شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حوادث السرقة ارتفعت بنسبة 40%... هل يتّجه لبنان نحو

حوادث السرقة ارتفعت بنسبة 40%... هل يتّجه لبنان نحو "انفلات اجتماعي"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 10 سبتمبر 202010:14 ص

في أقل من عام، انفجر الاقتصاد في وجه اللبنانيين. حدث ذلك قبل انفجار مرفأ العاصمة بكثير. خلال أشهر طاحنة، فقدت الليرة أكثر من 80 في المئة من قيمتها، ولم يعد خافياً على أحد أن فئات اجتماعية واسعة انهارت قدراتها الشرائية تماماً، حتى انزلقت إلى ما دون خط الفقر.

ما بعد الفقر ليس إلا مشاهد قاسية يمكن مشاهدتها في توسّلات أمهات في الصيدليات لتخفيض ثمن علب الحليب لأطفالهنّ. تبيّن أن الدولة لا تعترف بوجود الفقراء في الأساس.

في الآونة الأخيرة، حدث ما يُفترض أنه بديهي في بلاد منكوبة تماماً: صار فعل السرقة طبيعياً. وطالما أن الحديث عن مجاعة محتملة في لبنان لم يعد نظرياً، صارت "السرقات الخفيفة" أكثر تواتراً أيضاً.

هذا النوع من السرقات التي يفضّل مالك صيدلية في منطقة كورنيش المزرعة في بيروت أن يسميها بالـ"بيضاء"، باتت تحدث في وضح النهار، وغالباً ما تنتهي باعتذار السارق. أحياناً يبكي هؤلاء الذين لا يملكون الدواء. حدث هذا بالفعل "ثلاث أو أربع مرات" أمام الصيدلي الذي تباهي، بلا داعي، بأنه أجرى على حسابه تخفيضات "خاسرة" على أدوية أمراض مستعصية، ووهب في مرات أخرى علبة "بنادول" سائل للأطفال وحفاضات يتخطى ثمنها اليوم 90 ألف ليرة لبنانية. لو تُرِك له الخيار، لم يكن الصيدلي ليمانع أن يسرد لنا مزيداً من أعماله الإنسانية، لكننا قصدناه لنتقصّى بشأن قصّة أكثر درامية.

قبل أسبوعين، تعرّضت الصيدلية لمحاولة سرقة بقوة السلاح، "انتهت بصندوق أموال فارغ وزجاج مكسور"، كما يقول الصيدلي. هذه الحادثة ولّدت لديه شعوراً بأن الأمور تتجه إلى وضع أمني مقلق، و"فلتان غير مسبوق"، لا سيّما أن وجود الصيدلية في المنطقة لطالما شكّل في ذهن قاطنيها وهم أن هناك حماية أمنية لهم. هذه واحدة من جملة أفكار خاطئة أسهم تقسيم بيروت الطبقي في تكريسها وتعميمها، وخصوصاً في المناطق التي يقلّ حضور الدولة فيها.

القتل والسرقة إلى ارتفاع

في بلاد لطالما كانت الجماعات الطائفية فيها قلقة، تكررت مشاهد العنف وارتفعت معدلات الجرائم، ثمة ما يبدو مقلقاً أكثر هذه المرة. خلافاً لأغلب الاستحقاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية السابقة، تبدو الاحصاءات الأخيرة منذرةً بما هو أسوأ أمنياً، فنصف اللبنانيين تقريباً باتوا يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (الإسكوا).

حسب إحصاءات قوى الأمن الداخلي التي نشرتها شركة "الدولية للمعلومات" أخيراً، تخطت جرائم القتل والسرقة بقوة السلاح الأرقام المسجّلة في عامي 2018 و2019.

وسجّل شهر تموز/ يوليو 2020 ارتفاعاً كبيراً في عدد السيارات المسروقة، وبَلغ 106 سيارات مقارنةً بـ78 سيارة في حزيران/ يونيو 2020 و28 سيارة في تموز/ يوليو 2019.

وبتقدير أشمل، تشير المعطيات إلى أن سرقة السيارات ارتفعت "منذ بداية العام وحتى نهاية شهر تموز/ يوليو بنسبة 102%"، مقارنةً بالفترة ذاتها من العام الماضي.

أما أين تذهب هذه السيارات، فاللبنانيون لديهم ترجيحاتهم وهي ليست صائبة دائماً. لكن ما يمكن افتراضه هو أن حجم السرقات أكبر من حجم لبنان.

وارتفعت حوادث السرقة بشكلٍ عام بنسبة 40% منذ بداية العام وحتى نهاية تموز/ يوليو 2020، وبلغت 1343 حادثة (287 منها سُجّلت في تموز/ يوليو الفائت وحده)، مقارنةً بـ960 حادثة في الفترة ذاتها من العام 2019.

وفي ما يتعلق بأعداد القتلى الذين لم يُقتلوا في حوادث سير، فقد بلغت 109 قتيلاً حتى نهاية تموز/ يوليو 2020 مقارنةً مع 59 قتيلاً في الفترة ذاتها من العام 2019.

صحيح أن الأرقام وحدها لا تكفي لرسم سيناريو أمني قاتم يتهدد البلاد، لكن ثمة أحداث أمنية ومتغيرات اقتصادية لا يمكن تجاهل ارتباطها الوثيق في الحالة اللبنانية، قبل فهم تداعياتها على كافة فئات المجتمع.

"أموال الناس، العملة الوطنية صارت بلا قيمة، وبات أكثر من نصف مليون لبناني عاطلين عن العمل"، في مؤشرات "تفيد بأننا نقترب من انفجار اجتماعي وشيك"، على ما يرى محمد، طالب الاقتصاد في الجامعة اللبنانية.

في الآونة الأخيرة، حدث ما يُفترض أنه بديهي في بلاد منكوبة تماماً: صار فعل السرقة طبيعياً. وطالما أن الحديث عن مجاعة محتملة في لبنان لم يعد نظرياً، صارت "السرقات الخفيفة" أكثر تواتراً أيضاً

مستنداً إلى دراسة أنجزت حديثاً حول العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتكاب الجريمة في العالم العربي، ينبّه محمد من أثر البطالة في اندفاع الأفراد نحو الجريمة، مشيراً إلى أن الذين لا يعملون، وبخلاف الذين يتقاضون أجوراً غير مستقرة ومتدنية، "غالباً ما تتخطى جرائمهم السرقة والاختلاس والتزوير".

ولهذا، يتخوف كثيرون من ارتفاع إضافي في معدلات الجرائم خلال الأشهر المقبلة، وخصوصاً بعد تصريحات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي بشّر اللبنانيين بأن البلاد قد تتجه خلال ثلاثة شهر إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية، كالقمح والدواء والمحروقات، بسبب استنزاف احتياطي العملات الأجنبية.

مظاهر العنف باقية وتتمدّد

في شريط الأخبار أسفل الشاشة، جاء الخبر كالتالي: "بلدية الخرايب (جنوب لبنان) ألقت القبض على أشخاص كانوا يقتطعون السكة الحديدية بهدف بيعها". ضاحكة، تنقل أماني القصة الطريفة في تسجيل صوتي إلى محادثات العائلة على تطبيق واتساب.

عملياً، لم يعد هناك قطارات في لبنان. صحيح أن البلاد فيها مصلحة تسمى بـ"سكك الحديد والنقل المشترك"، وفيها موظفون في الدولة ما زالوا يتقاضون رواتبهم بشكل طبيعي، من دون أن يفهم أحد لماذا، غير أن السؤال حول الأسباب سيكون، كما كان خلال السنوات التي تلت الحرب الأهلية اللبنانية وحتى اليوم، "بلا نتيجة". ما بقي هو آثار لسكك الحديد عبارة عن أجزاء قصيرة ونادرة منها.

وانطلاقاً من هذه القاعدة، تحاول أماني أن تأخذ الأمور "ضحك بضحك"، كما تقول، على اعتبار أن أحداث كتلك "بتقطع" أمام مظاهر القتال العنيفة المتكررة في الآونة الأخيرة، والمدفوعة، كما الجرائم، بتحوّلات اقتصادية واجتماعية ليست بالضرورة وليدة اللحظة.

قبل أسبوعين، استقرّت رصاصة في قلب شاب في بلدة اللوبية الجنوبية نتيجة خلاف بين مناصرين لحركة أمل وآخرين لحزب الله على لافتة عاشورائية. وفي فترة متقاربة، أصيب لاعب كرة القدم في نادي "الأنصار"، محمد عطوي، برصاص طائش أثناء تشييع أحد ضحايا انفجار مرفأ بيروت، بينما كان يقود دراجته النارية في منطقة الكولا.

في ساحة النور شمالاً (مدينة طرابلس)، نجا رجل من محاولة انتحار. حرق نفسه اعتراضاً على ولادته في بلادٍ بائسة، وهو ليس أول مَن يقوم بذلك. سبقه إلى ذلك كثر تخطى عددهم 95 شخصاً منذ بداية العام.

صحيح أن ذاكرة اللبنانين لطالما كانت قصيرة، لكنهم لم ينسوا علي الهق الذي قابل عنف الدولة بعنف آخر. في أحد مقاهي الحمراء، وأمام رواد الشارع الشهير الذي بات كئيباً إلى حد لا يُحتمل. صوّب علي المسدس إلى رأسه وضغط على الزناد. ولعلّه، بعنفه هذا، أراد أن يقول إن الباقين ذاهبون إلى مصائر مشابهة عمّا قريب.

تمثيلات جديدة للعنف؟

كل هذا يبدو عنفاً مألوفاً في بلدٍ مثل لبنان، ولكنه يتزايد. متى تصبح المجتمعات عنيفة فعلاً؟ نظرياً، قد نحتاج إلى مجلّدات للإجابة على سؤال إشكالي كهذا. في الحالة اللبنانية قد تجيب دراسات كبير أساتذة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية في بيروت، سمير خلف، عن أجزاء منه.

في كتابه الشهير "لبنان في مدار العنف"، قدّم خلف تفسيرات سوسيولوجية لدخول البلاد، بُعيد الحرب الأهلية، في حالة من الفوضى الاجتماعية والأخلاقية "تصاعدت فيها الشهوة للمال والاستهلاك المفرط"، وأفرزت وضعاً اجتماعياً غير سوي، قاد الأفراد في النهاية نحو سلوكيات عنيفة

في كتابه الشهير "لبنان في مدار العنف"، قدّم خلف تفسيرات سوسيولوجية لدخول البلاد، بُعيد الحرب الأهلية، في حالة من الفوضى الاجتماعية والأخلاقية "تصاعدت فيها الشهوة للمال والاستهلاك المفرط"، وأفرزت وضعاً اجتماعياً غير سوي، قاد الأفراد في النهاية نحو سلوكيات عنيفة، منها "الفساد والإخلال بالقوانين".

صحيح أن الاقتصاد كان عاملاً مؤثراً، وليس أساسياً، في نشأة تلك السلوكيات، وفي تطوّرها الدائم، لكن على الأقل كان بإمكان اللبنانيين، حتى أواخر العام 2018، الحديث عن اقتصاد.

اليوم، انهار ما تبقى من هذا الاقتصاد. وفقاً لتقديرات شركة "إنفو برو" (InfoPro)، تخطى معدل البطالة في لبنان 30%، في حين تضخّمت أسعار المواد الغذائية بنحو 190% مقارنةً بالعام السابق.

السرقات باتت تحدث أمام كاميرات المراقبة، ولا يكاد يمرّ يوم من دون وقوع اشتباكات أهلية عنيفة غالباً ما يذهب ضحيتها قتيل أو اثنين في أقل تقدير.

والحال أن الانهيار الكبير شكل مدخلاً لإعادة إنتاج تمثيلات جديدة للعنف، قد تكون السرقات وجرائم القتل أولى تجلياتها. وحسب نظرية خلف، فإن اللبنانيين وبدلاً من أن يتحرروا من العوامل التي أدت إلى حدوث الحرب في السابق، انصرفوا إلى الاستهلاك غير المتوازن بالنسبة إلى قدراتهم الشرائية المحدودة جداً للتعويض عن خيبات الحرب، وهذا ما أسّس، وفق الباحث الاجتماعي، لنشوء ظاهرة "اللامعيارية"، أي "الخلل والتفكك الاجتماعي الناجم عن عدم القدرة على تلبية طموحات أبناء المجتمع غير المحدودة وغير الواقعية مما قد يقود إلى الانحراف".

وفي مجتمع أهلي مثل المجتمع اللبناني، يمكن الافتراض أن أحداث العنف المتواصلة لن تقف عند حدود الجرائم، وقد تتخطاها إلى حدود الانفلات الاجتماعي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard