شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
طبّاخ الأفراح… مهنة

طبّاخ الأفراح… مهنة "العِز" التي تحاصرها الأزمة الاقتصادية المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الثلاثاء 30 مايو 202305:19 م

يُشاع بين سكان الريف في محافظات الفيوم وبني سويف الواقعتين في الشريط الأوسط للقطر المصري، ومحافظات المنوفية والغربية وبعض محافظات الدلتا الأخرى، اللجوء إلى طهاة محترفين يتولون إعداد الولائم في المناسبات الخاصة الكبرى خاصة حفلات الزفاف، والنذور والعقيقة، والأخيران حفلان بصبغة دينية، وحفل "العقيقة" تحديداً يُقام احتفالاً بالمواليد الجدد وبدأ يشيع في مصر في نهايات التسعينيات.

هذه المناسبات خلقت سوقاً رائجاً لتلك المهنة التي باتت تحترفها عائلات من الطهاة في تلك المناطق، واشتهرت إلى حد أن المخرج السينمائي المصري يسري نصر الله جعل منها عماد فيلمه "الماء والخضرة والوجه الحسن" الذي يتناول العلاقات في الريف من خلال أسرة تحترف طهو الطعام في الأفراح. وظلت مهنة مضمونة الربح حتى ضربت مصر أزمتها الاقتصادية الحالية.


ميلاد "طبّاخ الأفراح"

تقول أميرة أحمد، وهي سيدة أربعينية  قضت نصف حياتها بمنزل عائلتها الريفي مع 4 أعمام بمحافظة الشرقية، إن زوجات الأعمام لعبن دوراً رئيسياً في طهي طعام حفل زفافها "الفرح" من البداية للنهاية، وكانت واحدة منهن تمتلك أواني الطهي الكبيرة المستخدمة في هذه المناسبات، "مكانتش الحلل تخرج من مكانها فوق النمليات (خزائن الطعام) إلا في مناسبتين الفرح أو العزاء".

يطلب طباخ الأفراح في القرية الكثير من المتطلبات حتى يصنع "وجبات فاخرة" مثل التوابل التي لم تكن موجودة في القائمة من قبل، ومزيد من اللحم حتى يقوم بتشكيله لأكثر من صنف ما بين الكفتة والطواجن والجلاش المحشي، إضافة للخضروات مثل الطماطم والخيار من أجل تقطيعهما ووضعهما بالطبق، كذلك "الأرز المبهَّر"

في زفافها قبل عشرين عاماً، تولى أبوها شراء كافة "لوازم الطبخ" من لحوم وخضر وأرز، وقامت نساء العائلة بالطهي وتوزيع الطعام على الحضور أثناء الزفاف. حسبما تتذكر اميرة، استغرق الطبخ يوماً كاملاً مثلما يفعل الطباخون الآن.

ما حدث مع أميرة لم يحدث مع أخيها الذي تزوج بعدها  إذ "كان الوضع اتغير أو الزمن هو اللي اتغير"، فقد أتى أخوها بطباخ معروف لأفراح القرية، وعلى حد قولها فهو يحتاج الكثير من المتطلبات حتى يصنع "وجبات فاخرة" مثل التوابل التي لم تكن موجودة في القائمة من قبل، ومزيد من اللحم حتى يقوم بتشكيله لأكثر من صنف ما بين الكفتة والطواجن والجلاش المحشي، إضافة للخضروات مثل الطماطم والخيار من أجل تقطيعهما ووضعهما بالطبق، كذلك "الأرز المبهَّر". موضحة أنه في فرحها لم تكن "الأطباق الفِل" موجودة فكان الجميع يلتفون حول "الطبلية" ويأكلون من طبق واحد، أما الآن في عصر الطباخين؛ فقد ظهرت أطباق الفللين المغلفة، ولفتت الانتباه أيضاً إلى أن جميع العائلات أصبحت تفضل الاستعانة بالطباخ لأنه لايهدر الطعام مثلما كانت تفعل سيدات العائلة قديماً.

 مع تراجع القدرات الشرائية لدى كثير من المواطنين، خاصة في الريف والصعيد حيث الاعتماد على الطهاة، باتت تلك المهنة الواعدة يتهدد أصحابها البطالة

مما تحكيه أميرة، تظهر التكلفة العالية التي تتطلبها الاستعانة بطاه متخصص لطعام الأفراح. ومع تراجع القدرات الشرائية لدى كثير من المواطنين، خاصة في الريف والصعيد حيث الاعتماد على الطهاة (تبلغ معدلات الفقر الرسمية في الريف والصعيد 43%)، باتت تلك المهنة الواعدة يتهدد أصحابها البطالة.

لا يعمل الطباخ المحترف أبو شوشة بمفرده بل لديه فريق من المساعدين يعملون معه خاصة إذا كان الفرح كبيراً مثلما حدث في إحدى المرات حينما تمت دعوته لطهو الطعام في فرح كبير وكانت الذبائح تقدر بـ25 عجلاً

من الازدهار إلى "اعتبرها نقطة"

الطباخ المحترف إبراهيم رضا أبوشوشة اعتاد منذ سنوات أن يتولى مهام تجهيز ولائم الأفراح في قرية دُقميرة في محافظة كفر الشيخ والقرى المجاورة لها. 

يعمل أبو شوشة في هذه المهنة منذ أن كان عمره 10 سنوات، فقد ورثها عن والده الذي ورثها بدوره عن أبيه، إذ تحترف عائلة أبو شوشة طهو الولائم منذ 80 عاماً. 

يوضح أبو شوشة أن عمله لا يقتصر على الأفراح فقط ويشمل كافة المناسبات الأخرى مثل العزومات وعقائِق الأطفال الحديثي الولادة. 

ولا يعمل أبو شوشة بمفرده بل لديه فريق من المساعدين يعملون معه خاصة إذا كان الفرح كبيراً مثلما حدث في إحدى المرات حينما تمت دعوته لطهو الطعام في فرح كبير وكانت الذبائح تقدر بـ25 عجلاً. ربما لهذا يكون تباطؤ العمل وانخفاض أعداد الأفراح والعزائم ضربة لدخل عشرات الأفراد ممن يعتمدون على تلك المهنة والمهن المعاونة لها كمصدر رزق. 

الشيف محمد: "الشغل أصبح شبه معدوم، فمثلاً في عيد الفطر كنت أطهو والعاملين معي لعشرة أفراح على الأقل، لكن في العيد الفائت لم نطبخ إلا في فرح واحد، وكان لمجاملة أحد أقاربي ولم يكن عملاً مدفوع الأجر"

وهو ما يواجهه حالياً الشيف محمد - كما اختار أن نسميه في التقرير- الذي يعمل طاهياً للأفراح في المحافظة نفسها، كفر الشيخ. 

يقول الشيف محمد ابن مركز البرلس "الشغل أصبح شبه معدوم، فمثلاً في عيد الفطر كنت أطهو والعاملين معي لعشرة أفراح على الأقل، لكن في العيد الفائت لم نطبخ إلا في فرح واحد، وكان لمجاملة أحد أقاربي ولم يكن عملاً مدفوع الأجر".

يؤكد الشيف أن "الحالة تسوء" وأن الوضع الاقتصادي الحالي "دفع العائلات لتقضية الفرح بأكلات بسيطة، مثل الاتفاق مع مطعم على طهي 20 كيلوغرام كفتة لحم وتقديمها للمعازيم مع العيش والسلطات فقط"، وهناك عائلات عادت إلى الاستعانة بنساء الأسرة لطهي ولائم الأفراح عوضاً عن الاستعانة بالطباخين المحترفين، واستطرد: "يا أستاذة وجبة الفرد في فرح الأرياف بتتكلف 150 جنيه".

وخلال الأشهر الماضية، تكرر أن تتفق معه إحدى الأسر على طهو طعام لفرح أو عزيمة (عزومة) و"فجأة يخلف صاحب الفرح هذا الاتفاق بسبب المال،  فعادة يعده أحد الأشخاص بأن يأتي له بطباخ يأخذ أجراً أقل وفي الحقيقة يكون الأمر نوعاً من السمسرة بين هذا الشخص والطباخ الذي يأتي به". فعلى حد قوله هناك طباخون يجندون سماسرة للترويج لهم مقابل نسبة من المال 

من المواقف الغريبة التي تعرض لها مؤخراً - لكنه يصفه بأنه أفضل موقف في حياته- أنه كان يعمل في أحد الأفراح، وبعد انتهاء العمل أتى له والد العروس وطلب منه أن يتنازل عن أجره ويعتبره ذلك نُقطة "هدية مالية تقدم للعروس" لأنه لا يملك المال للدفع له، وبالفعل تنازل الشيف عن الأجر وهو في غاية السعادة.

أوضاع الطهاة المحترفين تأثرت بالظروف الاقتصادية وليست المشكلة في الأجر الذي يتقاضونه، فهم يرضون بالقليل، ولكن لأن السلع الغذائية مثل الأرز والمكرونة والزيت والسمن قد ارتفعت أسعارها لحد كبير مما جعل بعض العائلات تعزف عن إطعام الضيوف بالأساس

ظروف ضاغطة

الشيف محمد خلف صابر، الشهير بمحمد أبو حبيبة، يقول لرصيف22 إن المهنة التي يعمل بها منذ 14 عاماً سواء داخل محافظة المنيا بصعيد مصر التي يعيش فيها أو خارجها باتت تواجه تهديداً غير مسبوق. 

يوضح صابر أن أشهر الصيف عادة ما تكون هي الأكثر رواجاً لأعماله هو وزملاؤه من الطهاة المحترفين، إذ تكثر به الأفراح، أما في باقي أشهر ومواسم السنة "بتلطش معانا" أي أن الأفراح تكون قليلة.

هذا ما دفع كثيرين من العاملين بتلك المهنة إلى تحويلها إلى "شغلانة على جنب" أي مهنة جانبية إلى جانب مهن أخرى رئيسية يقومون بها وتوفر دخلاً ولو محدوداً طوال العام. "منهم ناس عندهم أرض و بيأجروا أرض يزرعوها، وناس عندها مطاعم صغيرة ثابتة أو متحركة، أو موظفين بالقطاع الخاص والحكومي. وخلال شهر رمضان الكريم تحل الموائد الرمضانية محل الأفراح بالنسبة لهم ويديرونها بنفس الطريقة".

فيما أوضح "أبو حبيبة" أيضاً أن أوضاعهم تأثرت بالظروف الاقتصادية التي يعيشها العالم حالياً، وليست المشكلة في الأجر الذي يتقاضونه، فهم يرضون بالقليل على حد وصفه، ولكن لأن السلع الغذائية مثل الأرز والمكرونة والزيت والسمن قد ارتفعت أسعارها لحد كبير مما جعل بعض العائلات تعزف عن إطعام الضيوف بالأساس.

المشكلات السابقة ليست كل ما يواجه طباخ الأفراح بل بدأت سياسة الاستغناء عنه في بعض الأحيان كما قال.

اعتاد الطهاة تزايد معدلات العمل من بعد نهاية شهر رمضان حتى بداية سبتمبر/ أيلول. وبحسب الشيف أبو شوشة، اعتاد الطهاة ان يكون العمل في هذا الموسم يومياً "كل يوم فرح أو تلاتة"، لكن الوضع اختلف تماماً هذا العام

ترتيبات قد تعود

يقول الشيف إن مهامه في طهو طعام الفرح تحتوى على تفاصيل كثيرة، تبدأ من ذبح الذبائح وتنظيف اللحم وتقسيمه للطهي، وتصنيفه إما للسلق ووضعه بالخضار أو للكفتة، ثم بعد ذلك يبدأ في إعداد العشاء للعريس والعروس وهو مختلف في الغالب عن طعام المدعوين، ثم تحضير عدة أصنف من الحلويات.

بحسب الطهاة الذين تحدثوا مع رصيف22، لا يطلب الطباخ أي مستلزمات من "أصحاب الفرح" حيث أنه يمتلك الأواني الخاصة به.

وعن الأصناف التي يطهوها طباخ الأفراح عادة، يقول إبراهيم أبوشوشة:"مش كل الناس بتطلب نفس الأصناف، وعلى حسب الميزانية. هناك من يطلب أصناف معينة ووجبات موحدة".

أما عن الموسم الذي اعتاد الطهاة تزايد معدلات العمل فيه، فيبدأ من بعد نهاية شهر رمضان حتى بداية سبتمبر/ أيلول. وبحسب أبو شوشة، اعتاد الطهاة ان يكون العمل في هذا الموسم يومياً "كل يوم فرح أو تلاتة"، لكن الوضع اختلف تماماً هذا العام. 

يختلف الوضع قليلاً في الشرقية، بحسب السيد هيكل الذي يعمل طاهياً محترفاً في حفلات الزفاف منذ 18 عاماً، وتخصص في خدمة قى مركز فاقوس انطلاقاً من قريته ميت العز، لكن شهرته ذاعت حتى بات يعد طعام الأفراح في عدد كبير من المحافظات. 

بحسب هيكل، تعد أصناف: الأرز بأنواعه وطاجن التورلي وكفتة داوود باشا وبطاطس الفرن والفاصوليا هي الأطباق الأعلى طلباً من قبل زبائنه في مختلف المحافظات، وتتميز جميعها بأنها "أكلات ملهاش موسم".

على ذلك، تختلف ميزانيات الأفراح من عائلة لأخرى، ويلتزم هيكل باقتراح قائمة طعام "تشرف" أياً كانت الميزانية الموضوعة من الأسرة التي تستعين بخدماته "ممكن نعمل وليمة بـ20 ألف ونعمل وليمة بـ150 ألف" موضحاً أن هذين هما الرقمان الحقيقيان لأعلى وأقل الأفراح التي تولاها تكلفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image