شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أغطية الرأس... من رموز للإذعان السياسي إلى الإكراه الاجتماعي

أغطية الرأس... من رموز للإذعان السياسي إلى الإكراه الاجتماعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 11 مايو 202302:29 م

في عصور الرفاهية وفي فترات اليأس تُستدعى سفاسف الأمور، أو تُفتعل كتحديات مصيرية. التفاهات فقه الضرورات الوهمية. ويمكن الاستدلال على طبيعة زمن، بأسئلته وعقلائه وحمقاه، من رصيده من القضايا المثارة. لا أقترب الآن، بعنوان "أغطية الرأس"، من حكم شرعي، ولا أناقش فقهاً بشرياً عن مسألة ذات ظلال دينية وتقاليد مجتمعية.

فعلت ذلك مرتين، وكفى. كان البال رائقاً، والمناهدة محتملة. كتبت في صحيفة "العرب" اللندنية مقالين. الأول "الحجاب الفريضة التي اكتشف الكثيرون أنها كانت غائبة"، في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2020. وبعد أسبوع نشرتُ مقالاً عنوانه "أتتزوج متبرجة؟ سؤال العصر الرهيب". وقد "هرمنا" ولا تحتمل المرارة إلا الاكتفاء بوصف جانب من الإكراهات الاجتماعية.

قد تفرض السلطة زيّاً، المملكة السعودية وتركيا أتاتورك مثلاً. يذعن الناس، ويراهنون على تغيّر تفكير جهاز الحكم أو زوال السلطة نفسها؛ فتتاح حرية الاختيار. السلطة السياسية أهون من استبداد مجتمعي يصعب تحدّيه، والتخلص من آثاره. كانت العمامة، مع الشارب والذقن، رمزاً اجتماعياً لهيبة الرجولة، حتى صعود الطربوش.

سلطة المجتمع قاهرة، تلاحق المختلفين والمخالفين للأعراف باستياءات واتهامات يصعب تحملها. قالب صلد يسِم الداخل، ويلعن الخارج

السلطة توحي إلى المجتمع، بمرور الوقت، بتبني إكراهاتها. طفل أربعينيات القرن العشرين، بطل رواية "التلصّص" لصنع الله إبراهيم، يذكر قول أبيه إن ابن عمه يخرج في الصيف "من غير طربوش فيبدو كالعلوق"، يعني ناقصي الرجولة. ثم ألغي الطربوش بقرار ثوري، فاستراحت منه الرؤوس، واختفت مهنة "الطرابيشي"، وبحث صانعو الطرابيش وكوّاؤوها عن مهنة أخرى.

استمر في القرى المصرية، حتى نهاية الستينيات، إكراه ريفي يفرض على الذكور ستر الرؤوس، ولو بطاقية من الصوف. بحكم الاعتياد، لم يضق بذلك كبار السن. وتمرد شبان تأثراً بالخروج إلى آفاق مدينية، التحاقاً بالجيش أو عملاً بالمصانع، ثم كانت الهجرات الكبرى إلى ليبيا والخليج والعراق. كان أهل العروس يرفضون خطيباً لابنتهم؛ لأنه "عاري الرأس"، ويرون سلوكه يعيب الرجال، "فيبدو كالعلوق".

تغيرت عادات في الريف، وتبدلت قيم، ويكاد الجلباب البلدي يلحق بالطاقية ويختفي، كما اختفت طرحة النساء تقريباً. الطاقية للرجل، والطرحة للمرأة، كانت رموزاً اجتماعية وليست دينية، يستوي فيها الأغنياء والفقراء، المسلمون والمسيحيون. توجد فروق طبقية ترتبط بجودة الرمز، ونوعية الخامة.

متى تُرتدى الطرحة؟ لم يُطرح السؤال. ولم تكن الإجابة من اختصاص الفقه، ولا علاقة لها بوعاظ متشنجين مهمتهم الآن إقناع المسلمين بوجود الله. الإجابة عرفٌ اجتماعي متوارث، يفرّق بين الآنسة والسيدة بارتداء الطرحة، مباشرة بعد الزواج. قبله تغطي الفتاة شعرها بإيشارب أو "شُقّة". رمزٌ دالٌّ على الحالة الاجتماعية، يغطي الرأس وتتحرر منه ضفائر مسدلة. يستمر ذلك حتى الزواج، في سن الخامسة عشرة أو الثلاثين. بالزواج تنتقل الفتاة إلى طبقة السيدات، والسيدة ترتدي طرحة ترمز إلى حالة اجتماعية. النحر المحلِّي في القيم، توازى مع سنوات استلاب في الحجاز لمصريات عاملات وزوجات عاملين. عدن بالنقاب السعودي. تقليد لسادة جدد، يذكرنا بتقليد سابق.

 السلطة السياسية أهون من استبداد مجتمعي يصعب تحدّيه، والتخلص من آثاره. 

ففي نهايات القرن التاسع عشر حتى ثورة 1919، كانت نساء الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا يقلدن التركيات، ويرتدين النقاب. خضوع طوعي لتقاليد السادة. أما المصريات "الحقيقيات" فكن "شقائق الرجال" في البيوت والغيطان والمصانع الصغيرة. لا يخجلن من كشف الوجوه التي ليست عورة. يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: "لا نجد نصا في الشريعة يوجب الحجاب... وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت من الناس باسم الدين والدين منها براء". مرة أخرى، أعلن ابتعادي عن ألغام الفقه، والالتزام بتقصي الأبعاد الاجتماعية التي ذكرها الأستاذ الإمام. فماذا جرى؟

التأسيس البطيء لذهنية العولمة المضادة استغرق زمناً. في سيرته "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر 1970 ـ 1984"، تحرير الراحل حسام تمام رحمه الله، يسجل عبد المنعم أبو الفتوح ضيق الإخوان بالمختلفين معهم، "وهو ما غرس داخلنا بذور الإرهاب الفكري لكل من كان يختلف معنا... كان ضيق الأفق وعدم القبول بالاختلاف أو التسامح مع المختلفين يجعلنا نمارس إرهاباً فكرياً ليس بحق خصومنا الإيديولوجيين فحسب؛ بل بحق أساتذتنا ومشايخنا الذين علمونا وأخذوا بأيدينا". بعد دعوة الطلبة إلى ارتداء الجلباب، والخمار المسدل للطالبات، "أصبحنا أكثر تطرفا بالدعوة لارتداء النقاب، وألا يُظهر منها شيئاً مطلقاً!! وانتشر النقاب بشكل كبير منذ بداية 1975".

يضيف: "تصورنا أن الحجاب والنقاب والجلباب بهذه الأشكال المحددة هي فقط التي يجيزها الإسلام وأيّ زيّ دونه فهو مخالف!... وكنا نبيع الزي للطالبات بستة جنيهات ثم ارتفع إلى تسعة جنيهات". ذِكر الثمن، وتذكُّر ارتفاعه، مفتاح مهم لفهم كيفية تحوّل الزيّ، من رمز إلى تجارة. تبدأ التجربة بدافع الفضول أو الحماسة الدينية، ثم تصير ركنا لا يمكن التخلي عنه. إطلاق شخص للحيته، مثلاً، ربما يبدأ بدافع الحرج من واعظ سلفي. وبعد فترة يخجل الملتحي من التخلي عنها. الإطلاق خجل، والاستمرار خجل. كذلك "الزيّ" الذي ذكره أبو الفتوح. بمضيّ الوقت يدخل المصطلح ضمن نسيج الخطاب العام، ويصير الإسدال كالوضوء شرطاً لصحة الصلاة.

لنعد إلى الوراء قرنا أو بعض قرن. لنتخيّل ثياب المرأة المصرية وهي تصلي، في البيت أو في الغيط الذي قد تقضي فيها نهارها كله. ذلك زمن بريء من استثمار العبادة في تجارة سلفية ربطت الصلاة بارتداء الإسدال، أو على الأقل بخمار يستر المستور. يحق لمن تشاء أن ترتدي ما تشاء، لكن وجود هذا وذاك تترجمه أفكار سلفية إلى بيزنس. تُرسّخ هذا المفهوم خطبُ وعاظ وواعظات في الفضائيات. بالإلحاح حددواً "زيّ الصلاة"، ثم جعلوه ركناً ثانياً في الإسلام. ميكروفون الجامع ينافس أيضاً، بالقوة نفسها، على مكانة الركن الثاني في الإسلام. صار مستحيلاً الحلم بمسجد، أو زاوية مساحتها بضعة أمتار، بلا ميكروفون.

في إيران تتمسك السلطة بالرمز. سألت مخرجة إيرانية، بعد عرض فيلمها في مهرجان بنيودلهي: كيف تعيشين في بلادك؟ رفعت الشال عن كتفيها، وغطت به بعض شعرها، وقالت: "هكذا"

سلطة المجتمع قاهرة، تلاحق المختلفين والمخالفين للأعراف باستياءات واتهامات يصعب تحملها. قالب صلد يسِم الداخل، ويلعن الخارج. تكفي مقارنة صورتين، في ستينيات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، لممرضات في مستشفى، أو لطالبات ومدرسات في مدرسة أو جامعة. الثياب لم تحسّن الأداء المهني ولا الأخلاق. وفي المدى القريب، لا أفق لخروج من التقليد المجتمعي المصري لأعراف سعودية تخلت عنها السعودية. كانت المرأة ترتدي النقاب، رمزاً للمواطنة السعودية، وتمنعه عن خادمتها المسلمة. النقاب علامة طبقية، وصار خارج المملكة من أركان الدين. إكراه السلطة لمواطنيها، وللزائرين، على شيء يفتح باب الأمل للخلاص إذا رفعت السلطة يدها، أو جاءت سلطة لاحقة أقل تشدداً.

غيرت السلطة نوع العلامة وطبيعة الرموز؛ فخرس وعّاظ حرّموا على المرأة قيادة السيارة. قال ابن باز: "الدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخصّ الرجال أمرٌ خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا".

ذلك ماضٍ. تصبح الحداثة مشروع دولة؛ فيبتلعون ألسنتهم. وفي إيران تتمسك السلطة بالرمز. سألت مخرجة إيرانية، بعد عرض فيلمها في مهرجان بنيودلهي: كيف تعيشين في بلادك؟ رفعت الشال عن كتفيها، وغطت به بعض شعرها، وقالت: "هكذا". يُرضي الملالي رمز يغطي مؤخرة الرأس. لكن الرياء الاجتماعي، المتصالح مع موبقات كالتحرش والفساد الوظيفي، مستنفر للجهاد في سبيل رمز يراه ركن الإسلام الثاني. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard