مصائب قوم عند قوم فوائد. وللحروب أثرياء ومتربّحون، كما لها ضحايا وقتلى.
الخرطوم ليست استثناءً من تلك القاعدة. فالبعض لم يكتفِ بالخراب، بل أتبعه بالسرقة والنهب، لتظهر أسواق وتجمعات تباع فيها أغراض الناس ومتاعهم بأبخس الأثمان.
بعد مرور أكثر من شهر على انطلاق الرصاصة الأولى في الخامس عشر من نيسان/ أبريل الماضي، تشهد الخرطوم حالات من النهب والسلب التي طالت منازل المواطنين، لا سيما أن الكثير من السودانيين غادروا منازلهم إلى الولايات المجاورة، فأصبحت تلك المنازل هدفاً للّصوص والمتفلتين من القوات المتصارعة.
تعرّض منزلي للنهب بعد خروجي من الخرطوم، وأخطرني جاري بأن مجموعةً عسكريةً اقتحمت داري، ونهبت مقتنياتي وسيارتي الخاصة
أسطورة "تسعة طويلة" في الميدان
يمتلك السودانيون تعريفاً لمجموعة اللصوص الذين يهاجمون المواطنين في الشوارع من أجل الاستيلاء على مقتنياتهم، هو مصطلح "تسعة طويلة"، وهذا المصطلح يرتبط بلعب "الكوتشينة" المنتشرة بين السودانيين.
ارتبط عمل تلك العصابات وظهورها المكثف بعهد الحكومة الانتقالية الأولى بقيادة عبد الله حمدوك، مما جعل بعض القوى السياسية تتجه إلى فرضيات تتهم عناصر من النظام البائد بدفع تلك العصابات من أجل إثارة البلبلة والذعر كمهددين أمنيين يسرّعان في سقوط الفترة الانتقالية، فيما يتهم البعض الشرطة بالتقصير وعدم التصدي للظاهرة الإجرامية.
وارتبطت عمليات السرقة والنهب بأسواق بعينها في الخرطوم، تباع فيها المقتنيات الشخصية بأسعار زهيدة للغاية، مثل "سوق ستة" في ضاحية الحاج يوسف، شرق مدينة الخرطوم بحري. وقد أُطلق عليه "سوق ستة" لأنه يباشر علميات البيع والشراء عند الساعة السادسة صباحاً، ويستمر ساعةً وينفضّ في السابعة صباحاً قبل أن ينطلق العمال إلى أعمالهم. وبمرور الوقت تطور السوق، وأصبح يشمل مجالات أخرى بالإضافة إلى محال بيع الأجهزة الكهربائية وأماكن بيع الخضروات وغيرها من الأنشطة التجارية المعروفة.
وفي مدينة أم درمان، تُعرف أسواق مثل "سوق كرور"، و"آخر مكالمة"، وتعني أن فيه ما تم نهبه من هواتف نقالة قبل وصول الشخص إلى تلك المنطقة المشهورة بالنهب والسلب من قبل اللصوص.
حرب الخرطوم تفتح أسواقاً جديدةً
البعض لم يكتفِ بالخراب، بل أتبعه بالسرقة والنهب، لتظهر أسواق وتجمعات تباع فيها أغراض الناس ومتاعهم بأبخس الأثمان.
بعد اندلاع حرب الخرطوم بين الجيش والدعم السريع، بات السودان في مشهد جديد، إذ بلغت المسروقات والمنهوبات أرقاماً فلكيةً تستوجب قيام أسواق جديدة لبيعها تُعرف بأسواق "الكسر"، يتم فيها بيع كل ما هو معروض بأسعار تقل كثيراً عن قيمتها الحقيقية.
يقول الطيب الأمين الكباشي، الذي غادر إلى دولة مصر بصحبة أسرته لرصيف22، إن منزله تعرّض للنهب أمام ناظريه بعد أن تم تهديده بالسلاح، وأشار إلى أن المعتدين جاءوا بسيارات كبيرة، ولم يتركوا شيئاً في المنزل. وفي السياق نفسه، تعرّض منزل الشاعر السوداني عالم عباس، رئيس اتحاد الكتاب السودانيين السابق، لعملية نهب، وقال عباس لرصيف22، إنه علم بما تعرض له منزله من عمليات نهب عن طريق جيرانه عبر مجموعة واتساب. ويضيف عباس الذي غادر الخرطوم إلى القاهرة، أن كل مقتنيات المنزل تم نهبها بما فيها سيارته الخاصة.
في الخرطوم أسواق جديدة تم إنشاؤها، مثل سوق "دقلو"، ويشير الاسم إلى ارتباطه بكنية قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي". ويقول الطيب الأمين، أحد الذين ارتادوا أماكن بيع المنهوبات، إن الأسعار أقل بكثير من أسعارها الحقيقية، مشيراً إلى أن سعر بيع الآيفون 14 يصل إلى 10،000 ألف جنيه سوداني، أي ما يعادل 7 دولارات، فيما تتراوح أسعار الثلاجات بين 20 دولاراً و30 دولاراً، وأضاف أن القوة الشرائية ضعيفة للغاية بعد توقف عمل المصارف، بجانب أن معظم العاملين لم يتلقّوا رواتبهم لأكثر من شهرين، ما يجعل أولوياتهم تنحصر في توفير الغذاء أو الحصول على ثمن أجرة المغادرة من الخرطوم.
ويقول الصحافي السوداني التقي محمد عثمان، إن ما يحدث الآن في الخرطوم يمثّل قمة المأساة بعد استمرار المعارك العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع للشهر الثاني على التوالي. وعليه، ما يحدث في الشارع من عمليات سلب ونهب، من إفرازات الحرب، خاصةً في ظل غياب الشرطة عن هذه الأحداث. شاهدنا آلاف المنازل التي تم نهبها بجانب الأسواق والمؤسسات التي نُهبت. ومن المؤسف أن المدنيين يدفعون ثمناً فادحاً لهذه الحرب المفروضة عليهم. ومن المؤسف أن تنشأ أسواق لبيع المنهوبات بأسعار زهيدة، أي بنحو 5% من أسعارها الحقيقة. حدثني أحد المواطنين بأنه شاهد مقتنيات منزله تباع أمام ناظريه، ولم يستطع منع عملية البيع؛ لأن من يقوم بالعملية رجل مسلّح، مشيراً إلى أن كل تلك المشاهد تمثّل انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان في حقه في الأمن لروحه وممتلكاته. ومن المؤسف أن تشارك القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في هذه العمليات وتسهّل الأمر للّصوص بالانتشار في الأسواق والمنشآت العامة والخاصة.
تعرّض منزلي للنهب بعد خروجي من الخرطوم، وعرفت ذلك من خلال "غروب" الواتساب الذي يجمعنا كجيران في منطقة المعمورة جنوب الخرطوم، وأخطرني جاري بأن مجموعةً عسكريةً اقتحمت داري، ونهبت مقتنياتي وسيارتي الخاصة وسيارة ابنتي، يقول أحمد الطيب.
وأشار الطيب، الذي غادر الخرطوم إلى القاهرة برّاً، في رحلة استغرقت خمسة أيام برفقة أسرته، إلى أن معظم المنازل تم نهبها بالكامل في منطقته، وإلى أن النهب يتم بشكل منهجي يستهدف كل المنازل الخالية أو عبر تهديد السكان ونهبهم تحت تهديد السلاح.
وكشفت مصادر أن عمليات النهب شملت معظم أحياء الخرطوم وأسواقها، وتداول ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد عمليات النهب وحرق المحال التجارية عن طريق أشخاص يرتدون أزياء مدنيةً، فيما توارت أقسام الشرطة التي أغلقت أبوابها بعد حرق واقتحام عدد من أقسام الشرطة. ولجأت بعض المناطق السكنية إلى تكوين دوريات من المواطنين للحماية والتصدي للصوص.
إفرازات الحروب
وعرف السودان في السنوات الماضية تجارة سيارات "بوكو حرام"، وهي سيارات يتم تهريبها عبر الصحراء من دولة ليبيا المجاورة للسودان عند الحدود الشمالية الغربية، ومعظم تلك السيارات تم نهبها من معارض للسيارات أو تمت سرقتها في أثناء الصراعات المسلحة في المدن الليبية، وتم إطلاق مصطلح "بوكو حرام" للإشارة إلى مجموعات إرهابية تقاتل في دول غرب إفريقيا، وكلمة "بوكو حرام" تعني باللغة المحلية في نيجيريا رفض التعليم الأجنبي وتشجيع التعليم الديني. ودخلت الحكومة السودانية وقتها في تحديات أمنية واقتصادية كبيرة بدخول آلاف السيارات بشكل غير قانوني، واضطرت مرغمةً تحت ضغوط شعبية إلى تقنين (قوننة؟) تلك السيارات، برغم استلامها العديد من النشرات الصادرة من الإنتربول بأرقام متسلسلة لعدد من السيارات المسروقة. وفي المقابل تأثر إقليم دارفور بالصراعات العسكرية التي شهدها الإقليم طوال عقدين من الزمن، بين الحكومة والحركات الدارفورية المسلحة. وخلفت تلك الصراعات أزمات أمنيةً واقتصاديةً ما جعل عمليات النهب والسلب عنواناً لها. كما شهدت مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، عمليات نهب مستمرة تستهدف سرقة السيارات، خاصةً ذات الدفع الرباعي التي يتم استخدامها في المعارك الحربية. أما السيارات الصغيرة فيتم تفكيكها وبيع قطعها كقطع غيار في العاصمة الخرطوم.
يدفع السودان ثمناً باهظاً للحرب التي وصفها رئيس مجلس السيادة والقائد الأعلى للجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، بأنها عبثية. وبرغم ذلك يستمر الصراع المسلح في إلقاء ظلاله القاتمة، باستمرار ثقافة الحرب المتمثلة في النهب والسلب وجرائم الاغتصاب والاختفاء القسري وغيرها من الانتهاكات غير الإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...