"في بيت ريفي رتبت إحدى الساكنات فيه وهي امرأة نحيلة مثل المسمار سفرة من ثلاث طبقات. زوج حمام وعسل أسود وجُبن، وقليل من القشدة، كلها كانت من نصيب الرجال أو حتى الأطفال طالما دخلوا إلى زمرة الذكور، وفي النهاية طعام لإناث العائلة من أحرف خبز جافة كالأظافر من بقايا الأرغفة مع المش أو نارنجة مخللة وهن قلما يحيظن بطبق من الملوخية أو البامية عندما تتوفران في الحقل مطبوخاً على مرق الطيور التي يأكلها الرجال".
بهذه الأجواء رصد الكاتب المصري عزت القمحاوي في روايته "بيت الديب" الصادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2010، ملخصاً تاريخ البيت المصري على مدار أكثر من مئة وخمسين عاماً من خلال تاريخ عائلة في قرية هامشية.
اللقطة التي كتبها الاديب والصحافي المصري البارز تأتي توصيفاً أدبياً يكاد يلخص بدقة ما يتكرر في التقارير الدولية حول وضع سوء الغذاء في مصر، والتي تتحمل ضمن 36 دولة، عبء 90% من أمراض سوء التغذية في العالم، بحسب منظمتي الفاو واليونيسيف، تلك الأمراض التي تنتشر بصفة خاصة بين النساء والطفلات في مصر.
تتحمل مصر ضمن 36 دولة، عبء 90% من أمراض سوء التغذية في العالم، بحسب منظمتي الفاو واليونيسيف، تلك الأمراض التي تنتشر بصفة خاصة بين النساء والمراهقات في مصر
من تقرير اليونيسيف عن سوء التغذية في مصر
متمردات على بواقي الأطعمة
عايشت آية منير مظاهر التفرقة بين السيدات والرجال في الطعام خلال نشأتها بإحدى قرى محافظة الشرقية، وشهدت تخصيص أهل البيت للرجال، وخصوصاً في شهر رمضان، بأفضل الأطعمة من اللحوم والدواجن.
تقول لرصيف22: "ورثت خالاتي هذا السلوك عن جدتي. جميعهن يقدمن أفضل الأطعمة للرجال، وحتى الأطفال الذكور كان لديهم امتياز التجريب والتذوق من الأكل الجيد أثناء إعداده، أما النساء فلا، ينتظرن إلى ما بعد انتهاء الذكور من الأكل، ويُعاد ترتيب البقايا ويعاد توزيعها على الفتيات مع أمهاتهن".
وتضيف آية: "جيلي هو الذي قام بثورة ضد هذه السلوكيات، بدأنا نتساءل عن سبب تقديم الأكل لأزواج خالاتي واختصاص أولادهم بالتفضيل. كان الرد أن هذا ما تعودناه".
في الجنازات بالأرياف تخصص شوادر لاستقبال الرجال المعزين، وتقدم لهم ما يعرف بـ«صينية العزا»، وما إن ينتهوا من الأكل حتى تجمع النساء البقايا لأكلها من دون غضاضة، ومن تطالب بنصيبها من طعام جيد يعتبرنها «طِفْسَة» أي شرهة للطعام
في النقاشات التي خاضتها آية كان لديها امتياز أنها من المدينة، إذ أتيحت لها المناقشة من دون مواجهة ردود عنيفة من أحد، "بخلاف بنات خالاتي الأقل اجتماعياً لم تكن لديهن أي فرصة متاحة للاعتراض".
المشهد نفسه عايشته فاطمة الزهراء، وهي سيدة أربعينية، في محافظة البحيرة التي ينتمي لها زوجها، وتكرر أمامها بالأخص في الثمانينيات والتسعينيات.
تقول لرصيف22: "في الجنازات بالأرياف تخصص شوادر لاستقبال الرجال المعزين، وتقدم لهم ما يعرف بـ«صينية العزا» إذ تعد نساء كل أسرة من جيران المتوفي صينية تحتوي على "برام أو صينية أرز"، بالإضافة إلى مقدار من لحوم أو دواجن ومأكولات متنوعة، تقدم جميعها إلى الرجال المعزين، وما إن ينتهوا من الأكل حتى تجمع النساء البقايا لأكلها من دون غضاضة، بل يعترضن ويسكتن من تطالب بنصيبها من طعام جيد ويعتبرنها «طِفْسَة» أي شرهة للطعام".
شهدت اليونيسيف ومعها وزارتا الصحة والزراعة في مصر، بأن عبء سوء التغذية الأكبر في البلاد تتحمله النساء والإناث من الصغار بصفة خاصة
وتشير فاطمة إلى أنه كلما قل المستوى المادي تأصلت عادات تفرق بين النساء والرجال في تقديم الآكل الأكثر جودة، خاصة اللحوم أو كل ما يحتوي على بروتين إلى الرجال، لافتراضات تتصل بالتعب في العمل بالأرض والأعمال اليدوية. وتضيف: "مع أن كثيرات يتعبن داخل البيوت أكثر من 10 رجال مجتمعين لكن هكذا جرت العادة".
الإحصائيات تشهد
ما رصده رصيف22 من خلال مصادره، تشهد بصحته التقارير والإحصاءات الدولية. ففي تقرير حول وضع سوء التغذية في العالم، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" في مطلع مارس/ آذار الماضي، إن أوضاع سوء التغذية بين النساء والمراهقات عالمياً بات "مفزعاً" وإن لم ترد مصر من ضمن قائمة الدول التي اختصها تقرير يونيسيف بالتحليل.
ولكن في تقارير عن مصر، شهدت اليونيسيف ومعها وزارتا الصحة والزراعة في مصر، بأن عبء سوء التغذية الأكبر في البلاد تتحمله النساء وصغار السن، وخاصة الصغيرات. وأدارت اليونيسيف برنامجاً لمدة 7 سنوات بين عامي 2012 و2017 بالتعاون مع الحكومة المصرية لتقليل فجوة سوء التغذية بين النساء والرجال في عدة محافظات تحوي القرى الأكثر فقراً، منها سوهاج وأسيوط وأسوان وبني سويف والفيوم. وكلها عدا أسوان تتنافس سنوياً على لقب أشد المحافظات المصرية فقراً.
حذرت الفاو من توابع الأزمات الاقتصادية التي تمر بها مصر على الغذاء لا سيما على النساء والأطفال، وبيَّنت الإحصاءات الرسمية المصرية ارتفاعاً في نسب وفيات الأطفال الرضع وبالغي الصغر خلال فترة الأزمة الاقتصادية (2014- 2017)
وبحسب بيانات المسح الصحي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – وكالة الإحصاء الرسمية في البلاد- في العام 2021، فإن معدلات وفيات الأطفال الرضع ارتفع من 22 إلى 25 حالة من كل ألف مولود من 2014 إلى 2021 (فترة القياس) كما ارتفعت نسب الوفيات بين الأطفال الحديثي الولادة ونسب الوفاة بين الأطفال الذين هم دون الخمس سنوات. يترافق كل هذا مع الأزمة الاقتصادية الأولى التي شهدتها البلاد في 2013 – بحسب الفاو- وبلغت ذروتها خلال عامي 2016 و2017 قبل أن تعود الأحوال للاستقرار خلال 2018، ثم تواجه البلاد أزمة جديدة بدءاً من العام الماضي ولا تزال تتفاقم.
عدالة الحضور وعدالة أنصبة الطعام
في منتصف شهر رمضان الجاري، انتشرت صور الإفطار الجماعي الذي ينظمه سكان عزبة حمادة بالمطرية سنوياً، والذي لقي حفاوة كبيرة من جمهور الشبكات الاجتماعية في مصر، إلا أن الناشطات النسويات كان لهن رأي آخر في الإفطار الجماعي السنوي، إذ علقن على ما رأينه تواضعاً في ظهور النساء في الصور الخلابة التي تداولها رواد الشبكات الاجتماعية للحدث.
وسجلن آراءهن عبر منصات التواصل الاجتماعي لافتات إلى غياب التمثيل النسائي عن مشهد إفطار المطرية، وتوافقه مع التفرقة المتكررة في عزومات رمضان.
في منشور لها، كتبت الدكتورة آية البحقيري، طبيبة نفسية وعصبية، تفسير صاغته صديقتها للتفرقة بين النساء والرجال في العزومات، ونقلت على لسانها أن "النساء تعتبر الرجالة ضيوف... بيشرفوا نفسهم قدامهم ويقدموا لهم الأكل النضيف المترتب بشكل شيك، ويطلعوا الصيني والكاسات من النيش علشان يبقى شكلهم حلو ويشرف. بينما الستات [– أنفسهن-] أهل البيت ياكلوا أي حاجة سواء كان بواقي أو من الحلل. المهم أن شكلهم يكون حلو قدام الغريب".
وشاركت أيضاً أمل مصطفى بتجارب أقاربها مع التفرقة في العزومات الرمضانية والعائلية بشكل عام، وقالت: "في ستات بياكلوا على الأرض والرجالة على السفرة وستات بيتقال عليها طفسة عشان بترفض تاكل أكل مختلف عن الرجالة، وبيسكتوها ويقدمولها أكل مختلف وباقي الستات تاكل أي حاجة وستات بتاكل في المطبخ في الوقت اللي الرجالة بتاكل على سفرة، وده كله في عزومات عائلية يعني مفيش داعي للفصل بين الجنسين أصلاً".
وتتابع: "في الحنة السفرة للرجالة والستات تستنى. مؤخراً في بيوت محترمة بتقسم الأكل في أطباق من البداية، لكن لازالت بيوت كتيرة مختلة بتخصص البواقي للستات".
يشير مصطلح "تأنيث الفقر" إلى ما اعتبره صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة: "ظاهرة عبء الفقر الذي تتحمله المرأة، خاصة في الدول النامية"، وهو لا ينتج عن ضعف الدخل المادي فقط؛ بل نتيجة للحرمان من الإمكانيات والتحيزات الجنسانية الموجودة في المجتمعات
وتحدثت الكاتبة الثلاثينية فاتن صبحي عن موقف تعرضت له تسبب في قطيعتها لقريتها في محافظة الفيوم، وقالت لرصيف22: "دعيت أنا وشقيقتي لحضور حفل زفاف قبل بضعة شهور بقريتي في الفيوم التي بعدنا عنها لسنوات بسبب ظروف عملنا؛ وفوجئنا بتقديم الأكل للضيوف الرجال، رغم أنني وشقيقتي ضيوف أيضاً ومع ذلك قُدمت لنا البقايا والأكل البارد والرديء القادم من ناحية الرجال".
وتضيف: "شعرت بالإهانة لمجرد أننا ستات غير متزوجات، فالمتزوجات عوملن بطريقة أفضل قليلًا بسبب لحاقهن بما يأكله الأزواج والأبناء، أما نحن فلا".
وتواصل: "رغم أن الضيوف الرجال تفصلهم عن بيوتهم ساعة زمن يمكنهم بعدها الاستراحة وتناول ما يريدونه من طعام. أما نحن فلدينا طريق طويل وسفر ثلاث ساعات للوصول إلى منزلنا في القاهرة. رغم ذلك تم تفضيل الرجال. لذل قررنا الانقطاع التام عن قريتنا مهما كان السبب".
التمييز نفسه رأته أمنية قلاوون، فتاة ثلاثينية، ورغم أنه لم يحدث في أسرتها فقد شهدته في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، تقول لـرصيف22: "زمان في الأفراح والعزومات خاصة بالعزب الصغيرة (أماكن تابعة للقرى)، كان يتم فصل بين الرجال والنساء، بحيث تقدم إلى الرجال الصواني قبل الستات، أما جيلي فلم يرَ هذه الأمور إلا نادراً".
تأنيث الفقر واحتقار الذات
يشير مصطلح "تأنيث الفقر" إلى ما اعتبره صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة بأنه ظاهرة عبء الفقر الذي تتحمله المرأة، خاصة في الدول النامية"، ليس نتيجة لضعف الدخل المادي فقط، بل نتيجة للحرمان من الإمكانيات والتحيزات الجنسانية الموجودة في المجتمعات.
ويشمل فقر الخيارات والفرص التمكن من عيش حياة صحية وخلاقة، والتمتع بالحقوق الأساسية مثل الحرية والاحترام والكرامة.
وقد تم تعريف المصطلح بطرق عديدة ومختلفة، ففي 1978 أعيد صياغة هذا المصطلح بعد ملاحظة أن عدداً غير متكافئ من النساء يعانين من الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو الحال عالمياً أيضاً. كان ثلثا الفقراء ممن هم فوق الـ 16 سنة من النساء.
بعيداً عن التأثير الجسدي تؤثر هذه التفرقة على صورة النساء عند أنفسهن، حين "تتعامل المرأة مع نفسها فترى أنها درجة ثانية ولا تستحق إلا البقايا، وتورث هذه النظرة الدونية لأبنائها وأجيال جديدة يجهل فيها الذكور احتياجات النساء ما داموا هم شبعوا بغض النظر عن الطرف الآخر
جانب آخر تشير إليه الدكتورة آية البحقيري فيما يخص تأنيث الفقر، تقول إن انتشار مرض الأنيميا بين الفتيات يعود إلى سوء التغذية الذي تتركه التفرقة بين الجنسين، بحيث تحرم إناث في بيئات فقيرة من اللحوم ونسب الأطعمة الجيدة مقارنة مع الذكور.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، فإن فقر الدم أو النقص في الخلايا الحمراء/ الهيموغلوبين في الدم الذي يؤدي إلى شحوب وإرهاق، تمثل تحدياً كبيراً في مصر حيث تؤثر على 27.2٪ من الأطفال دون سن الخامسة و25٪ من النساء في سن الإنجاب (15-49 سنة).
وبعيداً عن التأثير الجسدي توضح البحقيري أن هذه التفرقة على امتداد استقامة خطها تؤثر على صورة النساء عند أنفسهن، حين "تتعامل المرأة مع نفسها فترى أنها درجة ثانية ولا تستحق إلا البقايا، وتورث هذه النظرة الدونية لأبنائها وأجيال جديدة يجهل فيها الذكور احتياجات النساء ما داموا هم شبعوا بغض النظر عن الطرف الآخر. كما تجهل المرأة الكيفية التي تعبر بها عن احتياجاتها المادية التي تبدأ من الطعام والكمية خوفاً من الوصم بـالطفاسة".
وتضيف: "المرأة التي لا تدرك هذه التفرقة مع الوقت تكره أنوثتها التي تضعها في مرتبة منسحقة طوال الوقت، كما تظهر هذه المعاداة للأنوثة في العلاقة الزوجية وفقدان الرغبة الجنسية. أما اللواتي يدركن فداحة التفرقة فيبقين في صراع وكراهية للعادات المحملة باحتقار الإناث".
وتوافقها الرأي الناشطة النسوية آية منير: "النساء يصلن لمرحلة من التطبيع مع التفرقة بين الأبناء والبنات وقد يحاربن أي صيغة لتغيير هذه المظاهر ويصمن أخريات بأنهن من بيت جائع إذ يطالبن بحقهن في سفرة وأكلة عادلتين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...