للعمارة المغولية في الهند مكان مميز لا يزال بارزاً حتى اليوم، ربما بسبب القصص المثيرة التي خلفت تاريخاً ثرياً وراء كل مكان، أو بسبب روعة العمارة التي مزجت بين العمارة الإسلامية والفارسية والهندية، ما جعلها فريدةً من نوعها.
ضريح الإمبراطور هُمايون
كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً في دلهي، عندما بدأت أبواق أصوات السيارات والحافلات وعربات "الريكشا" العالية تهدأ.
كنت أقف أمام ضريح الإمبراطور المغولي الثاني للسلالة المغولية همايون، والذي ما زال يفتنني منذ المرة الأولى التي زرته فيها، وكان سبباً في أن أقرأ سير المغول لأعرف كيف كان يعيش المسلمون المغول وكيف كانت حياتهم.
كما يجسد "تاج محل" قصة الحب الشهيرة بين "شاه جهان" و"ممتاز محل"، يجسد ضريح همايون قصة الحب التي جمعت بين "هُمايون" وزوجته "حاجي بيجوم"، وهي في الحقيقة قصة مثيرة للاهتمام مليئة بالأحداث
لم أبالِ بثمن التذكرة التي تقرّبني من تاج محل، لأن المكان في الحقيقة له هيئة مهيبة: القباب، الأعمدة، الطرقات، الرخام، الحدائق والمسطحات المائية لترطيب الأجواء والأمكنة والجدران. هو أقرب إلى قصر ضخم، لكنه في الحقيقة ضريح فقط!
ضريح الإمبراطور المغولي ظهير الدين محمد همايون
لفت نظري عند الدخول اسم البوابة: "بو حليمة". لا يوجد الكثير من المعلومات حول هوية صاحبتها، إذ كثرت الأقوال؛ هناك من يقول إنها كانت ممرضة الإمبراطور، ومنهم من يقول إنها كانت سيدةً نبيلةً، ولكن نظراً إلى قربها من القبر، يمكن أن نفترض أنها كانت تشغل منصباً مهماً في قصر همايون.
سرتُ على طول الطريق وصولاً إلى البوابة الغربية التي بمجرد الاقتراب منها، يمكن رؤية قبة مقبرة همايون، كما لو كانت جزءاً من البوابة. وبمجرد العبور منها يكشف القبر عن نفسه بالكامل، كأنه يستقبل الزائرين.
اتجهت مباشرةً نحو القبر مروراً بحديقة المقبرة المنشأة على الطراز الفارسي، والمقسمة إلى أربعة أجزاء تجري فيها المجاري المائية لتعمل كمبردات طبيعية، وهي مستوحاة من وصف أنهار الجنة الأربع: "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لذَّة لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ"، (سورة محمد، 15).
أكملت سيري في اتجاه المنصة البالغ ارتفاعها سبعة أمتار، وتعلوها قبة فارسية مزدوجة يقف في منتصفها الضريح. صعدت الدرج الذي يؤدي إلى باب الضريح، فالضريح مكون من طابقين مشيدين من الحجر الرملي الأحمر، لأجد قبر الإمبراطور قابعاً في منتصف الحجرة، مصنوعاً من الرخام الأبيض، وعرفت من أحد المرشدين السياحيين أنه ليس القبر الأول الذي دُفن فيه الإمبراطور، فهذا القبر تم بناؤه بعد 14 عاماً من وفاته، بأمر من زوجته الإمبراطورة الأولى "بيغا بيجوم" (والمعروفة أيضاً باسم "حاجي بيجوم" بعد تأديتها فريضة الحج في مكة)، حيث دُفن أول مرة في قصره في القلعة القديمة في دلهي، ثم نُقل رفاته إلى سرهند في البنجاب خوفاً من نبش قبره، حتى قررت زوجته بناء هذه المقبرة في عهد ابنه الإمبراطور "أكبر"، لتكون أول مثال على العمارة المغولية في الهند، وأول مقبرة حدائقية في شبة القارة الهندية، مهدت الطريق لاحقاً لبناء العديد من المقابر على نسقها في الهند، وعلى رأسها تاج محل.
كما تجسد "تاج محل" قصة الحب الشهيرة بين "شاه جهان" (في الفارسية: ملِك العالَم) و"ممتاز محل"، يجسد ضريح هُمايون قصة الحب التي جمعت بين "همايون" وزوجتة "حاجي بيجوم"، وهي في الحقيقة قصة مثيرة للاهتمام مليئة بالأحداث. فمنذ اعتلاء همايون العرش بعد وفاة والده الإمبراطور الأول للسلالة المغولية "بابور"، لم تستقر إمبراطوريته بسبب المتاعب والتمردات التي واجهته من جهات عدة، تارةً من إخوته (فقد خلف والده أربعة إخوة أكبرهم كامران، وهمايون هو الثاني بين إخوته، وكان والده قد أوصى بأن يخلفه من بعده) وتارةً أخرى كانت تأتي التمردات من السلطان الأفغاني "بَهادُر شاه" الذي كان معادياً له، والملك الأفغاني "شير شاه سوري"، الذي كان يريد انتزاع سيطرته على عرش المغول، وغيرهم.
حتى أن وفاة همايون كانت مأساويةً لا تليق بإمبراطور، لا بسبب الموت نفسه، ولكن بسبب الطريقة التي مات بها، فقد سقط من على درج سلم في قصره.
ولم يتم الإعلان عن وفاته للجمهور لمدة سبعة عشر يوماً لأن ابنه "أكبر" وريث العرش، كان حينها في البنجاب، فطلب من رجل يُدعى "مُلّا بيكاس" يشبه والده أن ينظر إلى الجمهور من "الجاروخا" (الشرفة)، لكيلا تحدث فوضى حتى يصل هو إلى دلهي.
هناك اعتقاد عند المغول بأن الدفن بالقرب من مسجد يضمن مروراً سلساً إلى حياة ما بعد الموت. لذا تم اختيار هذا المكان لقربه من ضريح الوالي الصوفي حضرة "نظام الدين دارغا"، ولذلك كان يُعتقد أن المنطقة كلها مباركة.
ولا عجب أننا سنجد كل حاكم مغولي مشهور مدفوناً بالقرب من "دارغا" (ضريح).
مقبرة سلالة المغول
يوصف قبر همايون بأنه مقبرة لسلالة المغول، إذ تم استخدامه لاحقاً لدفن مختلف أفراد الأسرة الحاكمة، ويحتوي على نحو 150 قبراً، من ضمنها قبر مثمن الأضلاع مثل معظم المقابر المغوليه لشخص يُدعى عيسى خان نيازي، أحد النبلاء الأفغان المؤثرين، والأكثر ثقةً في بلاط شير شاه سوري. وهو من القلائل الذين شيّدوا قبرهم في حياتهم، بعد أن قام شير شاه سوري بتوسيع مجمع الضريح، وذلك بعدما أطاح بهُمايون عام 1540.
ودُفن عيسى خان في مقبرته بعد أن لقي حتفه في معركة مع شير شاه سوري.
هناك اعتقاد عند المغول بأن الدفن بالقرب من مسجد يضمن مروراً سلساً إلى حياة ما بعد الموت. لذا تم اختيار هذا المكان لقربه من ضريح الوالي الصوفي "نظام الدين دارغا"، ولذلك كان يُعتقد أن المنطقة كلها مباركة
على حافة المجمع، مقابل القبر، يوجد مسجد يُعرف باسم مسجد عيسى خان، وقد تم بناؤه مع القبر. والمسجد قديم قدم القبر.
ومن الطرائف في مجمع المقبرة وجود قبرٍ خلف همايون، في الزاوية الجنوبية الشرقية. يقال إنه قبر الحلاق المفضل للإمبراطور. لقد كان حلاقاً محظوظاً حقاً!
رأيت أيضاً مبنى اسمه "عَرَب سَراي"، ويقال إن هذا المبنى كان مخصصاً لإيواء 300 حرفي فارسي كانت قد أحضرتهم الإمبراطورة عند عودتها من الحج للمشاركة في بناء مجمع الضريح.
قبر همايون مكان يجب أن يوضع على قائمة الأماكن التي تستحق الزيارة للسائحين في دلهي، لأنكم/ن سوف تجدون/ن فيه ضالتكم، سواءً كنتم/ن من هواة التاريخ أو من عشاق الهندسة المعمارية. وحتى لو لم تندرجوا/ن في هاتين الفئتين، فمن المؤكد أن الحدائق الخضراء الفاتنة، والمجمع بأكمله سوف يذهلان عقولكم/ن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...