شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
اليتامى المقيمون في قلبي يطلّون من عينيّ كجثث

اليتامى المقيمون في قلبي يطلّون من عينيّ كجثث

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 27 أبريل 202310:24 ص

لا أتذكر العمر الحقيقي الذي أدركت فيه المعنى العميق ليُتمي، ربما لأنني كنت صغيرة جداً حين احتلّتني حقيقة أنني طفلة وحيدة، حزينة، مُعنّفة وغير آمنة، حينها فهمت من الأفلام التي تملأ شرائطها غرفة الجلوس أن كل هذا لا يحدث إلا للأيتام. لم يمت أبي مرّة واحدة كالجميع، مات بداخلي مرّات ومرّات حتى إنني أحياناً كنت أقتله بنفسي، ورغم أنه في النهاية غادر العالم كله لا حياتي فقط، مازال يموت من جديد، وأشعر بكآبة اليتم وصقيعه مع كل نهاية قصة حب ومع كل خذلان وإخفاق.

تمنيت للمرّة الأولى موته، حين تيتّمت زميلتي وأحاطها الجميع بالحب والعطف الأبوي، لم يتصوّر أحد أنني يتيمة أكثر منها، فأنا لم أفهم أبداً معنى الأمان في ظل أب. لحظتها انفصلت عن الواقع، أغمضت عينيّ وحلمت، وأنا في كامل يقظتي، بموته. ارتديت في خيالي الأسود وبكيته ومارست يُتمي كالأفلام، ثم حملت حقيبتي المتخيّلة وانتقلت إلى بيت آخر، صغير وبعيد، تدخله الشمس وتأمن على شرفته العصافير.
كان أبي شخصاً كارثياً، سامّاً، نرجسياً إلى أبعد مدى، مثقفاً بدرجة لا تليق مع مهنته التي أختار أن تكون حرّة لتضمن له مكانة السيد وسط فريق من العمال/ العبيد. انفصلت أمي عنه وأنا في العاشرة من عمري، فاكتسب يُتمي بعداً آخر. لا حاجة لي أن أغمض عيني كيلا أراه... بالفعل لن أراه ثانية.
لم يمت أبي مرّة واحدة كالجميع، مات بداخلي مرّات ومرّات حتى إنني أحياناً كنت أقتله بنفسي، ورغم أنه في النهاية غادر العالم كله لا حياتي فقط، مازال يموت من جديد، وأشعر بكآبة اليتم وصقيعه مع كل نهاية قصة حب ومع كل خذلان وإخفاق

المهين أنه هو من اختار ذلك، وكأن عدم رؤيته لي ستخلّصه من عبء الأبوة والمسؤولية المعنوية. نظر لي الأقارب بالفعل كما ينظرون للأيتام، لدرجة أن صغار العائلة كانوا يندهشون حين يعلمون أن لي أباً مثلهم، أو يرونه بشكل عابر في فيديوهات الأفراح القديمة.

صورة مع عمرو دياب

تزوّجت أمي رجل آخر، طيب ككل الحكايات السعيدة. أحببته بصدق وكنت أقول له كلمة لم أقلها لأبي البيولوجي كثيراً: بابا. لا توجد كلمة أثقل على لساني من هذه الكلمة. أكسبني وجوده أماناً حقيقياً، لم أخشَ شيئاً أبداً لأنه كان هناك. كان بطلاً، يمتلك كل شيء ويستطيع فعل أي شيء. فكّرت أن أغير اسمي في المستقبل كالفنانات وألحق اسمه بي، لكن قبل أن يأتي ذلك المستقبل تحوّلت اليد الأبوية الدافئة إلى قضيب منتصب، وانقلبت الحكاية السعيدة إلى حكاية تراجيدية بائسة، لا أحد يحب أن يحكيها، حتى نسى الجميع أنها قد حدثت يوماً، إلا أنا بالطبع، فالأيتام لا ينسون.

فجأة عاد أبي إلى حياتي بصوته المميّز عبر الهاتف، ربما ليثبت بحضوره الصوتي فشل أمي في اختيار زوج وأب بديل، وربما ليعاقبني لندائي شخصاً آخر "بابا". كان يكتب الشعر، وبمنتهى الاستحقاق قرأ لي ما كتبه، فقد كبرت قليلاً لأكون جمهوره الوحيد. في كل مكالمة كنت أنتظر قصيدة لي، لكنها لم تُكتب أبداً. شيء ما بداخلي كان يبحث له عن عذر، ثم أصبح يبحث لي عن عزاء، وكان عزائي أن النرجسيين لا يعطون شيئاً. للأسف، يذكرني الشعر بأشياء موجعة، يذكرني الشعر بيُتمي.
في إحدى المكالمات سألني عن صوره، فأخبرته أنها قد مُزّقت بالكامل. ارتبك صوته واتهم أمي بالجنون والغباء وعدم الأمانة، ثم قال بتحسر الفاقد" :دي مش مجرّد صور، دي ذكرياتي الحلوة كلها".
يذكرني الشعر بأشياء موجعة، يذكرني الشعر بيُتمي.

لا أفهم أي ذكريات يتقاسمها المرء مع غرباء، حتى لو كانوا المفضلين لديه من الفنانين ولاعبي كرة قدم. كيف استطاع أن يصف صوره معهم بأنها ذكريات حلوة رغم أنه لم يهتمّ أبداً لأنه لم يصنع أي ذكريات حلوة معي أنا، ابنته، فلم تجمعنا صورة واحدة؟

فور صدور حكم الطلاق مزّقت أمي كل صوره، واكتفت بالاحتفاظ بمجلة قديمة نشرت صورة زفافهما مع تهنئة وأمنية لم تتحقق: السعادة. التقطت جزءاً من صورة مفضلة له في الاستاد، كان وجه عمرو دياب و جواره جزء من كتف أبي بقميص منقوش أتذكره جيداً. خفت أن يتضرّر وجه عمرو الضاحك، فخبأته لفترة طويلة حتى ضاع في الطرقات بين منازل كثيرة تنقلت وتمزقت بينهم، وضاعت معه آخر ذكرى حلوة له، ليكمل عمره مثلي بلا ذكريات سعيدة.

هل تقاسم الاسم ذاته يكفي ليصبح الغرباء أخوة؟

حين تزوج أخرى وأنجب ثلاثة أولاد، تساءلت طويلاً هل أصبح لي أخوة حقاً؟ هل إنجاب رجل أحمل اسمه لآخرين يحملون الاسم ذاته يحقق رباط الأخوة؟
لهؤلاء الأطفال حظ جيد للغاية، فهم يتامى بالفعل بشكل يثير التعاطف لا الشفقة. منذ بدأوا يتابعونني على السوشال ميديا بفضول وأنا أخشى الكتابة، أخاف أن أشوّه يتمهم المثالي حين أحكي عن أبي المتخاذل، النرجسي، القاسي الذي كان يقدم أشكال الحب لأبناء الجميع عدا ابنته الوحيدة. وددت أن اسألهم إن كانوا يملكون صوراً معه؟ هل صار أباً بعدي وصنع ذكريات حلوة مع صغار جدد لم يمنحه القدر فرصة ليراهم يكبرون؟
في الحقيقة توصلت بضمير مطمئن للإجابة: لا. تقاسم الاسم والدم لا يصنعان أخوّة، فالأخوّة تعني تقاسم البيت والعمر والألم واليتم، ويتمنا مختلف تماماً.
حين تزوج أبي من امرأة أخرى وأنجب ثلاثة أولاد، تساءلت طويلاً:  هل أصبح لي أخوة حقاً؟ هل إنجاب رجل أحمل اسمه لآخرين يحملون الاسم ذاته يحقق رباط الأخوة؟

فاقد الشيء سيظل فاقده

حينما أحببت لأول مرة بعد تخرّجي من الجامعة، وتجاوزت مؤقتاً هلعي من الرجال، مات أبي بالفعل. أعطوني وثيقة رسمية لأصدّق. يومها طلبوا مني أن أسامحه، وأودعه، وأقبله قبل أن يغطوا وجهه للأبد. امتثلت للطلب دون تفكير، لم أكن قد قبّلته في حياته أبداً، شعرت بطعم مرّ أقسم أنه ملأ فمي لأشهر، وأزرقّت شفتاي لوقت طويل، وكأنها صُبغت بلون الموت الشاحب وسكنها طعمه الحزين.

يومها حكيت لذلك الشخص، فأقسم أن يبقى جواري للأبد، وتأثر للغاية بمأساتي، تأثر لدرجة أنه تركني بعد أيام. إلى الآن كلما أحبّ أتيتم، وكأن الحب فعل يُتم وحداد. إلى الآن كل الذين قبلت اقتحامهم لحياتي يشبهونه في ملامحه أو وداعته المخادعة أو اسمه أو أبوّته البيولوجية المريضة.
قرأت كثيراً وتحدثت إلى متخصصين لأتعلم كيف أتجاوز وأنجو من هذه السقطة المتكرّرة، رغم ذكائي العقلي والعاطفي في كل شيء آخر لا أنجو أبداً. أتورّط وأسقط، مرض لا شفاء له، يحتاج إلى معجزة. مرض أسميه سذاجة المراهنة على الإنسانية.
كثيراً ما تساءلت: هل من الطبيعي أن يمتلأ العالم بأشباه أبي؟ أشعر أنني من أبحث عنهم لأثبت أنه كالجميع، فأتقبّل قدري، وأتجاوزه. ليت الآباء كالأحبة نستطيع تجاوزهم، ليتني أستطيع أن أقابل أباً جديداً في الشارع أو المطعم أو السوبر ماركت، يعطيني اسمه ويشتري لي الشوكولاتة، ويلتقط معي الصور العشوائية المضحكة.
المعالجون حين يعرفون أنه قد مات بالفعل لا يجدون كلاماً جديداً، يكرّرون جملاً توعوية عن حب الذات والتقدم والنجاح واستحقاق الحب والسعادة. لا أحد يفهم أنني يتيمة أزلية، لذا لم يفرق معي موته الفعلي.
في لحظة دفنه، وقف أبناء أشقائه يبكون ويصرخون ويعانقون بعضهم البعض، ويحكون كم كان كريماً معهم وحنوناً. حاولت أن أتذكر له مشهداً أبوياً واحداً، ففشلت. كنت أبكي أكثر منهم، ولم يواسني أحد، تيتمت ألف مرة ولم يواسني أحد، حتى ظننت أنني غير مرئية.

الغريب أنه منذ مات بالفعل يأتيني في أحلامي كلما دخل حياتي رجل جديد، يحذرني بخوف وقلق أب حقيقي، لا النرجسي القديم. فأستيقظ مقرّرة أن أقع في حب هذا الرجل، في حب الشيطان نفسه إن كان هذا سيؤلمه في عالمه العاجز. أعلم أنه يراني ويسمعني، فأنظر إلى الحائط حيث من المفترض أن تكون له صورة معلقة ككل الآباء، وأناديه:

هذه أنا، ابنتك، أعانق كل يوم نسختي اليتيمة وننام على أمل الاستيقاظ في حياة أخرى، فيها أب مثالي يجيد العناق والدعم والانصات، وبيت آمن، وقلب غير محطم.

هذه أنا، ابنتك. أحتاج فقط إلى اعتذار أب ما.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard