في صيف عام 1999، أفرجت وزارة الخارجية الأمريكية عن ملفاتها المتعلقة بأحداث العام 1949 التي كان من ضمنها الانقلاب العسكري الذي قاده قائد الجيش السوري حسني الزعيم ضد رئيس الجمهورية شكري القوتلي.
كان ذلك بمناسبة مرور خمسين سنة على الانقلاب السوري الأول، وتبيَّن مدى تورط الزعيم مع الولايات المتحدة في الأشهر التي سبقت الانقلاب. لم تكن المعلومات كلها جديدة، فقد تحدث عنها مسبقاً مسؤول المخابرات الأميركية مايلز كوبلاند في كتابه الصادر نهاية "لعبة الأمم" وشرح فيه بكل صراحة عن دوره في هذا الانقلاب وعلاقته بالزعيم عندما كان يعمل في السفارة الأمريكية بدمشق.
يقول كوبلاند في كتابه إن التعليمات جاءت من واشنطن لإطاحة بالرئيس القوتلي: "إن لم يكن باستطاعتك تغيير الرقعة (في سوريا)، فعليك تغيير اللاعبين. أَوجِدوا بديلاً مناسباً لشكري القوتلي. وفي أحد التقارير الأمريكية المفرج عنها سنة 1999، جاء أنّ الزعيم كان يعتبر نفسه "نبليون الشرق الأوسط" وأنه "كان يتجول في منزله الصغير وينظر إلى نفسه بالمرآة ثم يلتفت إلى زوجته قائلاً: "أنا ملك في هذا البلد!".
الخلاف الأمريكي مع القوتلي
تدهورت العلاقات السورية الأميركية تدهوراً حاداً في السنوات الأخيرة منذ عهد الرئيس شكري القوتلي بسبب رفضه الاعتراف بدولة إسرائيل والمشاركة بمؤتمر رودس المنعقد في اليونان تحت رعاية الأمم المتحدة مطلع عام 1949. غابت سوريا عن تلك المباحثات في الوقت الذي وقَّعت فيه كل الدول العربية المشاركة في حرب فلسطين هدنة مع الدولة العبرية.
أدرك حسني الزعيم أن علاقة شكري القوتلي مع الولايات المتحدة تتجه إلى صدام حتمي فقرر الاستثمار بهذا الخلاف وعرض نفسه على طاقم السفارة الأمريكية بدمشق، طارحاً جهوزيته المطلقة للقيام بما "يلزم به" للإطاحة بالقوتلي وإنهاء الصراع مع واشنطن وتل أبيب
أعربت واشنطن عن استيائها من تنامي نفوذ الحزب الشيوعي السوري في دمشق، وطلبت من القوتلي تقييد حركته في الأيام الأولى من حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي، ولكن رئيس الجمهورية رفض الاستجابة، ورفض أيضاً توقيع اتفاقية "التابلاين" الشهيرة، التي تُعطي أنابيب نفط شركة "أرامكو" الأمريكية حق عبور الأراضي السورية من السعودية إلى مدينة صيدا اللبنانية.
عارض البرلمان السوري الاتفاقية لأنها لم تمنح الخزينة السورية إلا مبلغاً مقطوعاً، قيمته عشرون ألف جنيه إسترليني سنوياً مهما بلغت عائدات النفط المارّة عبر الأراضي السورية، وطالبت "أرامكو" الحكومة السورية بإعفائها من ضريبة العبور (الترانزيت) وإعطائها حق استيراد ما تشاء من بضائع ومواد أولية دون دفع أي رسوم جمركية للخزينة السورية.
وكالة الاستخبارات الأمريكية
كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية حديثة العهد يومها، ولم تقُم بأيّ نشاط خارج حدود الولايات المتحدة منذ تأسيسها في عصر الرئيس هاري ترومان عام 1947. بدعم مباشر من شركات النفط الأمريكية، اتخذت وكالة CIA قراراً تاريخياً في ذلك الربيع، وهو أن تكون باكورة أعمالها الخارجية الإطاحة بحكم الرئيس شكري القوتلي، ضماناً لمصالح النفط ومستقبل إسرائيل ومخططها التوسعي في الشرق الأوسط.
أدرك حسني الزعيم أن علاقة شكري القوتلي مع الولايات المتحدة تتجه إلى صدام حتمي فقرر الاستثمار بهذا الخلاف وعرض نفسه على طاقم السفارة الأميركية بدمشق، طارحاً جهوزيته المطلقة للقيام بما "يلزم به" للإطاحة بالقوتلي وإنهاء الصراع مع واشنطن وتل أبيب. كانت وكالة الاستخبارات قد بدأت البحث عن بدائل للقوتلي، وفكّرت بفوزي القاوقجي لكونه يرأس قوة بشرية لا يُستهان بها في جيش الإنقاذ، قادرةً على تنفيذ انقلاب عسكري، ولكنه استبعد نظراً لماضية المعادي للغرب.
الزعيم كان يعتبر نفسه "نبليون الشرق الأوسط". "كان يتجول في منزله الصغير وينظر إلى نفسه بالمرآة ثم يلتفت إلى زوجته قائلاً: "أنا ملك في هذا البلد!".
عَقد الميجور ستيفان ميد، مساعد الملحق العسكري الأمريكي في دمشق، ستة لقاءات سرية مع حسني الزعيم في الفترة ما بين تشرين الثاني/ديسمبر 1947 وآذار/مارس 1948، لم يُخفِ خلالها الزعيم عن رغبته القيام بانقلاب عسكري وتسلّم حكم البلاد وتلبية كل مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل. وعد مثلاً بضرب الحزب الشيوعي السوري وتوقيع اتفاقية التابلاين، ومعها هدنة مع إسرائيل، ثم الدخول بمفاوضات سلام مباشرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون. أبرق ستيفان ميد إلى واشنطن قائلاً أنه "وجد البديل".
الطّرح الأول كان أن يقوم الزعيم بانقلاب دون تسلم الحكم بشكل مباشر، وأن يضع شخصية مدنية ضعيفة في سدة الرئاسة، يحكُم من خلالها لفترة انتقالية ريثما يتمكن من تمتين نظامه الجديد. خلال هذه الفترة يقوم الزعيم بضرب الشيوعيين ويطلب العون المالي والعسكري من الولايات المتحدة للقيام بالمزيد، فتوافق واشنطن على الفور. قال الزعيم إنه بحاجة لفترة لا تقل عن خمس سنوات لتحقيق كلّ ما هو مطلوب منه، وطلب من الميجور ميد "خلق اضطرابات" داخل مدينة دمشق، للنيل من سمعة القوتلي قبل الإطاحة به.
البلاغ رقم واحد
في ساعةٍ متأخرة بعد منتصف ليلة 29 آذار/مارس 1949 تحركت قطعات عسكرية من ريف دمشق باتجاه العاصمة السورية. كانت التعليمات واضحة: اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء خالد العظم.
وُزّعت الدبابات على مداخل المدينة ومخارجها، وقُطعت كل الاتصالات السلكية واللاسلكية بين العاصمة والعالم الخارجي، كذلك أُغلقت جميع المعابر الحدودية مع لبنان والعراق والأردن وتركيا.
توجهت مجموعة عسكرية عبر شوارع دمشق إلى منزل رئيس الجمهورية في بستان الرئيس، وذهبت قطعة أخرى إلى قصر رئيس الوزراء في سوق ساروجا. أرسل الزعيم مجموعة ثالثة للسيطرة على إذاعة دمشق في شارع النصر، ورابعة لاعتقال شخصيات بارزة محسوبة على القوتلي، مثل مدير الشرطة والأمن العام العقيد محمود الهندي، ونائب الزبداني فيصل العسلي، والأمين العام لوزارة الدفاع أحمد اللحام، والصحافي وجيه الحفار (صاحب جريدة الإنشاء) ووزير المالية حسن جبارة، الذي أُطلق سراحه بعد ساعات بأمر من الزعيم، وعُيّن مستشاراً للشؤون المالية والاقتصادية في العهد الجديد. كذلك أمَر الزعيم باعتقال فؤاد شباط مدير إذاعة دمشق لمدة 24 ساعة، لرفضه إذاعة البلاغ العسكري رقم واحد.
بدأ حسني الزعيم حكمه بإلغاء رتبة "الزعيم" العسكرية (وهي توازي رتبة "عميد" اليوم)، مع تدريج مقولة "لا زعيم إلا الزعيم!" إعجاباً بحكام أوروبا الأرستقراطيي. صار يرتدي عدسة "مونوكل" على عينه، ويلبس كفوفاً بيضاء ويحمل عصا ماريشالية برّاقة كان قد اقتناها من إحدى أسواق باريس
أمر الزعيم بإغلاق القصر الجمهوري حتى إشعار آخر، وباعتقال أمينه العام عصام الإنكليزي وسهيل العشي، المرافق العسكري للرئيس القوتلي. من داخل مقر قيادة الشرطة في ساحة المرجة، أشرف الزعيم بنفسه على أدق تفاصيل الانقلاب، بمُساعدة رئيس الحزب العربي الاشتراكي أكرم الحوراني، الذي قام بكتابة جميع البلاغات العسكرية وبثّها عبر الإذاعة، مُتهِماً رموز عهد القوتلي بالفساد والتقصير في واجبهم الوطني تجاه فلسطين. هذا مع العلم أنّ الحوراني كان يوماً من المحسوبين على الرئيس القوتلي، ينال من عطفه ورعايته، وقد دخل البرلمان السوري قبل ست سنوات بفضل دعمه.
نَصح الحوراني الزعيم بإعدام القوتلي "بطلقة واحدة في الرأس"، ولكن الأخير رفض، خوفاً من ردّ فعل الشارع السوري وقادة الدول العربية المقربين من الرئيس، وتحديداً العاهل السعودي الملك عبد العزيز آل سعود، الصديق الشخصي لشكري القوتلي.
بدأ حسني الزعيم حكمه بإلغاء رتبة "الزعيم" العسكرية (وهي توازي رتبة "عميد" اليوم)، مع تدريج مقولة "لا زعيم إلا الزعيم!" إعجاباً بحكام أوروبا الأرستقراطيين، صار يرتدي عدسة "مونوكل" على عينه، ويلبس كفوفاً بيضاء ويحمل عصا ماريشالية برّاقة كان قد اقتناها من إحدى أسواق باريس. نصحهُ الميجور ميد، الذي لم يُفارقه ليلة الانقلاب، بالتواصل مع الرئيس الأميركي هاري ترومان، فأسرع الزعيم بتكبير صورة شخصية لنفسه، وأرسلها إلى البيت الأبيض.
عندما تسلّم ترومان "الهدية" القادمة من صُعق من منظر حاكم سوريا الجديد وهندامه، وكان قد سمع به قبل أن يراه، قائلاً: "إنه يُشبه موسوليني". مع ذلك، كانت الولايات المتحدة أولى الدول المعترفة بحُكم حسني الزعيم في يوم 26 نيسان/ابريل 1949، بعد أقل من شهر على نجاح الانقلاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...