مع كل أذان مغرب، وطلقة مدفع رمضاني، اجتمع التونسيون طوال شهر رمضان حول المائدة وأمامهم شاشة التلفاز كجزء أصيل من تقاليد الشهر، حيث تزاحم الأعمال الدرامية طبقَي "البريك" و"الشربة" على موائد إفطارهم.
عرف رمضان في تونس نسب مشاهدة عالية، خاصةً للمسلسلات التونسية التي يقتصر إنتاجها منذ سنوات على هذا الشهر، والتي حققت زخماً واسعاً بمعالجتها قضايا واقعية مثيرة للجدل بالتزامن مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية.
هذا العام، وبرغم قلة الأعمال التي اقتصرت على عملَين دراميَين فقط، هما "الفلوجة" و"الجبل الأحمر"، صاحب عرض الحلقات الأولى جدل شعبي ورسمي واسع.
الفلوجة... دراما الواقع
مسلسل "الفلوجة" الذي عُرض على قناة "الحوار التونسي" الخاصة، هو عمل يتطرق إلى الحياة خلف أسوار المعاهد الوطنية (المدارس الثانوية).
تباينت الآراء حوله منذ بث الحلقة الأولى، بين مؤكد لما تضمنه من انعكاس حقيقي لحياة المراهق التونسي في وسطه العائلي والمدرسي، وطرح قيمي لأزمة التعليم في تونس والهوة الواسعة بين الأولياء وأبنائهم، بالإضافة إلى مواضيع عدة أخرى، وبين من يراه خطراً يستهدف المؤسسة التربوية والعلاقة بين الأستاذ وتلميذه وصورة الأمني.
عبّرت الصحافية نعيمة الشرميطي، في تصريحها لرصيف22، عن امتنانها لدخول المرأة التونسية سباق الدراما الرمضانية من خلال المخرجة سوسن الجمني، ورأت أن اختيار اسم "الفلوجة" الصادم هو ذكاء إستراتيجي وتجاري، مشيرةً إلى أن تجربة دخول ممثلين من إنستغرام إلى عالم الدراما لأول مرة في تونس، كانت موفقةً.
شنّ الممثل مهذب الرميلي، هجوماً على العمل وعدّ الصور التي مررها المسلسل "خطيرةً"، حسب وصفه، و"استبلاهاً" و"إشباعاً في اللا وعي" و"تطبيعاً كلياً"، لما مرّ في هذا العمل من "انحرافات"، مشدداً على ضرورة تناول المواضيع التي أثارها "الفلوجة" لكن بصياغة فنية ودرامية.
لكن الكثير من المهتمين بالدراما التونسية لا يتفقون مع هذا الهجوم "الأخلاقوي" على العمل.
لم تبث القنوات التونسية هذا العام إلاّ عملين إلاّ أنهما أثارا نقاشا حادا في المجتمع وصل إلى الحكومة. ندرة الإنتاج والانتقادات والمطالب بالرقابة كانت ديدن الإنتاج الدرامي التونسي هذا العام
وصف الصحافي الثقافي إسكندر النوار، مسلسل الفلوجة، "بالفن كوجه للواقع"، لما عالجه من قضايا اجتماعية واقعية أهمها غربة الطفل والتلميذ في وسطه العائلي والمدرسي، مشيراً إلى التقارير التي تحدثت عن نسبة 80 في المئة من الآباء التونسيين الذين لا يعلمون شيئاً عن حياة أبنائهم وانتشار المخدرات في المؤسسات التربوية التونسية التي هي اليوم ساحة صراع بين النقابات وسلطات الإشراف والولي، بالإضافة إلى مسألة التباين في أساليب التعليم بين جيلَين من المربّين، كما عالج الوصم الاجتماعي للرجل المتدين بصورة غير نمطية لأول مرة في الدراما التونسية.
وأضاف النوار في تصريحه لرصيف22، أن المخرجة نجحت في عمل جميل مبني على حبكة وسيناريو متماسكين وشخصيات متوازنة في طرح فكرة جديدة وتوجه فككت به ذلك المقدّس .
من جهته، لم يستغرب الممثل الهادي الماجري، في حديثه إلى رصيف22، ما أثاره المسلسل من جدل خاصةً أن مخرجة العمل سوسن الجمني هي فنانة متمكنة تعي جيداً بوصلة أعمالها بلمستها الإبداعية ورؤاها وهذا ما ترجمته نسب المشاهدة العالية .
الشرميطي، أشارت في السياق نفسه إلى إعجابها بطريقة الطرح الخفيفة والمفهومة للقضايا التي عالجها العمل والتي تترجم حقيقة ما يحدث في الواقع، وأهمها الفساد في الوسط المدرسي مضيفةً أن المخرجة ربما لم تتمكن من قراءة أعمق للواقع، لكنها نجحت في تمرير رسائل مهمة.
"الجبل الأحمر"... مسلسل لم يكتمل
في سابقة تاريخية، أوقفت مؤسسة التلفزة الوطنية بث مسلسل "الجبل الأحمر"، بسبب عدد الحلقات المتفق عليها وعقود الإعلانات. قرارٌ شكّل صدمةً أثارت تساؤلات في أوساط المشاهدين، وسخطاً في صفوف الفنانين، خاصةً الذين أعلنوا مساندتهم لفريق العمل. استمد العمل درامي اسمه من أحد أكبر الأحياء الشعبية في قلب العاصمة التونسية، التي تعاني من التهميش وارتفاع نسب الفقر والبطالة والجريمة.
وأشارت الشرميطي، إلى أن ما يمرره المسلسل ينطبق على بقية الأحياء الشعبية في تونس والتي تعاني من التهميش والفقر وانتشار الجريمة كما سلّط الضوء على العلاقة التي تربط الفساد المالي بالفساد المعنوي، وفق المتحدثة التي نوّهت بالدماء الجديدة التي ضخها المخرج الشاب ربيع التكالي، في الكتابة والتصوير، ونجحت في إبراز الظواهر المتفشية في مثل هذه الأحياء الشعبية.
تعرّض مسلسل الجبل الأحمر لهجمة كبيرة من سكان هذا الحي، ترجمتها تفاعلات ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزهم مغني الراب التونسي رياض الورتاني المعروف باسم "أرمستا"
لكنَّ المسلسل تعرّض لهجمة كبيرة من سكان هذا الحي، ترجمتها تفاعلات ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزهم مغني الراب التونسي رياض الورتاني المعروف باسم "أرمستا"، الذي هاجم في تدوينة على حسابه الخاص مخرج مسلسل الجبل الأحمر ربيع التكالي، بسبب أغنية الجينيريك ورأى أن المسلسل فاشل ولا يشبه سكان "الجبل الأحمر".
وعبّر الفنان الشعبي سمير الوصيف، وهو أحد أبناء حي "الجبل الأحمر"، في تصريح إعلامي، عن استيائه من القضايا التي تناولها المسلسل قائلاً: "هذا العمل ما يمثلناش".
يرى الممثل الهادي الماجري، أنه ليس من واجب الدراما تجسيد الواقع كما هو، فالصناعة الدرامية ليست توثيقيةً بقدر ما هي رؤية مشتركة تجمع كل صنّاع العمل، عادّاً أن الجدل حول أي عمل هو أمر مطلوب.
من الملاحظ أن الحلقة الأخيرة من مسلسل "الفلوجة"، لاقت استحساناً واسعاً وإشادةً بالعمل مقارنةً بردود الأفعال التي تلقّتها الحلقة الأولى، والتي على إثر عرضها سارعت النقابة العامة للتعليم الثانوي في بيان لها إلى دعوة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري "هايكا"، إلى "اتخاذ ما يجب من إجراءات تجاه الإخلالات البيّنة التي قامت بها قناة الحوار التونسي بعرضها العمل من دون احترام ما تنص عليه القوانين الجاري العمل بها، حول التنصيص على توقيت البث والفئة العمرية الموجهة إليها هذه المضامين.
كما دعت النقابة العامة للتعليم الثانوي في بيانها، "المندوب العام للطفولة إلى التدخل الفوري لما تضمنه هذا العمل من مساس بحرمة الطفل الجسدية والنفسية، وما يمكن أن يترتب عن مضامينه من انعكاسات على سلوكه ومساره التعليمي وتكوينه النفسي والذهني"، حسب نص البيان.
"الفلوجة" على مكتب الرئيس
تطور الأمر بوصف وزير التربية محمد البوغديري، في تصريح إعلامي، مسلسل الفلوجة، "بالمهزلة"، مشيراً إلى أنه اتصل مباشرةً برئيسة الحكومة التي عرضت بدورها الموضوع على رئيس الجمهورية. ودعا إلى إيقاف بث العمل الذي عدّه إساءةً إلى التعليم التونسي في الوقت الذي تتجه الحكومة فيه إلى إعلان المجلس الأعلى للتربية، من أجل الإقلاع بالمستوى التربوي حسب تصريحه.
خلقت هذه التصريحات غضباً جماعياً، خاصةً لدى طبقة الفنانين والإعلاميين الذين رفضوا تصريحات الوزير، وعدّوها ركوباً على الأحداث ورقابةً فنيةً خاصةً بعد أن قدّم المحاميان صابر بن عمار وحسن عز الدين الدياب، شكوى أمام القضاء طالبا فيها بإيقاف بث المسلسل "نظراً إلى ما تضمنه من تصرفات خطيرة على المتابعين من أطفال ومراهقين ومربّين وأمنيين وتعمده ضرب الأخلاق والتربية من خلال تعمّد نشر البذاءة والتفسخ الأخلاقي الممنهج لإفساد عقلية شباب الغد والقضاء على القيم التربوية والثقافية والأخلاق الحميدة"، على حد وصفهما.
بالإجماع... رفض الرقابة على الأعمال الفنية
أشار الممثل الهادي الماجري، إلى أن صنّاع الدراما ليسوا فوق النقد، مضيفاً أن الدراما صُنعت للناس للتكلم فيها وتناولها، واستجابةً لمتطلبات المستهلك التونسي الذي يحتمل الاختلاف كظاهرة صحية، لكنه يرفض رفضاً قطعياً أي رقابة أو سلطة تمنع أو تحاول الرقابة على الأعمال الفنية بدواعٍ أخلاقية أو تربوية أو دينية حسب قوله.
ورأى الصحافي إسكندر النوار، الدعوات القضائية بالضرورة نوعاً من أنواع الرقابة المسبقة على كل منتوج فني واعتداءً على حرية التفكير وحرية الإنتاج الفني وهذا أمر مرفوض تماماً حسب تصريحه.
هل ستقتصر الدراما التونسية على الاستهلاك الرمضاني؟ وهل ستشهد تونس موسم هجرة للمخرجين الشباب نتيجة تصحر الموارد المالية والتضييق الرسمي؟
من جهته، عبر القاضي والعضو السابق في الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري "الهايكا" عمر الوسلاتي، عن رفضه لأي إيقاف أو رقابة لأي عمل فني، والذي لا يخضع بالضرورة إلا لرقابة الجمهور فقط مهما كان تصنيفه من قبل النقاد، داعياً صنّاع الدراما إلى تنبيه المشاهدين مسبقاً إلى وجود مشاهد تشكّل خطورةً على الأطفال في تصريح أدلى به لرصيف22.
شددت الصحافية الشرميطي، على ضرورة احترام الأعمال الفنية وعبّرت عن صدمتها لدعوة أهل السياسة والقانون القضاء إلى التدخل والتداول في الأعمال الفنية، مشيرةً إلى سعادتها بعد إعلان رفض القضية من قبل المحكمة.
عملان دراميان في شهر رمضان فقط في تونس أسالا من الحبر وأثاراً من الجدل الشعبي والرسمي الكثير الكثير مما لم تُثره الدراما المصرية والسورية بزخمهما العددي على مدى عام كامل، مما يطرح أسئلةً حول تطور مستقبل الإنتاج الدرامي في تونس، وإلى متى ستقتصر الدراما التونسية على الاستهلاك الرمضاني؟ وهل ستشهد تونس موسم هجرة للمخرجين الشباب نتيجة تصحر الموارد المالية والتضييق الرسمي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين