شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا لا نحذو حذو الإسبان الذين يتصدرون شعوب العالم في التبرع بالأعضاء؟

لماذا لا نحذو حذو الإسبان الذين يتصدرون شعوب العالم في التبرع بالأعضاء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"شعرتُ بأنني أراه ولم أفقده، نظرتُ في عيني بيدرو فرأيتُ كارلوس، سمعتُ خفقان قلب روزا لألمس حضوره معنا". هكذا بدأت ماريّا والدة كارلوس الحديث عن ابنها الراحل الذي راح ضحية حادث دراجة نارية وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة بعد، فشلت محاولاتها في إخفاء حزنها وهي تتحدث عن ابنها الوحيد، لكنها كانت فخورة بأن كارلوس ورغم صغر سنه كان مدركاً لأهمية أن يكون واهباً للأعضاء، واهباً للحياة وهذا الواهب اليافع أنقذ كثيرين بعد رحيله.

كان الحوار غريباً مزيجاً من الحزن والحب والامتنان، حدثتنا عن كارلوس عن شغفه وحبه للحياة، عن أحلامه، لكن أيضاً عن موته ورحيله المفاجئ في حادث، وكيف أنها لم تتقبل موته وهو في ريعان شبابه، وأن قراره بأن يكون مانحاً للأعضاء ساعدها في أن تستوعب بأنه لم يرحل كلياً عن هذه الحياة، وأن قلبه ما زال نابضاً وحياً، وأن طيبة كارلوس وكرمه منحا أربعة أشخاص آخرين فرص حياة جديدة دون ألم، بعيداً عن المعاناة والصراع مع المرض.

وأنا منذُ سنوات تطاردني تلك الرغبة بإعداد تقرير أو وثائقي حول ثقافة وهب الأعضاء التي كنتُ أجهلها قبل انتقالي لإسبانيا، لكن هذه الفكرة لم تلق أي ترحيب من القنوات التلفزيونية التي كنت أتعاون معها حينها. في العام 2017 لمستُ للمرة الاولى جمال هذا العطاء وسمو هذا الفعل الإنساني، إذ كنتُ أصور تقريراً إخبارياً في الأندلس وتعرفت بالصدفة على الطبيب الإسباني "خورخي مارتينيس" الذي فتح عيني على هذا العالم الجميل من العطاء، وشجعني على المضي في هذا الطريق.

وهب الأعضاء يمكن أن ينقذ ليس فقط أفراداً، بل وعائلاتهم أيضاً.

وأنا في الحقيقة لم أفكر يوماً بهذا الموضوع ولم يخطر ببالي، واقتصرت معرفتي به على بعض القصص عن ابن تبرع لأبيه بكليته أو أخت تبرعت لأخيها بجزء من نخاعها الشوكي، وذلك الاستحسان من الناس والمجتمع لشجاعة المتبرع والثناء عليه وكيف أنه أنقذ فرداً من عائلته ويا له من بطل. لكني لم أسمع قط بغريب فعل ذلك لآخر لا يعرفه ولم يلتقِه ولن يلتقيه أبداً.

ذاك الغريب الذي قرر أن يكون واهباً للأعضاء، قد أهدى حياة لكثيرين بعد رحيله، قرار وهب الأعضاء يمكن أن ينقذ ليس فقط أفراداً، بل وعائلاتهم أيضاً، هل لكم أن تتخيلوا ذلك، أن يوضع حد لألم إنسان وألم عائلته معه.

عندما تعمقت في الموضوع أكثر وقابلت أناساً هنا في إسبانيا ممن مُنحوا هذه الفرصة، أدهشتني قدرة البعض على العطاء، وهو في عداد أسمى ما يمكن أن يعطيه المرء، أن يعطي نفساً أجهدها المرض وأتعب روحها الألم فرصة ثانية للحياة، ولا يقتصر الأمر على ذلك، لكن هذا النبل يمكن أن ينتشل عائلة كاملة من الحزن والبؤس.

كانت "روزا ألفاريس" في الثالثة والأربعين عندما شارفت على الموت بسبب اعتلال في عضلة القلب، بعد أن قضت آخر أشهر لها في المشفى أكثر من البيت، لكن قلب كارلوس أنقذها، انتهاء حياة أعلن بدء أخرى لروزا وتمت العملية بنجاح، مُنحت روزا فرصة جديدة لتعيش حياتها بعيدة عن أسرة المستشفيات وعن احتمال الموت المفاجئ بسبب فشل في عضلة قلبها. كانت شاكرة لكارلوس وأمه، شاكرة للحياة، مبتسمة طوال فترة الحديث معنا، تقدر نعمة كل ثانية إضافية مُنحت لها على هذه الأرض، ولامتنانها وإيمانها تعمل رزوا مع ماريّا والدة كارلوس ومنذ سنوات على نشر ثقافة التبرع بالأعضاء وأهميتها، من خلال ندوات متنقلة لمختلف الجماهير الإسبانية.

وهنا في إسبانيا هذا البلد الجميل الواقع جنوب غربي أوروبا والذي عادة ما يربطه العرب فقط بالأندلس وكرة القدم ومصارعة الثيران، ما زال يتصدر قائمة دول العالم التي يتبرع سكانها بالأعضاء، وللسنة الحادية والثلاثين على التوالي بحسب إحصائيات وزارة الصحة الإسبانية فقد بلغ معدل الزرع 46.3 متبرعاً و113 عملية زرع لكل مليون نسمة ومتوسط يومي 7 متبرعين و 15 عملية زرع، في بلد يبلغ عدد سكانه قرابة 47 مليوناً.

يستمر الإسبان بمنح أعضائهم، وإجراءات التبرع هنا سهلة للمواطنين من خلال نيل بطاقة هوية يحملها المتبرع دائمًا معه.

لماذا لا نعمل على حملات توعوية للتشجيع على وهب الأعضاء؟

استمرار تربع إسبانيا على عرش الدول من حيث تبرع سكانها بالأعضاء على مستوى العالم، دعاني للتساؤل لماذا لا نتبرع نحن أيضاً بالأعضاء في دولنا، رغم أننّا ندعي صفة الكرم لكننا لا نتبرع بأعضائنا، لماذا لا نحذو حذو إسبانيا؟ لماذا لا نعمل على حملات توعوية للتشجيع على وهب الأعضاء؟ ما الذي ينقصنا؟

قابلتُ عدداً من الشابات والشباب العرب المقيمين في إسبانيا وسألتهم عن رأيهم في أن يكونوا واهبين للأعضاء.

محمد شاب من أصل سوري، قال: "حتماً لا أفكر بذلك، لأنني أخاف أن يكون حراماً شرعاً"، أما وفاء من المغرب فقالت إنها لا تمانع ذلك، لكنها لم تفكر فيه من قبل، وهبة من لبنان أخافها السؤال، وقالت إنها لا تحب التفكير بالموت. ثائر من فلسطين أجاب بأنه يرحب بالفكرة، لما فيها من منفعة على الآخرين وأن الدين لا يمنع ذلك، أما هدى من المغرب فقالت إنها لا تفضل ذلك في حال كانت هناك حياة بعد الموت، فكيف ستعود بدون أعضاء.

 "حتماً لا أفكر بذلك، لأنني أخاف أن يكون حراماً شرعاً". محمد، سوري في إسبانيا 

رغم أن الديانات لا تحرم التبرع بالأعضاء إلا أن كثيرين أشاروا عند سؤالهم بتخوفهم من حرمة هذا الفعل، ويبدو أن كثيراً من الجهل يحيط بهذا الموضوع، لهذا لجأت لسؤال رجال الدين لبيان رأي الدين في ذلك، وقد سألتُ كثيرين من العلماء في إسبانيا أغلبهم اعتذروا عن المشاركة، وآخرون لم يفضلوا الحديث في هذه المسالة، لكن الأستاذ الباحث "مصطفى الرحموني" المرشد الديني في قنصلية المملكة المغربية بمدريد وعضو المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة تعاون في الإجابة عن شرعية التبرع بالأعضاء كالآتي:

"التبرع بالأعضاء في حياة الإنسان يجوز على الأعضاء التي لا تحدث ضرراً للمتبرع وبعد الممات، فكل ما أثبت العلم أنه يمكن أن يستفيد منه الحي، وقد علمتنا الحياة بين غير المسلمين أن كثيراً من المسلمين استفادوا من أعضاء غيرهم وما نقبله لنا نقبله لغيرنا، وهذا يصب في تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان. لذلك تم إصدار قانون تعمل به وزارة العدل بفتح نافذة لتسجيل الراغبين في التبرع بالأعضاء. فموضوع التبرع بالأعضاء أشبعه أهل العلم بحثاً، خصوصاً العلماء المغاربة ويكاد يكون هناك إجماع على جواز ذلك. يبقى أن لكل أمة أو دولة خصوصياتها في التعامل مع هذا الموضوع إنسانياً وأخلاقياً واجتماعياً. فالمسألة إنسانية بالدرجة الأولى".

في نفس السياق سألنا الأب خوسيه مانويل نافارا من كنيسة ماريا دي لا كابيثا في مدريد، عن رأي الدين المسيحي فقال:" إن الرب لا يحرّم منفعة، وإن أتباع الكنيسة في ثمانينيات القرن الماضي كانوا يعتقدون بحرمة الموضوع، واستغرق الأمر سنوات لتغير طريقة تفكير الكنيسة والمجتمع، اللذين عملا معاً فيما بعد للتشجيع على هذه المبادرة الهادفة.". ودعا الناس حول العالم التفكير في هذا العطاء لما فيه من خير للإنسانية جمعاء.

"علمتنا الحياة بين غير المسلمين أن كثيراً من المسلمين استفادوا من أعضاء غيرهم وما نقبله لنا نقبله لغيرنا". مصطفى الرحموني المرشد الديني في قنصلية المملكة المغربية بمدريد

من الناحية الطبية شارك الدكتور "رمّاح نوفل"، الطبيب المقيم في إسبانيا، رأيه الطبي: " نسبة الأشخاص المحتاجين لزراعة الأعضاء تفوق أضعافاً مضاعفة الأشخاص المتبرعين بها. وهناك نوعان من التبرع، التبرع من الأحياء ولا بد أن يتمتع المتبرع بصحة جيدة وأن يكون خالياً من الأمراض المزمنة، ويتم التبرع بعضو من الأعضاء المزدوجة مثل الكلى أو الرئة أو جزء من الكبد أو التبرع بالأعضاء من بعد الوفاة، ويعرف بالموت الدماغي أي أنّه لا أمل بإرجاع إحياء الخلايا الدماغية بعد موتها، وهنا يتم التبرع بأعضاء فردية مثل القلب والبنكرياس وباقي الأعضاء مثل النخاع الشوكي والقرنية والأمعاء الدقيقة وغيرها. التبرع بالأعضاء قد يكون سبباً بإحياء شخص آخر أو

" نسبة الأشخاص المحتاجين لزراعة الأعضاء تفوق أضعافاً الأشخاص المتبرعين بها".  رمّاح نوفل، طبيب مقيم في إسبانيا

تخفيف آلام مريض، مثل مرضى غسيل الكلى الذين يعانون بشكل دائم طيلة فترة المرض هم ومن يرافقهم في هذه الرحلة العلاجية الشاقة، يجب ألا نبخل على أنفسنا من هذا الفعل الحسن، لماذا لا نتبرع في دولنا بالأعضاء بعد الموت؟ فهذا ينقذ الكثير من الناس الذين في مساعدتهم نكون سبباً لسعادة عائلة كاملة وفيه مصلحة للمجتمع أجمع. وتجب الإشارة إلى أن عمليات الزرع ونقل الأعضاء من بعد الوفاة تكون من خلال عملية جراحية لا تختلف عن العمليات الجراحية للمرضى الأحياء من حيث الدقة، ولا يحصل هناك تمثيل ولا تشويه لجسد المتبرع. وأخيراً يجب علينا أن ننبه للشرط الأخلاقي الأهم للتبرع بألا يكون مقابل أي مبلغ مادي أو أي مقابل آخر".

وهب الأعضاء هو ثقافة غير شائعة في مجتمعاتنا ينبغي العمل عليها بشكل معمق من خلال القطاعات المختلفة كالإعلام والتعليم. فمنافع وهب الأعضاء ستمنع الاتجار بالأعضاء وسرقتها، وستنقذ أرواحاً أشقاها المرض. التشجيع على التبرع بالأعضاء يجب أن يتم بالتوازي مع تمكين الطواقم المتخصصة في هذا الشأن بالتجهيزات الطبية اللازمة، وإلغاء المحسوبية والواسطة في لوائح المستفيدين من وهب الأعضاء.

بالتبرع بالأعضاء يمكننا أن نصبح إنسانيين أكثر وأن نمارس كرمنا بشكل آخر ليس مقتصراً على موائد الطعام فحسب


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image