مات معظم الخائفين على هوية مصر من صعود جماعة الإخوان. نجوا بموتهم، ولو عاشوا لهربوا إلى الاكتئاب؛ فالذين قُدرت لهم بقية من حياة يموتون الآن كمداً، يقتلهم العجز. ضاعت الفرصة الثورية النادرة على الحالمين بمصر "الدولة"، ولا يبقى إلا حلم الهروب.
مصر كبيرة، أكبر من حكامها، ومن ناهبيها، ومن الجيل المنتكس. لسنا إمارة ولا ولاية ناشئة ترتهن بأمر رعاتها. في عزّ هوس أنور السادات بما سماه "السلام" مع العدو، تأسست حركات شعبية وثقافية لمناهضة التطبيع. من البداية سمّينا العدو عدواً. وبعد التدجين العابر للحدود، لا صوت يستنكر التطبيع المجاني العابر للحدود. ولا صوت للمرشحين لجوائز الدولة يعلّق على تجريف مصر.
تمسّني آثار اقتصادية لفيروس كورونا، ونتائج كارثية لسياسيات ارتجالية أهانت كبرياء العملة المصرية. أما بعض المرشحين لجوائز الدولة في مصر فأوفر حظّاً، لديهم ما يغنيهم عن آثار كلمة حق لا خير فيهم إن لم يقولوا، هنا والآن
مثل كثيرين، تمسّني آثار اقتصادية لفيروس كورونا، ونتائج كارثية لسياسيات ارتجالية أهانت كبرياء العملة المصرية. أما بعض المرشحين لجوائز الدولة في مصر فأوفر حظّاً، لديهم ما يغنيهم عن آثار كلمة حق لا خير فيهم إن لم يقولوا، هنا والآن.
في مصر قانون غير دستوري أصدره رئيس مؤقت عام 2013 ينظم التظاهر، بالأدق يمنعها. وفي مصر قد يدان مناهض للإخوان المسلمين ولليمين الديني بانتمائه إلى الإخوان أو إلى جماعة مناهضة للحكم. وغداً، الثلاثاء 30 أيار/مايو 2023، فرصة نادرة للمرشحين للفوز بجوائز الدولة في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية. اجتماعهم شرعي، لا يحتاجون إلى إذن من وزارة الداخلية. ولن تتاح لهم فرصة أخرى.
هناك مرشحون لجائزة النيل، كبرى الجوائز المصرية، وآمل أن ينالها في الآداب المترجم الراحل محمد عناني (فرصته الأخيرة). ومرشحون للجائزة التقديرية، ولا أتمنى منحها للمستشار عبد المجيد محمود النائب العام السابق. بعض المرشحين لإحدى الجوائز يحق لهم التصويت على الجوائز الأخرى.
التصويت استحقاق لأعضاء المجلس الأعلى للثقافة، وغيره من الجهات الرسمية. بعض الأعضاء يتباهون بالفوز سابقاً بهذه الجوائز. من الحضور أيضاً وزراء سابقون للثقافة. هذا اجتماع سنوي مشهود للمجلس الأعلى للثقافة، برئاسة وزير الثقافة ممثل الدولة. ولن أثقل عليهم فأتخيل أن يعلنوا ما يقولونه في الدوائر الآمنة. لا أطالبهم بالتأسّي بصنع الله إبراهيم؛ فيبرئوا ذمتهم من التشويه الجاري لوجه مصر.
إبراء الذمة يترجمه أحياناً فعلٌ يمثل عبئا على صاحبه. لا يرضيني أذى مثقف من سلوك يكفله الدستور وتجرّمه سلطة مطلقة. كأن يكتب بياناً شخصياً ويقرأه على أكثر من ثلاثة أشخاص. أو يمرر على حضور الاجتماع بياناً مفتوحاً لمن يرغب في التوقيع. أو يرفع لافتة في ساحة دار الأوبرا أمام المجلس الأعلى للثقافة ترفض تعرية دار الأوبرا من الأشجار، وحرمان مصر من الحدائق، والهوس بمحو معالم عمرانية وثروة معمارية، لو استشير ذوو الخبرة، لبحثوا لها عن حلول فنية تحدّ من مدّ الجسور بين شرفات المنازل. اقتراحات البيانات واللافتات لن يراها إلا جمهور قليل، نخبوي، مدجّن، حذرٌ لا يحلم بأكثر من الإصلاح.
في سياق أكثر عدلا ورحمة وحرية وخجلا، تشرين الأول/أكتوبر 2003، ضرب صنع الله إبراهيم مثلاً لصلابة المثقف في مواجهة السلطة، في دارها، وأمام ممثليها. أمام نحو 300 مثقف عربي وأجنبي، تسلم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الرواي العربي. وضع الجائزة والشيك المالي على المنصة الصغيرة، وأخرج من جيبه ورقة. كان يرتدي قميصا فضفاضا يتسع للبيان/الرصاصة، وأعلن رفضه الجائزة، وقدم حيثيات وسط تصفيق أعضاء بلجنة التحكيم. رفض الجائزة «لأنها صادرة عن حكومة لا تملك مصداقية منحها"، واتهمها بالفساد والقمع والتبعية. أطلق سهمه، وترك الشيك، ولجأ إلى الجماهير في المسرح. بيان صنع الله أهم حدث ثقافي منذ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988.
مات معظم الخائفين على هوية مصر من صعود جماعة الإخوان. نجوا بموتهم، ولو عاشوا لهربوا إلى الاكتئاب؛ فالذين قُدرت لهم بقية من حياة يموتون الآن كمداً، يقتلهم العجز.
منذ ذلك المساء، أحتفظ بنسخة من البيان. أين كنا؟ كنا غاضبين، وأثمر الغضب ثورة شعبية أجهضت مرتين، أخراهما تبدو طويلة المدى. اعترض صنع الله على انتهاك القوات الإسرائيلية ما تبقى من فلسطين، وتنفيذ "خطة لإبادة الشعب الفلسطيني"، وسفير العدو مطْمَـئن في القاهرة التي يحتل فيها السفير الأمريكي "حيّا بأكمله". العجز يمتد من التهديد الإسرائيلي لحدودنا، والإملاءات الأمريكية، إلى "سياسة حكومتنا الخارجية"، ويشمل "كل مناحي حياتنا. لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل... الواقع مرعب". يضاف إلى الرعب الآن كابوس الديون.
في سجل جائزة الدولة التقديرية أسماء سيئة الذكر. أشهرهم نال لقب "قواد" بحكم قضائي. وفاز بالتحايل اللئيم على المصوّتين. المسكنة الدرامية أنه يريد صوتاً واحداً؛ فلا يبدو أمام زوجته مجرد "صفر". فأعطاه كلٌ صوته، التزاماً بوعد أن يرفع عنه الحرج.
في عام 2004 كان الفنان التشكيلي صلاح طاهر في الثالثة والتسعين. رأيته مستنداً إلى عكازين بشريين، مجبراً على حضور التصويت لرئيس مجلس إدارة صحيفة الأهرام إبراهيم نافع الذي كان ينافس رئيس البرلمان فتحي سرور على جائزة مبارك. صار اسمها "جائزة النيل" بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. وليست مصادفة أن يُدان هذان بعد الثورة، وأن تعيد القوى المضادة للثورة إليهما الاعتبار.
في اجتماع التصويت على الجوائز، عام 2000، شارك الشاعر فاروق شوشة بحكم رئاسته لاتحاد الكتاب. وسأله أحد "الزملاء" المصوّتين: "من يكون الدكتور شوقي ضيف لكي يُرشح أمام الأستاذ أنيس منصور؟". تساوت الأصوات، وحجبت جائزة مبارك. شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية، رئيس المجامع اللغوية العربية، تقبّل الأمر بروح العارف بسطوة السلطة والعلاقات العامة. وأنيس منصور لم يعجبه حصاد الديمقراطية، فعالج المسؤولون غضبه، وأرضوه بمبلغ مالي معتبر لقاء إعادة نشر كتابيه "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، و"عاشوا في حياتي" في مشروع "مكتبة الأسرة". قيل إن مكافأة إعادة النشر تعادل القيمة المالية للجائزة. وفي العام التالي ذهبت الجائزة إلى أنيس منصور.
سيرى المصوّتون والفائزون المشهد وهم في الطريق إلى الاجتماع. التصحير التام للبلد. الانتقام من المدينة العجوز. نسف الذاكرة. إبادة معالم كان يمكن، لو خلصت النية، أن تصير مزارات سياحية. فماذا يفعل هؤلاء المكبوتون؟
جائزة النيل، أرفع الجوائز المصرية، كاد رجل المال حسن راتب ينالها عام 2021، مرشحاً من الجمعية الجغرافية المصرية. الرجل يملك قناة فضائية، ورصيده من الجغرافيا ليس منجزاً علمياً، وإنما قرية سياحية وجامعة وأشياء أخرى لا أعرفها. من ضمن ما لا أعرفه، أو بسببه، يقضي الرجل الآن عقوبة السجن. في عام 2012 فاز أحمد السيد النجار وعمار علي حسن بجائزة التفوق. قلنا: نجحت الثورة. وبانتكاستها بهتت الجائزة، فاستبعدت لجنة من الخصيان عام 2022 كلاً من محمد إبراهيم طه وماجد يوسف ومسعود شومان ويسري حسان من المرشحين لجائزة التفوق، واختارت قائمة قصيرة تضم أربعة منهم الشاعر إبراهيم داود الذي لم ينصفه التصويت.
أتفادى الآن قضية الحريات، "الواقع مرعب" كما قال صنع الله إبراهيم. سيرى المصوّتون والفائزون المشهد وهم في الطريق إلى الاجتماع. التصحير التام للبلد. الانتقام من المدينة العجوز. نسف الذاكرة. إبادة معالم كان يمكن، لو خلصت النية، أن تصير مزارات سياحية. فماذا يفعل هؤلاء المكبوتون؟ لا أقترح سلوكاً مهلكاً. قصة البيانات والتوقيعات ورفع اللافتات قد تكون تهوراً غير مضمون العاقبة، وهم كبار في السن، أصحاب مرض، ولا ماضي لهم إلا مع المهادنة، ورؤية الإصلاح سقفاً للآمال. أنا حائر وخائف، على نفسي وعليهم. لعل الأسلم لهؤلاء أن يقوّوا قلوبهم، في بداية الاجتماع، ويقفوا دقيقة حداداً على وجه مصر الغارب، وجه مصر الجميل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com