سنوات طوال مرت منذ أخرجت مسلسل "أبو خليل القباني".
أتذكر اليوم مشهداً من المسلسل يزور فيه المغني المصري الشهير عبده الحامولي، الذي يلعب دوره في المسلسل النجم المصري صبري فواز، مدينة دمشق، ويحضر إحدى مسرحيات فرقة أبي خليل القباني. بعد العرض، يلتقي بأبي خليل، الذي يلعب دوره النجم السوري باسل خياط، في مقهى، ويتحدثان عن الضغوط التي يتعرض لها القباني، يعرض عليه الحامولي إن ضاقت به الدنيا أن يهاجر إلى مصر، يخبره أبو خليل أنه لا يطيق مغادرة مدينته المحبوبة.
تمر سنوات، وينتصر التيار المتشدد بقيادة الشيخ سعيد الغبرة، الذي لعب دوره باقتدار إياد أبو الشامات، ويغلق مسرح أبو خليل الدمشقي. ما يدفع أبا خليل إلى مغادرة دمشق وتحط رحاله في مصر لسنوات.
أفكر بهجرة أبي خليل القباني، أراجع نفسي بطريقة إخراجي حينها وأتخيل نفسي أخرجه الآن، فأقود المشهد باتجاه التركيز على رفض أبي خليل الرحيل أكثر، كي نفهم قسوة الاقتلاع الذي عاشه لاحقاً.
الممثل السوري باسل خياط، بدور "أبو خليل القباني" في المسلسل من إخراج إيناس حقي
أفكر بهجرة أبي خليل، وأتذكر هذا المشهد بالذات، أراجع نفسي بطريقة إخراجي له وأتخيل نفسي أخرجه اليوم، بعد الهجرة الكبرى التي عشناها، حيث تشتت أبطال المسلسل وشخصياته في كل أصقاع الأرض، أتخيل نفسي أقود المشهد باتجاه التركيز على رفض أبي خليل الرحيل أكثر، كي نفهم قسوة الاقتلاع الذي عاشه لاحقاً.
يروى أن أبا خليل كان يقود تدريبات الفرقة في مصر، وعندما انتهى العمل غادر أفراد الفرقة، فودعه الموسيقار المصري كامل الخلعي، لعب دوره الممثل المصري فتحي سالم، ممازحاً قائلاً باللهجة الشامية: "يعطيك العافية أبو خليل". ففاض الحنين بأبي خليل للشام وأهلها، وتناول العود الموضوع قربه دوماً وألف أغنية: "يا مال الشام". من شدة الشوق والحنين. لم نعتمد هذه الرواية في المسلسل، إذ اقترح الروائي الكبير الراحل خيري الذهبي الذي كتب نص المسلسل أن يؤلف أبو خليل الأغنية على متن السفينة التي تحمله نحو مصر، وكأنه تخيل أن هواء الشام الذي يغادر السفينة يكفي كي يدفع القباني لتأليف الأغنية التي سترافق السوريين في كل مهاجرهم.
الممثل المصري صبري فواز، بدور عبده الحامولي في مسلسل "أبو خليل القباني". إخراج إيناس حقي
أفكر بدلالة هجرة أبي خليل، ما معنى أن يضطر رائد المسرح السوري إلى مغادرة سوريا؟ أهو قدر يلاحق من اختار أن يقدم وجهة نظره الفنية التي تأبى السلطة ألا تفسرها سياسياً؟ كان مشروع أبو خليل القباني قائماً على ضرورة إحياء التراث العربي، ونشر اللغة العربية الفصحى بين العوام من خلال حكايات بسيطة تحفظ الأخلاق والفضيلة. لا يبدو مشروع أبو خليل سياسياً على الإطلاق، إلا أنه في الواقع كان يهدد سيطرة السلطنة العثمانية المتآكلة أصلاً، وأعتقد أن حرب الغبرة ضده كانت حجة وأداة لإسكاته، وما أسهل تجييش التطرف الديني ضد المشاريع التنويرية. غادر أبو خليل دمشق حزيناً لكنه أعاد بناء نفسه ومسرحه من جديد في مصر برعاية رجال أعمال وتجار مولوا مسرحه الجديد: مسرح العتبة الخضراء، ليعود منافسوه إلى حرقه كما أحرق أتباع الغبرة مسرحه الدمشقي. عاد أبو خليل إلى دمشق أخيراً مهزوماً مكسوراً واعتزل عمله الفني.
ما معنى أن يضطر رائد المسرح السوري أبو خليل القباني إلى مغادرة سوريا؟ أهو قدر يلاحق من اختار أن يقدم وجهة نظره الفنية التي تأبى السلطة ألا تفسرها سياسياً؟
أنظر حولي وأفكر بالسوريين اللاجئين، الذي امتلكوا نفس قدرة سلفهم القباني على النهوض والبدء من جديد والذين يبحثون عن سبل جديدة لإعادة اكتشاف أنفسهم والعالم من حولهم. أشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي صور حفلات التخرج من أعلى الجامعات في العالم، ومشاريع صغيرة تخلق هنا وهناك، مشاريع يحاول السوريون والسوريات من خلالها أن يمدوا يد العون لبعضهم من خلالها، وأن يعرفوا العالم إلى بلدهم وثقافته، وأن ينفتحوا من خلالها على بقية العالم وثقافاته. يملؤني الأمل، وأتخيل القباني ينظر إليهم بفخر كما تخيلت أنه كان ينظر إلى فرقته وهي في عز تدريباتها، مجموعات متفرقة، تراجع نصوصها، تتدرب على رقصات السماح، تحضر المناظر التي تتبدل خلال المسرحية، تركب الرماح والسيوف، وتخيط الملابس والعمامات. أتخيل السوريين اليوم كفرقة القباني، خلية نحل تنتشر في كل أرجاء العالم، تعمل، وتحاول، وتفكر.
أتخيل السوريين اليوم كفرقة القباني، خلية نحل تنتشر في كل أرجاء العالم، تعمل، وتحاول، وتفكر.
الممثل السوري إياد أبو الشامات، بدور سعيد الغبرة في مسلسل "أبو خليل القباني". إخراج إيناس حقي
تطبع الدول العربية تدريجياً علاقاتها مع نظام الأسد، يعود الأسد إلى جامعة الدول العربية، ويصرح وزير خارجيته بضرورة عودة كل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أتخيل اللاجئين، يعودون عودة أبي خليل المنكسرة، أتخيلهم جالسين في على أنقاض بيوتهم المهدمة كما جلس القباني في أرض ديار بيته الدمشقية، أو هذا ما يروى عن آخر سنوات عمره، أتخيلهم ينظرون إلى ركام بلادهم يفكرون بالحلم الذي كان، كما أتخيل أبا خليل وهو ينظر إلى مياه الفيجة وهي تتدفق من النافورة ويراجع الماضي. هل كان أبو خليل يحلم بالمسرح وهو جالس في أرض الديار؟ هل كان يسمع تصفيق الجمهور العاصف الذي رافق عروضه في كل المدن؟ هل كان يتذكر قصص نجاحه؟ هل كان يتذكر الرجل الذي باغ مصاغ زوجته من الذهب ليدفع ثمن بطاقات المسرح (أو المرسح كما كان يسميه القباني)؟ أم يفكر بخسارته وكيف فقد مسرحه الذي كان يتنفس من خلاله الحياة؟ أتمنى أن أهمس في أذن أبي خليل: لا تخشَ الهزيمة، فقد نسي السوريون كل من آذاك ونسوا كل الحكام ولكنهم لم ينسوك قط. بقيت وستظل أبا الفن السوري. نعود إلى نصوصك ونتذكر الصعوبات التي واجهتك كي نستمد الشجاعة ونكمل وننهض ونبدأ من جديد.
أفكر بما كان يمكن أن ينصحنا به أبو خليل بناء على تجربته، أتخليه في لحظة نجاحه التاريخية، حين وصل بفرقته إلى معرض شيكاغو العالمي عام 1893، ينزل من السفينة شامخاً، ينظر إلى العالم المفتوح أمامه، أتخيله يقول لنا: لا تخشوا ركوب الصعاب. أنتم قادرون، لقد عبرتم البحار كما فعلت، وحققتم المستحيل، تمسكوا بالأحلام ولا تعودوا منكسرين.
هل كان أبو خليل يحلم بالمسرح وهو جالس في أرض الديار؟ هل كان يتذكر الرجل الذي باغ مصاغ زوجته من الذهب ليدفع ثمن بطاقات المسرح (أو المرسح كما كان يسميه القباني)؟ أم يفكر كيف فقد مسرحه الذي كان يتنفس من خلاله الحياة؟
لا يمكنني اليوم وكل يوم، عندما أتذكر المسلسل وأفكر بالحديث عن عودة اللاجئين والتطبيع مع النظام ألا أتذكر ممثلاً شاباً اسمه مازن ديراني، مثل في مسلسل أبو خليل القباني دور أحد أفراد فرقة القباني المسرحية، ولعب أدواراً متعددة في المسلسل بحسب المسرحيات التي قدمناها من مسرح القباني. أفكر بمازن وحقه علينا فقد استشهد مازن ديراني تحت التعذيب في معتقلات الأسد، وبقي مكانه في فرقة القباني وفي الحياة فارغاً.
فرقة القباني
يبدو الحديث عن الهجرة القبانية وكأنه درس لاستخلاص النتيجة، وكان أبو خليل يرى أن المسرح هو مرآة يجب أن نستخلص منها العبر، أفسر العبرة على هواي، فأنا أريد لها أن تكون أن الأوطان التي تلفظنا لا بد لنا من مغادرتها، وأن النهوض من جديد والعمل المستمر هما سبيلنا الوحيد، لكن دون أن ننسى من رحل. أما العودة فقد جربها أبو خليل وكانت أقسى فصول حياته ونهاية مشروعه الفني والمسرحي ومقتل طموحه. ولكن الدرس الأهم يبقى أن التاريخ أنصف القباني وأعاد له مكانته فيما المجرمون لم تتسعهم إلا مزابل التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com