قبل مئات السنين، نظر الملك الفرنسي لويس التاسع إلى المسيحيين في لبنان كجزء من "فرنسا"، فساعدهم وعاونهم وأرسل إليهم الهدايا، والأهم، أنه تعهّد بحمايتهم في رسالة واضحة وصريحة مؤرخة في أيار/ مايو من العام 1250، قال فيها: "نحن مقتنعون بأن هذه الأمة التي تُعرف باسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية".
منذ العام 1500، بدأت فرنسا تحصل على امتيازات في لبنان، وتبني علاقات مميزةً جداً مع المسيحيين. وبحسب كتاب صدر في باريس عن دار نشر "لارماتان" للكاتب ميشال شهدان خليفة، بعنوان "فرنسا ولبنان 1920-2020 مائة عام من التضامن"، فإن "علاقة فرنسا بلبنان بدأت تترسخ منذ حصول باريس على 'نظام الامتيازات' من الإمبراطورية العثمانية، حيث عمد الملك لويس الرابع عشر إلى تعيين لبنانيين مسيحيين موارنة من أسرة آل الخازن، قناصل له لدى لبنان، بهدف تشجيع المبادلات التجارية بين بلاده والإمبراطورية العثمانية، مما أدى في ما بعد إلى توثيق الروابط بشكل كبير بين مسيحيي لبنان وفرنسا".
تتبنّى باريس لتسوية رئاسية في لبنان لإنهاء الفراغ الرئاسي، تؤدي إلى انتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية
من "أمّ حنون" إلى حليفة لحزب الله
طوال المرحلة الماضية، اشتهرت فرنسا في لبنان بكونها "الأم الحنون"، للمسيحيين تحديداً، وكانت لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى بيروت بعد انفجار المرفأ عام 2020، معانٍ وجدانية كبيرة في قلوب المسيحيين، خاصةً أن المنطقة الأكثر تضرراً من الانفجار كانت مسيحية الطابع.
وكان رصيف22، قد خصص تقريراً فنّد فيه سياق العلاقة، تاريخياً بين فرنسا ولبنان وتحولاتها البارزة خلال محطات بارزة عدة.
لكن مع دخول فرنسا على خط الملفات السياسية الداخلية بشكل مفصّل، بعد غياب دام سنوات طويلةً، نتيجةً لتغيّر موازين القوى اللبنانية، وتبنّي باريس لتسوية رئاسية في لبنان لإنهاء الفراغ الرئاسي، تؤدي إلى انتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، حليف حزب الله وسوريا، رئيساً للجمهورية، بدأت علاقة القوى المسيحية مع فرنسا تتبدّل، خاصةً تلك الرافضة لوصول فرنجية.
ساءت العلاقة سريعاً حتى انفجرت قبل أيام، مع تصريح رئيس حزب القوات اللبنانية (أحد أكبر الأحزاب المسيحية في لبنان)، سمير جعجع، الذي قال بشكل مباشر: "هناك صفقة مصالح اقتصادية بين فرنسا وحزب الله تبدأ بالنفط والغاز والمرافق والمرافئ العامة في طرابلس وبيروت وما بينهما، وفرنسا تؤيد مرشح الحزب حالياً للتمكن من الحصول على ذلك".
انتقاد فرنسا توسّع بشكل كبير من قبل الأحزاب المسيحية اللبنانية، فقبل تصريح جعجع بيومين زار رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، باريس، للتباحث في الملف الرئاسي اللبناني، وبعد أن سمع كلاماً واضحاً منها عن دعم فرنجية، قال في تصريح: "أتمنى ألا يتم تسليم لبنان إلى سوريا وإيران وحزب الله، ونحن نعتبر أن لبنان بحاجة إلى فرنسا كي تكون داعمةً لقراره الحر، ورافضةً لأي إملاءات على اللبنانيين، وهم لا يستطيعون أن يفرضوا علينا مرشحين".
لم يتوقف الهجوم على فرنسا على تصاريح سياسية، ففي 27 نيسان/ أبريل الجاري، كان لأهالي ضحايا انفجار المرفأ كلام جديد جاء على لسان وليام نون، شقيق جو نون الذي قُتل في انفجار 4 آب/ أغسطس، قال فيه: "الدولة الفرنسية تُعرقل التحقيق الدولي في قضية المرفأ، والرئيس الفرنسي كاذب وقوي بالبروباغندا فقط، وهو يسير مع حزب الله في هذا الملف".
هكذا تحولت فرنسا بعيون أحزاب مسيحية كبرى، من "أمّ حنون" للمسيحيين إلى حليف قريب لحزب الله.
فرنسا اختارت... ولن نبدّل قناعاتنا
لا يرى المحامي ورئيس الجامعة الشعبية في جهاز التنشئة السياسية في القوات اللبنانية، طوني نون، أن المسيحيين غيّروا نظرتهم إلى فرنسا، "بل باريس هي من قررت السير عكس الخط السياسي السيادي الذي تمثله القوات اللبنانية وتعمل لأجله منذ بداية تأسيسها"، مشيراً في حديثه لرصيف22، إلى أن فرنسا ليست ضدّ المسيحيين إنما ضد الخط السياسي الذي نمثله.
فرنسا تتكلم عن الديمقراطيات والحريات وسيادة الدول، وتعمل ضدها، لذلك هي تعمل ضد قناعاتها وتضع يدها بيد حزب الله، وكل ذلك بسبب مصالحها الاقتصادية
ويضيف: "مشكلة التيار الوطني الحر مع فرنسا ليست كمشكلتنا معها، فهو يعاديها لأنها لم تختَر رئيس التيار جبران باسيل مرشحاً للرئاسة، تماماً مثل مشكلة التيار مع حزب الله الذي اختار فرنجية ولم يختَر باسيل. إنما مشكلتنا كقوات لبنانية مع فرنسا هي دعمها للخط الذي أوصل البلد إلى الدمار والفوضى والخراب، والمضي في هذا الخيار سوف يؤدي إلى مزيد من الدمار أيضاً".
بالنسبة لنون، "فرنسا تتكلم عن الديمقراطيات والحريات وسيادة الدول، وتعمل ضدها، لذلك هي تعمل ضد قناعاتها لا قناعاتنا وحسب، وكل ذلك بسبب مصالحها الاقتصادية التي تقتضي أن تدعم الخط المواجه لنا، ومن الطبيعي أن نكون ضدّها، وضد كل من يمشي في الخط المعاكس لخطّنا الواضح الذي يريد بناء دولة حرة سيدة ومستقلة"، مشدداً على أن القوات اللبنانية لا تدخل في التسويات على حساب قناعاتها، ورئيسها سمير جعجع دخل السجن دفاعاً عن هذه القناعات.
ويقول: "القوات تبني تفاهمات سياسيةً في حال كانت تخدم رؤيتها الإستراتيجية، مثلما فعلت عام 2016 مع التيار الوطني الحر الذي أخلّ بالتفاهم الذي كان ينص على ضرورة تصحيح الخلل في التمثيل المسيحي في الدولة، والعمل على توحيد السلاح في لبنان، وحلّ مسألة الإستراتيجية الدفاعية"، مشيراً إلى أن عودة فرنسا إلى خطها التاريخي، سبيل إنهاء الخلاف.
ويكثُر الحديث عن مصالح فرنسية تسعى الإدارة في باريس إلى تحقيقها، برزت بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، حتى اتُهمت فرنسا بالتحالف مع حزب الله لتحقيق هذه المصالح.
المصلحة الفرنسية في قطاع النفط والغاز اللبناني مؤكدة من خلال الدور الكبير الذي تلعبه شركة "توتال" في التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، حيث يُفترض أن تطلق الشركة عمليات الحفر مطلع الخريف المقبل، كذلك مصلحتها في مرفأ بيروت، والتي تحققت في شباط/ فبراير من العام 2022، من خلال مجموعة الشحن الفرنسية "سي. إم. أ. سي. جي. إم"، التي حصلت على عقد إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت لمدة عشر سنوات، مع الإشارة إلى أن هذه المجموعة تمتلكها عائلة سعادة اللبنانية الفرنسية.
كذلك كادت الشركة نفسها تحصل على قطاع البريد في لبنان، لكن تدخل الهيئات الرقابية أعاد الملف إلى نقطة البداية، ولم يُعرف ما إذا كانت الشركة الفرنسية ستشارك من جديد في مناقصة هذا القطاع أم لا، عدا عن الأخبار التي تتحدث عن مصالح فرنسا في قطاع المصارف، الكهرباء والطاقة المتجددة، النقل العام، والمطار وغيرها.
علاقة لم تكن دائماً عسلاً
كانت فرنسا الراعية لنظام القائمقاميتين، ونظام المتصرفية في لبنان، ثم انتقلت إلى دور الانتداب مع إعلان دولة لبنان الكبير
"لا يؤيد حزب الكتائب التحدث باسم طائفة ولا مذهب، خاصةً في مقاربة العلاقة مع فرنسا، فهذه العلاقة كأي علاقة مع دولة أخرى، تنطلق من المصالح"، يقول المسؤول الإعلامي في حزب الكتائب اللبنانية باتريك ريشا.
يعود ريشا بالتاريخ إلى القرن التاسع عشر، يوم كانت فرنسا حاميةً للمسيحيين، لكنه يُذكّر بأن دور فرنسا كان يتغير مع تغير الظروف والتاريخ، وفي التاريخ الحديث كانت الراعية لنظام القائمقاميتين، ونظام المتصرفية في لبنان، ثم انتقلت إلى دور الانتداب مع إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، من دون أن يخفى دورها في تأسيس مؤسسات الدولة، والهيئات الرقابية وغيرها، كما لا يجب أن ننسى، بحسب المسؤول الحزبي، أن حزب الكتائب قبل تأسيسه عام 1943، عندما كان عناصره قوميين لبنانيين، كان يناضل لأجل تحرير لبنان واستقلاله عن الفرنسيين تحديداً.
يؤكد ريشا، لرصيف22، أن "العلاقة مع فرنسا لم تكن دائماً علاقة حب وغزل وعسل مع لبنان، وما نعيشه اليوم مرحلة جديدة من العلاقة"، ويضيف: "نظامهم في السابق كان متردداً في دعم القضية اللبنانية ودعم الأحزاب المسيحية، حتى في فترة التسعينيات وبداية الألفية الثانية، كان الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك داعماً لرفيق الحريري، في الوقت الذي كانت فيه القيادات المسيحية في المنفى والسجن، وكان هناك إقصاء للدور المسيحي وتسليم للبنان إلى الوصاية والاحتلال السوري في تلك الفترة، وأيضاً برعاية دولية، وفرنسا كانت موافقةً على هذا الموضوع".
ويضيف: "بعد انسحاب الجيش السوري ودعم المسار السياسي للاستقلال في لبنان، عادت فرنسا لتكون حليفةً أساسيةً للقوى السيادية، التي تقهقرت بعض الشيء جرّاء كل الأحداث الدموية التي حصلت بعد العام 2005، وطبعاً المجتمع الدولي وفرنسا يطمحان إلى التكلّم مع أناس قادرين على التأثير في قرار لبنان، وفي ظروفنا الحالية ربما استنتجت فرنسا أن لا حل إلا كما يريد حزب الله".
ويشير إلى "زيارة رئيس الحزب سامي الجميل إلى باريس أكثر من مرة، بهدف توضيح الموقف من المقاربة الفرنسية، برغم أن فرنسا لديها رؤيتها ومصالحها، لكن كل هذا يبقى وجهة نظر إذا لم يكن هناك لاعبون أساسيون في لبنان لتغطية أي قرار، والقوى المعارضة في لبنان ما زالت صامدةً ولهذا لم يحصل أي خرق في أي جبهة بموضوع الرئاسة".
في حال استمرت فرنسا في مقاربتها هذه، فهي تكون بحسب ريشا، "مقاربةً مغلوطةً وسنبقى نقول لها إنك على خطأ في عملك وسنتواصل دائماً مع أي أحد لديه مسعى يتلاقى مع وجهة نظرنا في الملفات السيادية التي نحملها".
يشدد ريشا، ختاماً، على أن "الحديث عن فرنسا ككل يمكن ألا يكون دقيقاً، فعلينا أن نميّز اليوم بين العهد الذي يأتي ومعه مشروعه ونظرته إلى المصالح، والدولة العميقة المتمثلة في الدبلوماسية التقليدية وفي وزارة الخارجية والأجهزة التي تُعنى بالأمور الخارجية مثلاً في فرنسا"، ملمحاً إلى وجود تباين في وجهات النظر بين الرئاسة الفرنسية ووزارة الخارجية، وهذا ما يجعل من الصعوبة الحديث عن دولة كفرنسا لديها عراقة في الحرية والديمقراطية كـ"بلوك" واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...