شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نحتاج إلى أن

نحتاج إلى أن "يعترف الله بوجودنا"… في "أطباق المشمش"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 أبريل 202311:22 ص

في أحد أيامنا الكالحة، وكي يعيدونا إلى السجن من إحدى الجلسات الخلّبية لتلك المهزلة التي كان اسمها "محكمة أمن الدولة العليا" في دمشق، جمعوا كل اثنين منّا بقيد واحد، يمنى واحدنا إلى يسرى الآخر. وقد قُيّدت يسراي إلى يمنى الصديق الروائي عزيز تبسي، صاحب "أطباق المشمش" (صدرت عن دار الخيال عام 2022).

حين انتهينا من هبوط الدرج، يحيط بنا عناصر الأمن السياسي، كانت الصبية التي ربطني بها حب وعهد من وراء القضبان، تنتظر في الشارع. سمح لها رئيس المفرزة، مقابل وعد مني بهدايا من أشغال السجن، بأن تقترب. احتضنتها بيدي الحرّة، وكانت تلك هي الملامسة الأولى والأخيرة بيننا. أربكتني تلك الثواني، وأربكت أيضاً عزيز الذي أرخى يمناه بقدر ما يستطيع كي يريح حركتي. بدا التأثر على عزيز. وبرغم الاضطراب الذي كنت فيه، لا أزال أذكر نظرته إليّ عقب ذلك في سيارة الشرطة المخصصة لنقل المساجين، وقوله: "هادا فيلم سينما كامل".

في "أطباق المشمش"، نحن أمام قطعة قماشية محاكة بقطب ناعمة لكي توصل لنا بأمانة عين نبيهة، مقطعاً حياً من التاريخ الاجتماعي والسياسي لبلادنا في إحدى لحظات انكسارها الكثيرة 

خطرت ببالي عبارة عزيز تلك وأنا أقرأ روايته المشبعة بالسينما، حتى لتبدو كأنها كتابة بصرية. لنقرأ هذا المشهد ونلاحظ كيف يحيل عزيز اللغة إلى كاميرا فيديو: "تبعناها أنا وأمي إلى غرفة المعيشة، وضعت حقيبتها ومصنف أوراق على الطاولة، ومضت إلى المطبخ، غسلت وجهها، وعادت تحمل زجاجة مياه باردة ومنشفةً، شربت وجففت وجهها وجبينها، وانحنت على حذائها فكت سيوره، أزاحته بقدمها إلى تحت الديوانة، وبقيت حافيةً".

كتابة سخية بالتفاصيل، كأن الكاتب يحاول أن يقحم القراء معه في المشهد المتخيل، أن يجعلهم جزءاً من المشهد. وفي ثنايا السرد تمرّ ألوان وطعوم وروائح التحولات والصراعات العميقة والسطحية، وتتجلى الصورة أكثر من خلال التفاصيل التي تبدو متناثرةً بعفوية، في حين أن تناثرها هذا يتكامل شيئاً فشيئاً في لوحة دالّة ومحملة بالمعنى، تماماً كشغل "الكنويشة" أو الخرز الذي تتكامل فيه الغرزات الناعمة لتصير لوحةً. اللوحة كامنة في التفاصيل وتحتاج إلى يد موهوبة لإكمالها من أجل استخراج الصورة.


بالفعل، في "أطباق المشمش"، نحن أمام قطعة قماشية محاكة بقطب ناعمة لكي توصل لنا بأمانة عين نبيهة، مقطعاً حياً من التاريخ الاجتماعي والسياسي لبلادنا في إحدى لحظات انكسارها الكثيرة التي جعلت "جلال"، الأخ الأكبر للراوي "هشام"، يقول في أحد الحوارات: "المسألة الآن لا أن نعترف بوجود الله، بل أن يعترف الله بوجودنا".

كما في السينما أيضاً، في لحظات من الرواية، يترك الكاتب التفاصيل ويلقي نظرةً إجماليةً على موضوعه كي يعطي صورةً شاملةً عنه، فيلخص الجهة العامة للتحولات الجارية، إنها "مرحلة استبدال لأسماء العائلات"، استبدال العمارات والقصور القديمة بمراكز للحزب وأجهزة السلطة، أو إحالتها بـ"السلبطة" إلى أصحاب السلطة الجديدة.

يتحول الشاب الذي كان يكتب الشعر ويعشق شعر نزار قباني، إلى شاب يعتقد أنه يفعل خيراً حين يقتل في الشارع موظفاً في طريقه إلى بيته. يتعامل الناس مع هذا الاغتيال ببرود: "حدّثته عن الاغتيال الذي وقع أمامي، لم يظهر اهتماماً، اكتفى بـ'الله يرحمه'، كأن ما حصل أمر اعتيادي". من مركز تصحيح أوراق الامتحانات، يُعتقل "ميخائيل"، أستاذ اللغة الإنكليزية اليساري الذي "لا يتوقف عن القراءة والتعليق على الكتب والأفكار الواردة فيها، كما على الوقائع السياسية المستجدة".

رواية تتكئ على جودة السرد وغناه، ولا تتكئ على حبكة تشدّ القارئ وتشوّقه فتطغى ملاحقة الحدث على ما عداه من فن روائي.

يخاف عمران أن ينام في بيته خوفاً من الاعتقال، فيلتجئ إلى بيت هشام كي ينام بضعة أيام، ثم ينتهي أمره بالاعتقال. أستاذ ابتدائي يصل بالفساد والاستزلام إلى منصب رفيع، يأتي بموكب ومرافقة تحت نظر أبناء الحي، كي يقضي بعض الوقت في شقة "صاحبته" التي كانت تنتظر الموكب، وهي تراقب الشارع من على البلكون. يجد الناس أنفسهم "أمام أحد خيارين، أو عقوبتين تتناسخان من بعضهما: عبد الحميد السراج أو عبد الحميد كشك... لم يكتفِ التنافس على المزاودة بالإسلام، بتسميم حياتنا السياسية بل انتقل لتسميم حياتنا كلها". دوريات تطلب الهويات من المارة، ويُعتقل "هشام" لأنه خرج إلى الشارع ونسي أن ينقل هويته إلى الثوب الجديد الذي ارتداه قبل خروجه. هكذا نجد أنفسنا ضائعين في متاهة ونحتاج حقاً إلى أن "يعترف الله بوجودنا".

رواية تتكئ على جودة السرد وغناه، ولا تتكئ على حبكة تشدّ القارئ وتشوّقه فتطغى ملاحقة الحدث على ما عداه من فن روائي. تكثر في الرواية مشاهد المتع اليومية الصغيرة، مثل وجبات الطعام أو إعداد القهوة وشربها مع أنواع من الفواكه المجففة والحلويات التي لا يبخل الكاتب في وصف نكهاتها، كما لو أن الكاتب يريد أن يلطّف التوتر الذي يبثه السرد في دم القارئ، لمجرد أنه سرد يتناول تفاصيل حياة مدينة سورية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فكيف إذا كانت هذه المدينة هي حلب التي شهدت أحداثاً مروعةً في تلك الفترة من الزمن، لم تكن، للأسف، سوى بروفة لما ستشهده بعد ثلاثة عقود على يد النظام السياسي نفسه!

بالفعل، يأخذ القارئ نفساً حين يُدخل الراوي في السرد، "استراحات" مثل كيف تذهب الأم أو الراوي نفسه إلى المطبخ لإعداد القهوة، وكيف يعود من أعدّ القهوة إلى الشرفة أو إلى الصالون وهو يحمل صينية الفناجين. هذا الأسلوب الممتع الذي يكسر جفاف المضمون وقسوته، بتفاصيل المتع اليومية الصغيرة، أو بتفاصيل الحياة اليومية "التافهة"، يعيد إلى الذهن، أسلوب الكاتب المصري صنع الله إبراهيم.

في مساحات غير قليلة من الرواية، يترك الكاتب السرد السينمائي ليعرض أفكاراً نقديةً عن تاريخ بلدنا السياسي والاقتصادي وعن الرأسمالية والثورة وعن الإسلام كما يعرضه سيد قطب في كتابه الشهير "معالم على الطريق"، الذي كان يقرؤه ويعلّق عليه عمران قبل اعتقاله. والحق أن في هذه الرواية القصيرة نسبياً، تأملات فكريةً مهمةً، من دون أن يبدو ذلك متنافراً مع سياق الرواية ومع الحياكة ناعمة القطب التي اختارها الكاتب سبيلاً لصنع لوحته.

ستجد في ثنايا السرد التماعات شعريةً تضيء الروح مثل "بزة عسكرية منشورة على حبل الغسيل ترشح قطرات مائها الثقيلة من عصر عاجز لقماشها السميك، تتدلى كذبيحة"، و"النباتات التي تعيش تحت التراب وتموت فوقه" في الحديث عن الشمندر السكري، و"كلمات جفّت لفرط ساعات نشرها على الحبال الصوتية للتلاميذ"، و"استبدال الواقع بإنتاج ذكريات عنه" في الحديث عن عادة تجفيف الفواكه.

 الرواية خالية من الحبكة، تبدأ بعودة الابن (هشام) من امتحانات التخرج في جامعة دمشق، وتنتهي بذهابه إلى الخدمة الإلزامية، وبينهما تفاصيل حياة قاسية ومتدهورة

لنلاحظ أيضاً هذا الالتقاط السينمائي للحظة تكثّف حياتنا العامة: "أعاد لي البطاقة، طويتها وأعدتها لجيب قميصي وبقيت واقفاً أنتظر الإذن بالانصراف.

- واقف متل المسطول، انقلع".

مشهد يكثّف نمط العلاقة بين السلطة والفرد، بكل ما فيها من استسلام مرعوب من جانب المحكومين، ومن عدوانية واحتقار من جانب أصحاب السلطة الذين "تأخذهم العزة بالإثم".

كما قلنا، الرواية خالية من الحبكة، تبدأ بعودة الابن (هشام) من امتحانات التخرج في جامعة دمشق، وتنتهي بذهابه إلى الخدمة الإلزامية، وبينهما تفاصيل حياة قاسية ومتدهورة، تعجز "أطباق المشمش" عن كسر مرارتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image