخبارات بريطاني شهير بدمشق سنة 1949

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأحد 11 يونيو 202302:52 م

في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1949 دق ثلاثة رجال على باب منزل الكولونيل البريطاني المتقاعد والتر ستيرلينغ، مراسل جريدة التايمز بدمشق، وطلبوا مقابلته، مدعين إن لديهم معلوماتٍ سريةً عن الانتخابات النيابية المقبلة في سوريا منتصف ذلك الشهر. كان ستيرلينغ يحضر لتناول العشاء مع صديقه الطبيب الأرمني أرنست ألتونيان، فاستأذنه لمقابلة "الضيوف،" أملاً في أن يسمع منهم ما يفيد في كتابة مقاله الأسبوعي. وعند انفرادهم به في مكتبه أطلقوا عليه ست رصاصات، أصابته في البطن والصدر والذراع.

هرب الشبان بسرعة البرق، ودخل الطبيب الأرمني لإنقاذ حياته. في مذكراته المنشورة سنة 1953، يروي ستيرلينغ هذه الحادثة، ويقول: "افترضت أني متّ أو أني على وشك الموت، ولكني لم أشعر بالموت".

بدأت السلطات السورية التحقيق في الحادث، وقالت إن تنظيماً سرياً وقف خلفه، عُرف لاحقاً باسم "كتائب الفداء العربي". ترأس التنظيم رجل مصري يُدعى حسين توفيق، كان لاجئاً في سوريا وملاحقاً في مصر لتورطه في اغتيال وزير المالية المصري أمين عثمان سنة 1946. وكان معه في التنظيم الدكتور جورج حبش، قائد خلية الفداء العربي ببيروت، وجهاد ضاحي، رئيس فرعهم بدمشق.

كان له دور محوري في تنفيذ سياسات بريطانية في سوريا أثناء الحرب العالمية الأولى، بصفته أبرز ضباط الاستخبارات البريطانية في المنطقة، ويعتقد أن المحرض الرئيسي على قصف دمشق من قبل الفرنسيين  

تبيّن في التحقيقات أنهم وقفوا خلف عدة عمليات سابقة ولاحقة، منها محاولة اغتيال العقيد أديب الشيشكلي، والهجوم على مقر UNRWA، وتفجير البعثات البريطانية والأمريكية بدمشق في نيسان/أبريل–أيار/مايو سنة 1950. البعض ربط محاولة اغتيال الكولونيل البريطاني بمفتي القدس الأسبق الحاج أمين الحسيني، المقيم يومها في مصر، ووُجّهت أصابع الاتهام أيضاً إلى أكراد شيوعيين.

محاضر التحقيق أن محاولة اغتيال والتر ستيرلينغ موجودة حتى اليوم، ليس بدمشق، بل في الأرشيف الوطني البريطاني في لندن، وهي تحمل الرقم 371/82786/FY1015/57، بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1950. وفيها يقول المحقق العسكري السوري إن كتائب الفداء العربي أرادت التخلص منه لأنه "جاسوس بريطاني". فمن هو والتر ستيرلينغ الذي غاب ذكره عن كل الأدبيات عن تاريخ سوريا الحديث، باستثناء كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" للكولونيل لورانس (لورانس العرب). وفي كتابه الشهير "الصراع على سوريا" المنشور سنة 1965 يأتي الصحافي البريطاني باتريك سيل على ذكره بشكل عابر وسريع.

حياة هوليوودية

ولد الكولونيل والتر ستيرلينغ في إنكلترا في 1 كانون الثاني/يناير 1880، وكان أبوه ضابطاً في البحرية البريطانية، اختفى مع سفينته بظروف غامضة في مثلث برمودا بعد أيام من ولادته. بدأ ستيرلينغ حياته العسكرية ملحقاً مع الجيش المصري سنة 1906، وشارك في معركة غاليبولي في الحرب العالمية الأولى، وعُيّن رئيساً لأركان "لورانس العرب" أثناء الثورة العربية الكبرى.

أرسله لورانس للاجتماع مع البدو، مستفيداً من ولعه بحياة الصحراء والخيول العربية، وفي 1 تشرين الأول/أكتوبر  1918 دخل معه إلى مدينة دمشق معلناً تحريرها الكامل من الجيش العثماني.

خدم لمدة وجيزة بدمشق مستشاراً للأمير فيصل، قبل تعيينه نائباً للملحق السياسي البريطاني في مصر. عُيّن بعدها حاكماً في سيناء، ثم في مدينة يافا الفلسطينية، وفي سنة 1923 سمّي مستشاراً لملك ألبانيا زوغو الأول.

 انضم ستيرلنغ إلى جهاز عمليات المخابرات البريطانية الخارجية الذي أوجده رئيس الحكومة ونستون تشرشل، وعُيّن مجدداً في ألبانيا قبل نقله إلى إسطنبول ثم القدس، فحلب، وأخيراً دمشق.

وفي سنة 1940 انضم ستيرلينغ إلى جهاز عمليات المخابرات البريطانية الخارجية الذي أوجده رئيس الحكومة ونستون تشرشل، وعُيّن مجدداً في ألبانيا قبل نقله إلى إسطنبول ثم القدس، فحلب، وأخيراً دمشق. وأُلحق ببعثة السفير البريطاني إدوارد سبيرز (The Spears Mission)، التي كانت مهمتها الرئيسية ضرب المصالح الفرنسية في الشرق الأوسط، تمهيداً لطرد الفرنسيين من سوريا ولبنان.

كان له دور محوري في تنفيذ سياسات بريطانية في سوريا أثناء الحرب العالمية الأولى، بصفته أبرز ضباط الاستخبارات البريطانية في المنطقة، ويعتقد أن المحرض الرئيسي على قصف دمشق من قبل الفرنسيين يوم 29 آذار/مارس 1945، ما أدى إلى تدخل سريع من الحكومة البريطانية لوقف العدوان والطلب من فرنسا سحب قواتها من سوريا.

الحكومة السورية لم تكن مرتاحة لنشاطه المؤيد لإقامة مشروع سوريا الكبرى تحت عرش الملك الأردني عبد الله الأول، حليف بريطانيا، وفي 8 أيلول/سبتمبر 1945 أبرق وزير الخارجية ميخائيل إليان إلى مندوب سوريا في لندن الدكتور نجيب الأرمنازي، قائلاً: "لم يعد بإمكاننا تحمّل أفعاله والدعم الدعائي الذي يقدمه للملك عبد الله".

وفي تقرير سابق بتاريخ 27 آب/أغسطس 1945، كان الأرمنازي قد كتب إلى وزير الخارجية: "الكولونيل ستيرلنغ في طريقه إلى دمشق قادماً من لندن. قال لي إن حكومته جددت له في سوريا وأن مهمته ستكون محصورة في محاربة آخر وجود فرنسي في بلادنا. أما عن الشق الثاني من المهمة، وهو الأخطر وما نخشاه ويجب علينا تداركه، هو تتويج الملك عبد الله في سوريا. تعاونها معه في الماضي لطرد الفرنسيين، وحان الوقت للمطالبة برحيله. أشعر أننا سنجد فيه عدواً لا رجعة فيه".

في الأرشيف الوطني الفرنسي في مدينة نانت عدة إشارات على أنه لعب دوراً خفياً في انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في 29 آذار/مارس 1949، ثم في انقلاب سامي الحناوي على الزعيم في 14 آب/أغسطس 1949

تشارك كل من رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس الحكومة سعد الله الجابري، في خشية السفير الأرمنازي من ستيرلينغ، وطالبوا بوضعه تحت المراقبة الدائمة. ثم جاءهم تقرير أمني عن السلبي زيارة ستيرلينغ السرية إلى منطقة الجزيرة، وعرضه مبلغ من المال، وصل إلى خمسة آلاف جنيه للشيخ الواحد، بهدف تسهيل ضم سوريا إلى الأردن، وتنصيب الملك عبد الله ملكاً على البلاد.

استدعي ستيرلينغ إلى السراي الكبير، وهدده الرئيس الجابري بالترحيل إن لم يكف عن ممارساته المعادية للدولة السورية. وفي عهد الجلاء، سمّي مراسلاً لجريدة التايمز بدمشق لتبرير بقائه في سوريا من قبل الإنكليز. عمل ستيرلينغ تحت هذا الغطاء الصحافي من سنة 1947 إلى تشرين الثاني/نوفمبر 1949، تاريخ تعرضه لمحاولة الاغتيال بدمشق.

وفي الأرشيف الوطني الفرنسي في مدينة نانت عدة إشارات على أنه لعب دوراً خفياً في انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في 29 آذار/مارس 1949، ثم في انقلاب سامي الحناوي على الزعيم في 14 آب/أغسطس 1949.

بعد نجوه من الموت غادر والتر ستيرلينغ سوريا إلى الأبد، وتوفي في المغرب عن عمر ناهز 78 عاماً يوم 22 شباط/فبراير 1958. مرّت وفاته مرور الكرام لتزامنها مع إعلان قيام الوحدة السورية المصرية، وكان قبلها قد وضع مذكرات مهمة جداً عن دوره الاستخباراتي بدمشق، بعنوان "Safety Last"، نشرت في لندن عام 1953، ولكنّها ولسبب مجهول لم تترجم إلى اللغة العربية. وفي نهاية عام 2013 عُرضت أوسمته للبيع في لندن، بمبلغ وصل إلى 22 آلف جنيه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard